فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} استئناف محض لعَدِّ مساويهم ويجوز أن يكون بيانيًا لجواب سؤال متعجب ناشئ عن سماع الأحوال التي وصفوا بها قبل في قوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} [البقرة: 9] فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله تعالى وتخادع قومًا عديدين وتطمع أن خداعها يتمشى عليهم ثم لا تشعر بأن ضرر الخداع لاحق بها لطائفة جديرة بأن يتعجب من أمرها المتعجب ويتساءل كيف خطر هذا بخواطرها فكان قوله: {في قلوبهم مرض} بيانًا وهو أن في قلوبهم خللًا تزايد إلى أن بلغ حد الأفن.
ولهذا قدم الظرف وهو {في قلوبهم} للاهتمام لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع فلما كان المسئول عنه هو متعلقها وأثرها كان هو المهتم به في الجواب.
وتنوين {مرض} للتعظيم.
وأطلق القلوب هنا على محل التفكير كما تقدم عند قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} [البقرة: 7].
والمرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجًا غير تام وبمقدار الخروج يشتد الألم فإن تم الخروج فهو الموت، وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة للأخلاق البشرية عروضًا يخرجها عن كمالها، وإطلاق المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب، وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى اعتداله هو الطب الحقيقي ومجازي كذلك قال علقمة بن عبدة الملقب بالفحل:
فإن تسألوني بالنساءِ فإنني ** خبير بأدواء النساء طَبيب

فذكر الأدواء والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها.
والمراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم.
ومعنى {فزادهم الله مرضًا} أن تلك الأخلاق الذميمة الناشئة عن النفاق والملازمة له كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد الأيام حتى تصير ملكات كما قال المعلوط القُرَيْعي:
ورَجِّ الفتى للخير ما إنْ رأيتَه ** على السِّنِّ خيرًا لا يزال يزيد

وكذلك القول في الشر ولذلك قيل: من لم يتحلم في الصغر لا يتحلم في الكبر، وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل:
فإنك سوف تحلم أو تَنَاهَى ** إذا ماشِبْتَ أو شاب الغراب

وإنما كان النفاق موجبًا لازدياد ما يقارنه من سيء الأخلاق لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد فالنفاق في كتمه مساوئ الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب.
اعلم أن هذه طباع تنشأ عن النفاق أو تقارنه من حيث هو ولاسيما النفاق في الدين فقد نبهنا الله تعالى لمذام ذلك تعليمًا وتربية فإن النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي: الكذب القولي، والكذب الفعلي وهو الخداع، ويقارن ذلك الخوف لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات والثقةِ بالنفس وبحسن السلوك، ثم إن كل خصلة من هاته الخصال الثلاث الذميمة توكّد هنَوات أخرى، فالكذب ينشأ عن شيء من البله لأن الكاذب يعتقد أن كذبه يتمشى عند الناس وهذا من قلة الذكاء لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله وخيرًا منه، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول، ولأن الكذب يعود فِكر صاحبه بالحقائق المحرَّفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما اعتقد ما اختلقه واقعًا، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأَفَن في العقل، وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ.
وأما نشأةُ العجب والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفهِ فظاهرة، وكذلك نشأة العزلة والجبن والتستر عن الخوف، وأما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد تبدأُ من شعورهم بخداعه، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة فإذا حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به، وتصدى هو للمكر بهم والفساد ليصل إلى مرامه، فرمته الناس عن قَوس واحدة واجتنى من ذلك أن يصير هُزأة للناس أجمعين.
وقد رأيتم أن الناشئ عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشئ أي تأصله وتمكنه وتولد مذمات أخرى عنه، ولعل تنكير {مرض} في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة إلى تنويععٍ أو تكثيرٍ، وتنكيرَ الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادةِ النكرةِ نكرةً.
وإنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله تعالى لما خلَق هذا التولُّد وأسبابه وكان أمرًا خفيًا نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكنًا من القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن.
فجملة: {فزادهم الله مرضًا} خبرية معطوفة على قوله: {في قلوبهم مرض} واقعة موقع الاستئناف للبيان، داخلةٌ في دفع التعجب، أي إن سبب توغلهم في الفساد ومحاولتهم ما لا يُنال لأن في قلوبهم مرضًا ولأنه مرض يتزايد مع الأيام تزايدًا مجعولًا من الله فلا طمع في زواله.
وقال بعض المفسرين: هي دعاءٌ عليهم كقول جبير بن الأضبط:
تَبَاعَد عني فَطْحَل إذْ دَعوتُه ** أَمِينَ فزادَ الله مَا بينَنا بُعدا

وهو تفسير غير حسن لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء ولأن تصدي القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه، ولأن الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون».
وقوله: {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} معطوف على قوله: {فزادهم الله مرضًا} إكمالًا للفائدة فكمل بهذا العطف بيانُ ما جره النفاق إليهم من فساد الحال في الدنيا والعذاب في الآخرة. اهـ.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

.قال الفخر:

أما قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال صاحب الكشاف: ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع، ووصف العذاب به فهو نحو قوله: تحية بينهم ضرب وجيع.
وهذا على طريقة قولهم: جد جده، والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد، أما قوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} ففيه أبحاث.
أحدها: أن الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به والجاحظ لا يسميه كذبًا إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفًا للخبر، وهكذا الآية حجة عليه.
وثانيها: أن قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حرامًا فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به.
وثالثها: في هذه الآية قراءتان.
إحداهما: {يَكْذِبُونَ} والمراد بكذبهم قوله: {بالله وباليوم الآخر}.
والثانية: {يكذبون} من كذبه الذي هو نقيض صدقه، ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل صدق. اهـ.

.قال الألوسي:

والأليم فعيل من الألم بمعنى مفعل كالسميع بمعنى مسمع، وعلى ما ذهب إليه الزمخشري من ألم الثلاثي كوجيع من وجع، وإسناده إلى العذاب مجاز على حد جد جده، ولم يثبت عنده فعيل بمعنى مفعل وجعل بديع السموات من باب الصفة المشبهة أي بديعة سمواته، وسميع في قوله:
أمن ريحانة الداعي السميع ** يؤرقني وأصحابي هجوع

بمعنى سامع أي أمن ريحانة داع من قلبي سامع لدعاء داعيها بدليل ما بعده فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها فعلى هذا يكون تفسيره بمؤلم اسم فاعل بيان لحاصل المعنى، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل شيء في القرآن أليم فهو موجع، وقد جمع للمنافقين نوعان من العذاب، عظيم وأليم، وذلك للتخصيص بالذكر هنا والاندراج مع الكفار هناك؛ قيل: وهذه الجملة معترضة لبيان وعيد النفاق والخداع والباء إما للسببية أو للبدلية وما إما مصدرية مؤولة بمصدر كان إن كان أو بمصدر متصيد من الخبر كالكذب وإما موصولة، واستظهره أبو البقاء بأن الضمير المقدر عائد على ما أورده في البحر بأنه لا يلزم أن يكون ثم مقدر بل من قرأ: {يكذبون} بالتخفيف وهم الكوفيون فالفعل غير متعد ومن قرأ بالتشديد كنافع وابن كثير وأبي عمر فالمفعول محذوف لفهم المعنى والتقدير بكونهم يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف للمبالغة في الكيف كما قالوا في بان الشيء وبين، وصدق وصدق وقد يكون التضعيف للزيادة في الكم كموتت الإبل ويحتمل أن يكون من كذب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه، وتلك حال المتحير وهي حال المنافق ففي الكلام حينئذٍ استعارة تبعية تمثيلية أو تبعية أو تمثيلية ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» والجار والمجرور صفة لعذاب لا لأليم كما قاله أبو البقاء لأن الأصل في الصفة أن لا توصف والكذب هو الإخبار عن الشيء النسبة أو الموضوع على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر عندنا، وفي الاعتقاد عند النظام، وفيهما عند الجاحظ، وكل مقصود محمود يمكن التواصل إليه بالصدق والكذب جميعًا فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا وواجب إن كان واجبًا، وصرح في الحديث بجوازه في ثلاث مواطن، في الحرب، وإصلاح ذات البين، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها ولا حصر ولهذا جاز تلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار فينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررًا فله الكذب وإن كان عكسه أو شك حرم عليه، فما قاله الإمام البيضاوي عفا الله تعالى عنه من أن الكذب حرام كله يوشك أن يكون مما سها فيه. اهـ.
فصل: أقوال العلماء في إمساك النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم:

.قال القرطبي:

اختلف العلماء في إمساك النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم على أربعة أقوال:
القول الأوّل: قال بعض العلماء: إنما لم يقتلهم لأنه لا يعلم حالهم أحد سواه.
وقد اتفق العلماء على بَكْرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإنما اختلفوا في سائر الأحكام.
قال ابن العربي: وهذا منتقض، فقد قُتِل بالمُجَذَّر بن زياد الحارثُ بن سُوَيد بن الصّامت؛ لأن المُجَذَّر قتل أباه سُويدًا يوم بُعاث؛ فأسلم الحارث وأغفله يوم أُحد فقتله؛ فأخبر به جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقتله به؛ لأن قتله كان غِيلة، وقَتْل الغِيلة حَدٌّ من حدود الله.
قلت: وهذه غفلة من هذا الإمام؛ لأنه إن ثبت الإجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر؛ لأن الإجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي؛ وعلى هذا فتكون تلك قضِيّةٌ في عَيْنٍ بوَحْيٍ، فلا يحتج بها أو منسوخة بالإجماع. والله أعلم.
القول الثاني: قال أصحاب الشافعي: إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يُسِرّ الكفر ويظهر الإيمان يُستتاب ولا يُقتل.
قال ابن العربي: وهذا وَهَمٌ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ولا نَقل ذلك أحد، ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق واجبة وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم معرضًا عنهم مع علمه بهم.
فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال: إن استتابة الزنديق جائزة قال قولًا لم يصح لأحد.
القول الثالث: إنما لم يقتلهم مصلحةً لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه؛ وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله لعمر: «معاذ الله أن يتحدّث الناس أني أقتل أصحابي» أخرجه البخاري ومسلم.
وقد كان يُعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألُّفًا؛ وهذا هو قول علمائنا وغيرهم.
قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك رحمه الله في كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين؛ نصّ على هذا محمد بن الجَهْم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون، واحتج بقوله تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} [الأحزاب: 60] إلى قوله: {وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 61].
قال قتادة: معناه إذا هم أعلنوا النفاق.
قال مالك رحمه الله: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزّندقة فينا اليوم؛ فيُقتل الزنديق إذا شُهِد عليه بها دون استتابة؛ وهو أحد قولي الشافعي.
قال مالك: وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبيّن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه؛ إذ لم يُشْهَد على المنافقين.
قال القاضي إسماعيل: لم يشهد على عبد اللَّه ابن أُبَيٍّ إلا زيد بن أَرْقَم وحده، ولا على الجُلاَس بن سويد إلا عُمَير بن سعد ربِيبه؛ ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل.
وقال الشافعيّ رحمه الله محتجًّا للقول الآخر: السُّنة فيمن شُهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه.
وبه قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وغيرهم.
قال الشافعي وأصحابه: وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يَجُبُّ ما قبله.
وقال الطبري: جعل الله تعالى الأحكام بين عباده على الظاهر، وتولّى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر؛ لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحدٍ كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووَكَل سرائرهم إلى الله.
وقد كذب الله ظاهرهم في قوله: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
قال ابن عطية: ينفصل المالكيون عما لزموه من هذه الآية بأنها لم تُعَيّن أشخاصهم فيها وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه بالنفاق؛ وبقي لكل واحد منهم أن يقول: لم أُرَد بها وما أنا إلا مؤمن، ولو عُيّن أحد لما جَبّ كذبه شيئًا.
قلت: هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَعْلَمهم أو كثيرًا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه؛ وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبيّ عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له: يا حذيفة هل أنا منهم؟ فيقول له: لا.
القول الرابع: وهو أن الله تعالى كان قد حفظ أصحاب نبيّه عليه السلام بكونه ثبتهم أن يفسِدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم فلم يكن في تَبْقيَتهم ضرر، وليس كذلك اليوم؛ لأنّا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا. اهـ.
تنبيه: عِلْم النبي صلى الله عليه وسلم بأعيان بعض المنافقين: