فصل: بحث عقلي وقرآني مختلط:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبالجملة فإن تصرفه في إدراك الإنسان تصرف طولي لا ينافي قيامه بالانسان وانتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله لا عرضي ينافي ذلك.
فله أن يتصرف في الادراك الإنساني بما يتعلق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور والتزيين فيضع الباطل مكان الحق ويظهره في صورته فلا يرتبط الإنسان بشئ إلا من وجهه الباطل الذي يغره ويصرفه عن الحق، وهذا هو الاستقلال الذي يراه الإنسان لنفسه أولا ثم لسائر الأسباب التي يرتبط بها في حياته فيحجبه ذلك عن الحق ويلهوه عن الحياة الحقيقية كما تقدم استفاده ذلك من قوله المحكي: {فبما أغويتني لاقعدن لهم} الأعراف: 16، وقوله: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض} الحجر: 39.
ويؤدي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحق وهو الأصل الذي ينتهي ويحلل إليه كل ذنب قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الانس والجن لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} الأعراف: 179.
فاستقلال الإنسان بنفسه وغفلته عن ربه وجميع ما يتفرع عليه من سيئ الاعتقاد وردئ الاوهام والافكار التي يرتضع عنها كل شرك وظلم إنما هي من تصرف الشيطان في عين إن الإنسان يخيل إليه أنه هو الموجد لها القائم بها لما يراه من استقلال نفسه فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاد ولا عمل إلا صبغه بها.
وهذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان وتدبيره وتصرفه من غير أن يتنبه لشئ أو يشعر بشئ وراء نفسه قال تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} الأعراف: 27.
وولاية الشيطان على الإنسان في المعاصي والمظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات والقربات، قال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياءكم في الحياة الدنيا} حم السجدة: 31، والله من ورائهم محيط وهو الولي لا ولي سواه قال تعالى: {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} السجدة: 4.
وهذا هو الاحتناك أي الالجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: {قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} الإسراء: 64، أي لألجمنهم فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها يطيعونني فيما آمرهم ويتوجهون إلى حيث أشير لهم إليه من غير أي عصيان وجماح.
ويظهر من الآيات أن له جندا يعينونه فيما يأمر به ويساعدونه على ما يريد وهو القبيل الذي ذكر في الآية السابقة: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} وهؤلاء وإن بلغوا من كثرة العدد وتفنن العمل ما بلغوا فإنما صنعهم صنع نفس إبليس ووسوستهم نفس وسوسته كما يدل عليه قوله: {لاغوينهم أجمعين} الحجر: 39، وغيره مما حكته الآيات نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الأعمال فتنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم في ما يريده، قال تعالى في ملك الموت: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} السجدة: 11، ثم قال: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} الأنعام: 61 إلى غير ذلك.
وتدل الآية: {الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} الناس: 6 على أن في جنده اختلافا من حيث كون بعضهم من الجنة وبعضهم من الانس ويدل قوله: {أ فتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} الكهف: 50، أن له ذريه هم من أعوانه وجنوده لكن لم يفصل كيفية إنتشاء ذريته منه.
كما أن هناك نوعا آخر من الاختلاف يدل عليه قوله: {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك} في الآية المتقدمة، وهو الاختلاف من جهة الشدة والضعف وسرعة العمل وبطؤه فإن الفارق بين الخيل والرجل هو السرعة في اللحوق والادراك وعدمها.
وهناك نوع آخر من الاختلاف في العمل، وهو الاجتماع عليه والانفراد كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون} المؤمنون: 98 ولعل قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} الشعراء: 223 من هذا الباب.
فملخص البحث: أن إبليس لعنه الله موجود مخلوق ذو شعور وإرادة يدعو إلى الشر ويسوق إلى المعصية كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميز منهم إلا بعد خلق الإنسان وحينئذ تميز منهم ووقع في جانب الشر والفساد، وإليه يستند نوعا من الاستناد انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم وميله إلى جانب الشقاء والضلال، ووقوعه في المعصية والباطل كما أن الملك موجود مخلوق ذو إدراك وإرادة إليه يستند نوعا من الاستناد اهتداء الإنسان إلى غاية السعادة ومنزل الكمال والقرب، وإن لابليس أعوانا من الجن والانس وذرية مختلفي الأنواع يجرون بأمره إياهم أن يتصرفوا في جميع ما يرتبط به الإنسان من الدنيا وما فيها بإظهار الباطل في صورة الحق، وتزيين القبيح في صورة الحسن الجميل.
وهم يتصرفون في قلب الإنسان وفي بدنه وفي سائر شؤون الحياة الدنيا من أموال وبنين وغير ذلك بتصرفات مختلفة اجتماعا وانفرادا، وسرعة وبطؤا، وبلا واسطة ومع الواسطة والواسطه ربما كانت خيرا أو شرا وطاعة أو معصية.
ولا يشعر الإنسان في شيء من ذلك بهم ولا أعمالهم بل لا يشعر إلا بنفسه ولا يقع بصره إلا بعمله فلا أفعالهم مزاحمة لاعمال الإنسان ولا ذواتهم وأعيانهم في عرض وجود الإنسان غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجن وأنهم مخلوقون من النار، وكان أول وجوده وآخره مختلفان.

.بحث عقلي وقرآني مختلط:

قال في روح المعاني: وقد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الاربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس بعد هذه الحادثة، وقد ذكرت في التوراة، وهي أن اللعين قال للملائكة: إني أسلم أن لي إلها هو خالقي وموجدي لكن لي على حكمه أسئلة: الأول: ما الحكمة في الخلق لاسيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار؟.
الثاني: ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟.
الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم؟.
الرابع: لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر؟.
الخامس: أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم؟.
السادس: لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلنى ومعلوم أنه لو كان العالم خاليا من الشر لكان ذلك خيرا؟.
قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء: يا إبليس أنت ما عرفتني، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسال عما أفعل، انتهى.
ثم قال الألوسي: قال الإمام- الرازي- إنه لو اجتمع الاولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا، وكان الكل لازما.
ثم قال الألوسي: ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال: قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا أن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا، فقيل له: ما هو فقال: قولي:
لك جسمي تعله ** فدمي لن تطله

فابتدر أبو فراس قائلا:
قال إن كنت مالكا ** فلي الأمر كله

انتهى أقول: ما مر من البيان في أول الكلام السابق يصلح لدفع هذه الشبهات الستة عن آخرها ويكفي مؤنتها من غير أن يحتاج إلى اجتماع الأولين والآخرين ثم لا ينفعهم اجتماعهم على ما ادعاه الإمام فليست بذاك الذي يحسب، ولتوضيح الأمر نقول: أما الشبهة الأولى: فالمراد بالحكمة- وهي جهة الخير والصلاح الذي يدعو الفاعل إلى الفعل في الخلق إما الحكمة في مطلق الخلق وهو ما سوى الله سبحانه من العالم، وإما الحكمة في خلق الإنسان خاصة.
فإن كان سؤالا عن الحكمة في مطلق الخلق والايجاد فمن المبرهن عليه أنه فاعل تام لمجموع ما سواه غير مفتقر في ذلك إلى متمم يتمم فاعليته ويصلح له ألوهيته فهو مبدء لما سواه منبع لكل خير ورحمة بذاته، واقتضاء المبدء لما هو مبدء له ضروري، والسؤال عن الضروري لغو كما أن ملكة الجود تقتضي بذاتها أن ينتشر أثرها وتظهر بركاتها لا لاستدعاء أمر آخر وراء نفسها يوجب لها ظهور الاثر وإلا لم تكن ملكة، فظهور أثرها ضروري لها وهو أن يتنعم بها كل مستحق على حسب استعداده واستحقاقه، واختلاف المستحقين في النيل بحسب اختلاف استحقاقهم أمر عائد إليهم لا إلى الملكة التي هي مبدء الخير.
وأما حديث الحكمة في الخلق والايجاد بمعنى الغاية وجهة الخير المقصودة للفاعل في فعله فإنما يحكم العقل بوجوب الغاية الزائدة على الفاعل في الفاعل الناقص الذي يستكمل بفعله ويكتسب به تماما وكمالا، وأما الفاعل الذي عنده كل خير وكمال فغايته نفس ذاته من غير حاجة إلى غاية زائدة كما عرفت في مثال ملكة الجود، نعم يترتب على فعله فوائد ومنافع كثيرة لا تحصى ونعم إلهية لا تنقطع وهي غير مقصودة إلا ثانيا وبالعرض، هذا في أصل الايجاد.
وإن كان السؤال عن الحكمة في خلق الإنسان كما يشعر به قوله بعد: لاسيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار فالحكمه بمعنى غاية الفاعل والفائدة العائدة إليه غير موجودة لما عرفت أنه تعالى غني بذاته لا يفتقر إلى شيء مما سواه حتى يتم أو يكمل به، وأما الحكمة بمعنى الغاية الكمالية التي ينتمي إليها الفعل وتحرز فائدته فهو أن يخلق من المادة الارضية الخسيسة تركيب خاص ينتهي بسلوكه في مسلك الكمال إلى جوهر علوي شريف كريم يفوق بكمال وجوده كل موجود سواه، ويتقرب إلى ربه تقربا كماليا لا يناله شيء غيره فهذه غاية النوعية الإنسانية.
غير أن من المعلوم أن مركبا أرضيا مؤلفا من الاضداد واقعا في عالم التزاحم والتنافي محفوفا بعلل وأسباب موافقة ومخالفة لا ينجو منها بكله، ولا يخلص من إفسادها بآثارها المنافية جميع أفراده فلا محالة لا يفوز بالسعادة المطلوبة منه إلا بعض أفراده، ولا ينجح في سلوكه نحو الكمال إلا شطر من مصاديقه لا جميعها.