فصل: قال صاحب الميزان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كلام في إبليس وعمله:

.قال صاحب الميزان:

عاد موضوع إبليس موضوعا مبتذلا عندنا لا يعبأ به دون أن نذكره أحيانا ونلعنه أو نتعوذ بالله منه أو نقبح بعض أفكارنا بأنها من الأفكار الشيطانية ووساوسه ونزغاته دون أن نتدبر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسنا، وما له من عجيب التصرف والولاية في العالم الإنساني.
وكيف لا وهو يصاحب العالم الإنساني على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتى ينقضي أجله وينقرض بانطواء بساط الدنيا ثم يلازمه بعد الممات ثم يكون قرينه حتى يورده النار الخالدة، وهو مع الواحد منا كما هو مع غيره هو معه في علانيته وسره يجاريه كلما جرى حتى في أخفى خيال يتخيله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوى سريرته لا يحجبه عنه حاجب، ولا يغفل عنه بشغل شاغل.
وأما الباحثون منا فقد أهملوا البحث عن ذلك وبنوا على ما بنى عليه باحثوا الصدر الأول سالكين ما خطوا لهم من طريق البحث، وهي النظريات الساذجة التي تلوح للافهام العامية لاول مرة تلقوا الكلام الالهي ثم التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كل طائفة خاصة، والتحصن فيه ثم الدفاع عنه بأنواع الجدال، والاشتغال بإحصاء إشكالات القصة وتقرير السؤال والجواب بالوجه بعد الوجه.
لم خلق الله إبليس وهو يعلم من هو؟ لم أدخله في جمع الملائكة وليس منهم؟ لم أمره بالسجدة وهو يعلم أنه لا يأتمر؟ لم لم يوفقه للسجدة وأغواه؟ لم لم يهلكه حين لم يسجد؟ لم أنظره إلى يوم يبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم؟ لم مكنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجرى الدم؟ لم أيده بالجنود من خيل ورجل وسلطه على جميع ما للحياة الإنسانية به مساس؟ لم لم يظهره على حواس الإنسان ليحترز مساسه؟ لم لم يؤيد الإنسان بمثل ما أيده به؟ ولم لم يكتم أسرار خلقة آدم وبنيه من إبليس حتى لا يطمع في إغوائهم؟ وكيف جازت المشافهة بينه وبين الله سبحانه وهو أبعد الخليقة منه وأبغضهم إليه ولم يكن بنبي ولا ملك؟ فقيل بمعجزة وقيل: بإيجاد آثار تدل على المراد ولا دليل على شيء من ذلك.
ثم كيف دخل إبليس الجنة؟ وكيف جاز وقوع الوسوسة والكذب والمعصية هناك وهي مكان الطهارة والقدس؟ وكيف صدقه آدم وكان قوله مخالفا لخبر الله؟ وكيف طمع في الملك والخلود وذلك يخالف اعتقاد المعاد؟ وكيف جازت منه المعصية وهو نبي معصوم؟ وكيف قبلت توبته ولم يرد إلى مقامه الأول والتائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ وكيف؟ وكيف؟
وقد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقي واسترسالهم في الجدال إشكالا وجوابا أن ذهب الذاهب منهم إلى أن المراد بآدم هذا آدم النوعي والقصة تخييلية محضة واختار آخرون أن إبليس الذي يخبر عنه القرآن الكريم هو القوة الداعية إلى الشر من الإنسان!.
وذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح والشنائع إليه تعالى وأن جميع المعاصي من فعله، وأنه يخلق الشر والقبيح فيفسد ما يصلحه، وأن الحسن هو الذي أمر به والقبيح هو الذي نهى عنه، وآخرون: إلى أن آدم لم يكن نبيا، وآخرون: إلى أن الأنبياء غير معصومين مطلقا، وآخرون إلى أنهم غير معصومين قبل البعثة وقصة الجنة قبل بعثة آدم، وآخرون: إلى أن ذلك كله من الامتحان واختبار ولم يبينوا ما هو الملاك الحقيقي في هذا الامتحان الذي يضل به كثيرون ويهلك به الاكثرون، ولولا وجود ملاك يحسم مادة الاشكال لعادت الاشكالات بأجمعهم.
والذي يمنع نجاح السعي في هذه الابحاث ويختل به نتائجها هو أنهم لم يفرقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقية من جهاتها الاعتبارية، ولم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختل بذلك نظام البحث، وحكموا في ناحية التكوين غالبا الاصول الوضيعة الاعتبارية الحاكمة في التشريعيات والاجتماعيات.
والذي يجب تحريره وتنقيحه على الحر الباحث عن هذه الحقائق الدينية المرتبطة بجهات التكوين أن يحرر جهات: الأولى: أن وجود شيء من الأشياء التي يتعلق بها الخلق والايجاد في نفسه- أعني وجوده النفسي من غير إضافة- لا يكون إلا خيرا ولا يقع إلا حسنا، فلو فرض محالا تعلق الخلقة بما فرض شرا في نفسه عاد أمرا موجودا له آثار وجودية يبتدئ من الله ويرتزق برزقه ثم ينتهي إليه فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشر والقبح إلا أن يرتبط وجوده بغيره فيفسد نظاما عادلا في الوجود أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها وسعادتها، وهذه هي الاضافة المذكورة.
ولذلك كان من الواجب في الحكمة الإلهية أن ينتفع من هذه الموجودات المضرة الوجود بما يربو على مضرتها وذلك قوله تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} السجدة: 7، وقوله: {تبارك الله رب العالمين} الأعراف: 54، وقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} أسرى: 44.
والثانية: أن عالم الصنع والايجاد على كثرة أجزائه وسعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوله فإيجاد بعضه إنما هو بإيجاد الجميع، وإصلاح الجزء إنما هو بإصلاح الكل فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود وهو الذي صير العالم عالما ثم ارتباطها يستلزم استلزاما ضروريا في الحكمة الإلهية نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي والتضاد أو بالكمال والنقص والوجدان والفقدان والنيل والحرمان، ولولا ذلك عاد جميع الأشياء إلى شيء واحد لا تميز فيه ولا اختلاف ويبطل بذلك الوجود قال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} القمر: 50.
فلولا الشر والفساد والتعب والفقدان والنقص والضعف وأمثالها في هذا العالم لما كان للخير والصحة والراحة والوجدان والكمال والقوة مصداق، ولا عقل منها معنى لانا إنما ناخذ المعاني من مصاديقها.
ولولا الشقاء لم تكن سعادة، ولولا المعصية لم تتحقق طاعة، ولولا القبح والذم لم توجد حسن ولا مدح، ولولا العقاب لم يحصل ثواب، ولولا الدنيا لم تتكون آخره.
فالطاعة مثلا امتثال الأمر المولوي فلو لم يمكن عدم الامتثال الذي هو المعصية لكان الفعل ضروريا لازما، ومع لزوم الفعل لا معنى للامر المولوي لامتناع تحصيل الحاصل ومع عدم الأمر المولوي لا مصداق للطاعه ولا مفهوم لها كما عرفت.
ومع بطلان الطاعة والمعصية يبطل المدح والذم المتعلق بهما والثواب والعقاب والوعد والوعيد والإنذار والتبشير ثم الدين والشريعة والدعوة ثم النبوة والرسالة ثم الاجتماع والمدنية ثم الإنسانية ثم كل شئ، وعلى هذا القياس جميع الأمور المتقابلة في النظام، فافهم ذلك.
ومن هنا ينكشف لك أن وجود الشيطان الداعي إلى الشر والمعصية من أركان نظام العالم الإنساني الذي إنما يجرى على سنة الاختيار ويقصد سعادة النوع.
وهو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحا إلى ربه ليلاقيه، ومن المعلوم أن الصراط إنما يتعين بمتنه صراطا بالحاشية الخارجة عنه الحافة به فلولا الطرف لم يكن وسط فافهم ذلك وتذكر قوله تعالى: {قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم} الأعراف: 16، وقوله: {قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} الحجر: 42.
إذا تأملت في هاتين الجهتين ثم تدبرت آيات قصة السجدة وجدتها صورة منبئة عن الروابط الواقعية التي بين النوع الإنساني والملائكة وإبليس عبر عنها بالأمر والامتثال والاستكبار والطرد والرجم والسؤال والجواب، وأن جميع الاشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبر القصة حتى أن بعض من تنبه لوجه الصواب وأنها تشير إلى ما عليه طبائع الإنسان والملك والشيطان ذكر أن الأمر والنهي- يريد أمر إبليس بالسجدة ونهي آدم عن أكل الشجرة- تكوينيان فأفسد بذلك ما قد كان إصلحه، وذهل عن أن الأمر والنهي التكوينيين لا يقبلان التخلف والمخالفة، وقد خالف إبليس الأمر وخالف آدم النهي.
الثالثة: أن قصة الجنة مدلولها- على ما تقدم تفصيل القول فيها في سورة البقرة- ينبئ عن أن الله سبحانه خلق جنة برزخية سماوية، وأدخل آدم فيها قبل أن يستقر عليه الحياة الارضية، ويغشاه التكليف المولوي ليختبي بذلك الطباع الإنساني فيظهر به أن الإنسان لا يسعه إلا أن يعيش على الأرض، ويتربى في حجر الأمر والنهي فيستحق السعادة والجنة بالطاعة، وأن كان دون ذلك فدون ذلك، ولا يستطيع الإنسان أن يقف في موقف القرب وينزل في منزل السعادة إلا بقطع هذا الطريق.
وبذلك ينكشف أن لا شيء من الاشكالات التي أوردوها في قصة الجنة فلا الجنة كانت جنة الخلد التي لا يدخلها إلا ولي من أولياء الله تعالى دخولا لا خروج بعده إبدا، ولا الدار كانت دارا دنيوية يعاش فيها عيشة دنيوية يديرها التشريع ويحكم فيها الأمر والنهي المولويان بل كانت دارا يظهر فيها حكم السجية الإنسانية لا سجية آدم عليه السلام بما هو شخص آدم إذ لم يؤمر بالسجدة له ولا أدخل الجنة إلا لأنه إنسان كما تقدم بيانه.
رجعنا إلى أول الكلام: لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرير الذي سماه إبليس إلا يسيرا وهو قوله تعالى: {كان من الجن ففسق عن أمر ربه} الكهف: 50، وما حكاه عنه في كلامه: {خلقتني من نار} فبين أن بدء خلقته كان من نار من سنخ الجن وإما ما الذي آل إليه أمره فلم يذكره صريحا كما أنه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصل القول في خلقة الإنسان.
نعم هناك آيات واصفة لصنعه وعمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب قال تعالى حكايه عنه: {لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} الأعراف: 17.
فأخبر أنه يتصرف فيهم من جهة العواطف النفسانية من خوف ورجاء وأمنية وأمل وشهوة وغضب ثم في أفكارهم وإرادتهم المنبعثة منها.
كما يقارنه في المعنى قوله: {قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض} الحجر: 39، أي لازينن لهم الأمور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف وزينات مهيأة من تعلق العواطف الداعية نحو اتباعها ولاغوينهم بذلك كالزنا مثلا يتصوره الإنسان وتزينه في نظره الشهوة ويضعف بقوتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه فيصدق به فيقترفه، ونظير ذلك قوله: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} النساء: 120، وقوله: {فزين لهم الشيطان أعمالهم} النحل: 63.
كل ذلك- كما ترى- يدل على أن ميدان عمله هو الإدراك الإنساني ووسيلة عمله العواطف والاحساسات الداخلة فهو الذي يلقي هذه الاوهام الكاذبة والافكار الباطلة في النفس الإنسانية كما يدل عليه قوله: {الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس} الناس: 5.
لكن الإنسان مع ذلك لا يشك في أن هذه الافكار والاوهام المسماة وساوس شيطانية أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يلقيها إليه أو يتسبب إلى ذلك بشئ كما في سائر أفكاره وآرائه التي لا تتعلق بعمل وغيره كقولنا: الواحد نصف الاثنين والأربعة زوج وأمثال ذلك.
فالانسان هو الذي يوجد هذه الافكار والاوهام في نفسه كما أن الشيطان هو الذي يلقيها إليه ويخطرها بباله من غير تزاحم، ولو كان تسببه فيها نظير التسببات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبرا أو حكما أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يجامع استقلالنا في التفكير، ولا نتفت نسبة الفعل الاختياري إلينا لكون العلم والترجيح والإرادة له لا لنا، ولم يترتب على الفعل لوم ولا ذم ولا غيره، وقد نسبه الشيطان نفسه إلى الإنسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} إبراهيم: 22، فنسب الفعل والظلم واللوم إليهم وسلبها عن نفسه، ونفى عن نفسه كل سلطان إلا السلطان على الدعوة والوعد الكاذب كما قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} الحجر: 42 فنفى سبحانه سلطانه إلا في ظرف الاتباع ونظيره قوله تعالى: {قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد} ق: 27.