فصل: كلام نفيس لابن القيم في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لم يحصل استيفاء من الأكل والاستمتاع به للنفس حتى ظهرت تباشيرُ العقاب؛ وتَنَغُّصِ الحال، وكذا صفة مَنْ آثر على الحق سبحانه شيئًا يبقيه عنه، فلا يكون له بما آثر استمتاع. وكذلك مَنْ ادَّخَر عن الله سبحانه نَفْسَه أو مالَه أو شيئًا بوجهٍ من الوجوه- لا يبارك الله فِيه، قال تعالى في صفة الأعداء: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج: 11].
ويقال مَّا بَدَتْ سوأتهما احتالا في السَّتْرِ، وطَفِقَا يخصفان عليهما من ورق الجنة فبعدما كانت كسوتهما حُلَلَ الجنة ظَّلا يستتران بورق الجنة، كما قيل:
لله دَرُّهمُ مِنْ فِتْيَةٍ بكروا ** مثل الملوك وراحوا كالمساكين

وأنشدوا:
لا تعجبوا لمذلتي فأنا الذي ** عَبَثَ الزمان بمهجتي فأذَلَّها

ثم إن آدم عليه السلام لم يساعده الإمكان في الاستتار بالورق إذ كانت الأشجار أجمع كلُّها تتطاول وتأبى أن يأخذ آدم عليه السلام شيئًا من أوراقها. وقيل ذلك كان لا يلاحِظ الجنة فكان يتيه على الكون بأسره ولكنه صار كما يقال:
وكانت- على الأيام- نفسي عزيزة ** فلمَّا رأت صبري على الذلِّ ذلَّتِ

ولمّا أُخْرِج آدمُ من الجنة وأُسْكِن الأرض كلّف العملَ والسعيَ والزرع والغرس، وكان لا يتجدد له حال إلا تجدّد بكاؤه، وجبريل عليه السلام يأتيه ويقول: أهذا الذي قيل لك: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى} [طه: 118].
فَلَمْ تعرِف قدره. فَذُقْ جزايا خِلافِك فكان يسكن عن الجزع. ويقال بل الحكم بالخنوع كما قيل:
وجاشَتْ إليَّ النفسُ أوَّلَ مرةٍ ** وزيدت على مكروهها فاستقرتِ

قوله جلّ ذكره: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَاداهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةَ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.
كانت لا تصل يدُه إلى الأوراق حين أراد قطافها ليخصفها على نفسه، فلو لم تصل يده إلى تلك الشجرة- التي هي ضجرة المحنة- لكان ذلك عنايةً بشأنه، ولكن وصلت يده إلى شجرة المحنة، تتمةً للبلاء والفتنة، ولو لم تصل يده إلى شجرة الستر- إبلاغًا في القهر- لَمَا خالف الأمر، ولَمَا حَصَلَ ما حَصَلَ.
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}: فكان ما دَاخَلَهما من الخجل أشدَّ من كل عقوبة؛ لأنهما لو كانا من الغيبة عند سماع النداء فإن الحضور يوجب الهيبة، فلما ناداهما بالعتاب حَلَّ بهما من الخجل ما حلّ، وفي معناه أنشدوا:
واخجلتا من وقوفي وَسْطَ دَارِهمُ ** إذ قال لي مغضبا: من أنت يا رجل؟

. اهـ.

.كلام نفيس لابن القيم في الآيتين:

قال عليه الرحمة عن كيد الشيطان للإنسان:
وأول كيده ومكره: أنه كاد الأبوين بالأيمان الكاذبة: أنه ناصح لهما، وأنه إنما يريد خلودهما في الجنة، قال تعالى: {فَوَسْوسَ لَهُمَا الشّيْطَانُ لِيُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَانَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشّجرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الخالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إنِّى لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20- 22].
فالوسوسة: حديث النفس والصوت الخفى، وبه سمى صوت الحلى وسواسا، ورجل موسوس بكسر الواو، ولا يفتح فإنه لحن، وإنما قيل له: موسوس؛ لأن نفسه توسوس إليه، قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
وعلم عدو الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما، فإنها معصية، والمعصية تهتك ستر ما بين الله وبين العبد، فلما عصيا انهتك ذلك الستر فبدت لهما سوآتهما فالمعصية تبدى السوأة الباطنة والظاهرة، ولهذا رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في رؤياه الزناة والزوانى عراة بادية سوآتهم، وهكذا إذا رؤى الرجل أو المرأة في منامه مكشوف السوأة يدل على فساد في دينه، قال الشاعر:
إِنِّى كَأَنِّى أَرَى مَنْ لا حَيَاءَ لَهُ ** وَلا أمَانَةَ وَسْطَ النَّاسِ عُرْيَانَا

فإن الله سبحانه أنزل لباسين: لباسا ظاهرا يوارى العورة ويسترها، ولباسا باطنا من التقوى، يُجَمِّل العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة، كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها.
ثم قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشجَرَةِ إِلا أنْ تَكُونَا مَلَكْين} [الأعراف: 20].
أى: إلا كراهة أن تكونا ملكين، وكراهة أن تخلدا في الجنة، ومن هاهنا دخل عليهما لما عرف أنهما يريدان الخلود فيها، وهذا باب كيده الأعظم الذي يدخل منه على ابن آدم، فإنه يجرى منه مجرى الدم حتى يصادف نفسه ويخالطها، ويسألها عما تحبه وتؤثره، فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب، وكذلك علم إخوانه وأولياءه من الإنس إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضا أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوونه، فإنه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه، ومن رام الدخول من غيره فالباب عليه مسدود، وهو عن طريق مقصده مصدود.
فشام عدو الله الأبوين، فأحسَّ منهما إيناسًا وركونًا إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب، فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.
وكان عبد الله بن عباس يقرؤها ملكين بكسر اللام، ويقول: لم يطمعا أن يكونا من الملائكة، ولكن استشرفا أن يكونا ملكين فأتاهما من جهة الملك، ويدل على هذه القراءة قوله في الآية الأخرى: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120].
وأما على القراءة المشهورة فيقال: كيف أطمع عدو الله آدم عليه السلام أن يكون بأكله من الشجرة من الملائكة، وهو يرى الملائكة لا تأكل ولا تشرب؟ وكان آدم عليه السلام أعلم بالله وبنفسه وبالملائكة من أن يطمع أن يكون منهم بأكله، ولاسيما مما نهاه الله عز وجل عنه؟، فالجواب: أن آدم وحواء عليهما السلام لم يطمعا في ذلك أصلًا، وإنما كذبهما عدو الله وغرَّهما، وخدعهما بأن سمى تلك الشجرة شجرة الخلد، فهذا أول المكر والكيد ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر: أم الأفراح، وسموا أخاها بلقيمة الراحة، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية، وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسموا أبلغ الكفر، وهو جحد صفات الرب، تنزيها، وسموا مجالس الفسوق مجالس الطيبة. فلما سماها شجرة الخلد قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في الجنة ولا تموتا فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون، ولم يكن آدم عليه السلام قد علم أنه يموت بعد، واشتهى الخلود في الجنة، وحصلت الشبهة من قول العدو وإقسامه بالله جهد أيمانه، أنه ناصح لهما، فاجتمعت الشبهة والشهوة، وساعده القدر، ولما فرغ الله سبحانه من تقديره فأخذتهما سنة الغَفْلة، واستيقظ لهما العدو، كما قيل:
وَاسْتَيْقَظُوا وَأَرَادَ اللهُ غَفْلَتَهُمْ ** لِيَنْفُذَ الْقَدَرُ المَحْتُومُ في الأزَلِ

إلا أن هذا الجواب يعترض عليه قوله: {أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20]. فيقال: الماكر المخادع لابد أن يكون فيما يمكر به ويكيد من التناقض والباطل ما يدل على مكره وكيده، ولا حاجة بنا إلى تصحيح كلام عدو الله، والاعتذار عنه، وإنما يعتذر عن الأب في كون ذلك راج عليه وولج سمعه، فهو لم يجزم لهما بأنهما إن أكلا منها صارا ملكين، وإنما ردد الأمر بين أمرين: أحدهما ممتنع، والآخر: ممكن، وهذا من أبلغ أنواع الكيد والمكر، ولهذا لما أطمعه في الأمر الممكن جزم له به ولم يردده.
فقال: {يَا آدَمُ هَلْ أدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يْبلَى} [طه: 120].
فلم يدخل أداة الشك هاهنا كما أدخلها في قوله: {إلا أَنْ تَكونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] فتأمله، ثم قال: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّى لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21].
فتضمن هذا الخبر أنواعا من التأكيد:
أحدها: تأكيده بالقسم.
الثانى: تأكيده بإنّ.
الثالث: تقديم المعمول على العامل، إيذانا بالاختصاص. أي نصيحتى مختصة بكما، وفائدتها إليكما لا إلى.
الرابع: إتيانه باسم الفاعل الدال على الثبوت واللزوم، دون الفعل الدال على التجدد: أي النصح صفتى وسجيتى، ليس أمرا عارضا لى.
الخامس: إتيانه بلام التأكيد في جواب القسم.
السادس: أنه صور نفسه لهما ناصحا من جملة الناصحين، فكأنه قال لهما: الناصحون لكما في ذلك كثير، وأنا واحد منهم، كما تقول لمن تأمره بشىء: كل أحد معى على هذا وأنا من جملة من يشير عليك به.
سَعَى نَحْوَهَا حَتَّى تجَاوَزَ حَدَّهُ ** وَكَثَّرَ فَارْتَابَتْ، وَلَوْ شَاءَ قَلَّلا

وورّث عدو الله هذا المكر لأوليائه وحزبه عند خداعهم للمؤمنين كما كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا جاءوه: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} [المنافقون: 1]. فأكدوا خبرهم بالشهادة وبإن وبلام التأكيد، وكذلك قوله سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56].
ثم قال تعالى: {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22].
قال أبو عبيدة: خذلهما وخلاهما، من تدلية الدلو، وهو إرسالها في البئر.
وذكر الأزهرى لهذه اللفظة أصلين: أحدهما قال: أصله الرجل العطشان يتدلى في البئر ليروى من الماء فلا يجد فيها ماء فيكون قد تدلى فيها بالغرور. فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدى نفعا، فيقال: دلاه، إذا أطمعه، ومنه قول أبى جندب الهذلى:
أَحُصُّ فَلاَ أُجِيرُ وَمَنْ أُجِرْهُ ** فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بِالْغُرُورِ

أحص: أي أقطع.
الثانى: {فدلاهما بغرور}، أي جرأهما على أكل الشجرة، وأصله: دللهما من الدلال والدالة وهى الجراءة، قال شمر: يقال: ما دَلَّكَ على أي ما جرأك على، وأنشد لقيس بن زهير:
أَظنُّ الْحِلْمَ دَلَّ عَلَىَّ قَوْمِى ** وَقَدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الْحَلِيمُ

قلت: أصل التدلية في اللغة الإرسال والتعليق. يقال: دلى الشيء في مهواة، إذا أرسله بتعليق. وتدلى الشيء بنفسه. ومنه قوله تعالى: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19].
قال عامة أهل اللغة: يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر. ودلاها بالتخفيف إذا نزعها من البئر، فأدلى دلوه يدليه إدلاء إذا أرسلها، ودلاها يدلوها دلوا، إذا نزعها وأخرجها، ومنه الإدلاء، وهو التوصل إلى الرجل برحم منه، ويشاركه في الاشتقاق الأكبر الدلالة وهى التوصل إلى الشيء بإبانته وكشفه، ومنه الدل وهو ما يدل على العبد من أفعاله، وكان عبد الله بن مسعود يتشبه برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في هديه ودله وسمته، فالهدى الطريقة التي عليها العبد، من أخلاقه وأقواله وأعماله، والدل ما يدل من ظاهره على باطنه، والسمت هيأته ووقاره ورزانته.
والمقصود: ذكر كيد عدو الله ومكره بالأبوين.
قال مطرف بن عبد الله: قال لهما إنى خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعانى أرشدكما وحلف لهما، وإنما يخدع المؤمن بالله، قال قتادة: وكان بعض أهل العلم يقول من خادعنا بالله خدعنا، فالمؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم، وفى الصحيح: أن عيسى بن مريم عليه السلام رأى رجلا يسرق، فقال: سرقت؟ فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو، فقال المسيح: آمنت بالله وكذبت بصرى.
وقد تأوله بعضهم على أنه لما حلف له جوز أن يكون قد أخذ من ماله، فظنه المسيح سرقة، وهذا تكلف، وإنما كان الله سبحانه وتعالى في قلب المسيح عليه السلام أجل وأعظم من أن يحلف به أحد كاذبا، فلما حلف له السارق دار الأمر بين تهمته وتهمة بصره، فرد التهمة إلى بصره لما اجتهد له في اليمين بالله، كما ظن آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له بالله عز وجل، وقال: ما ظننت أحدا يحلف بالله تعالى كاذبا. اهـ.