فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}
عطف على جواب لَمَّا، فهو ممّا حصل عند ذَوق الشّجرة، وقد رتب الإخبار عن الأمور الحاصلة عند ذوق الشّجرة على حسب ترتيب حصولها في الوجود.
فإنّهما بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان.
وأعقب ذلك نداءُ الله إيّاهما.
وهذا أصل في ترتيب الجمل في صناعة الإنشاء، إلاّ إذا اقتضى المقام العدول عن ذلك، ونظير هذا الترتيب ما في قوله تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا وقال هذا يوم عصيب} [هود: 77] وقد بيّنته في كتاب أصول الإنشاء والخطابة ولم أعلم أنّي سُبقت إلى الاهتداء إليه.
وقد تأخّر نداء الربّ إياهما إلى أن بدت لهما سوآتهما، وتحيَّلا لستر عوراتهما ليكون للتّوبيخ وقْعٌ مكين من نفوسهما، حين يقع بعد أن تظهر لهما مفاسد عصيانهما، فيعلما أنّ الخير في طاعة الله، وأنّ في عصيانه ضرًّا.
والنّداء حقيقته ارتفاع الصّوت وهو مشتق من النَّدى بفتح النّون والقصر وهو بُعد الصّوت، قال مدثار بن شيبان النمري:
فَقُلتُ ادعِي وأدْعُوا إنّ أندى ** لِصَوْتتٍ أن يُنادِيَ داعيان

وهو مجاز مشهور في الكلام الذي يراد به طلب إقبال أحد إليك، وله حروف معروفة في العربيّة: تدلّ على طلب الإقبال، وقد شاع إطلاق النّداء على هذا حتّى صار من الحقيقة، وتفرّع عنه طلب الإصغاء وإقبال الذّهن من القريب منك، وهو إقبال مجازي.
{وناداهما ربهما} مستعملٌ في المعنى المشهور: وهو طلب الإقبال، على أنّ الإقبال مجازي لا محالة فيكون كقوله تعالى: {وزكرياء إذا نادى ربه} [الأنبياء: 89] وهو كثير في الكلام.
ويجوز أن يكون مستعملًا في الكلام بصوت مرتفع كقوله تعالى: {كمَثَل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً} [البقرة: 171] وقوله: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها} [الأعراف: 43] وقول بشّار:
نَادَيْت إنّ الحبّ أشْعَرني ** قَتْلًا وما أحدثتُ من ذَنْب

ورفع الصّوت يكون لأغراض، ومحمله هنا على أنّه صوت غضب وتوبيخ.
وظاهر إسناد النّداء إلى الله أنّ الله ناداهما بكلام بدون واسطة مَلك مرسل، مثللِ الكلام الذي كلّم الله به موسى، وهذا واقع قبل الهبوط إلى الأرض، فلا ينافي ما ورد من أن موسى هو أوّل نبيء كلّمه الله تعالى بلا واسطة، ويجوز أن يكون نداءُ آدم بواسطة أحد الملائكة.
وجملة: {ألم أنهاكما} في موضع البيان لجملة {ناداهما}، ولهذا فصلت الجملة عن التي قبلها.
والاستفهام في {ألم أنهاكما} للتّقرير والتّوبيخ، وأُولِيَ حرفَ النّفي زيادة في التّقرير، لأنّ نهي الله إياهما واقع فانتفاؤه منتفا، فإذا أدخلت أداة التّقرير وأقرّ المقرَّر بضد النّفي كان إقرارُه أقوى في المؤاخذة بموجَبه، لأنّه قد هُييء له سبيل الإنكار، لو كان يستطيع إنكارًا، كما تقدّم عند قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} الآية في سورة الأنعام (130)، ولذلك اعترفا بأنّهما ظلما أنفسهما.
وعطف جملة: {وأقل لكما} على جملة: {أنهكما} للمبالغة في التّوبيخ، لأنّ النّهي كان مشفوعًا بالتّحذير من الشّيطان الذي هو المغري لهما بالأكل من الشّجرة، فهما قد أضاعا وصيتين.
والمقصود من حكاية هذا القول هنا تذكير الأمّة بعداوة الشيطان لأصل نوع البشر، فيعلموا أنّها عداوة بين النّوعين، فيحذروا من كلّ ما هو منسوب إلى الشّيطان ومعدود من وسوسته، فإنّه لما جُبل على الخبث والخري كان يدعو إلى ذلك بطبعه وكان لا يهنأ له بال ما دام عدوّهُ ومحسودُه في حالة حسنة.
والمُبين أصله المظهر، أي للعداوة بحيث لا تخفى على من يتتبّع آثار وسوسته وتغريره، وما عامل به آدمَ من حين خلقه إلى حين غروره به ففي ذلك كلّه إبَانة عن عداوته، ووجه تلك العداوة أن طبعه ينافي ما في الإنسان من الكمال الفطري المؤيَّد بالتّوفيق والإرشاد الإلهي، فلا يحب أن يكون الإنسانُ إلاّ في حالة الضّلال والفساد.
ويجوز أن يكون المبين مستعملًا مجازًا في القويّ الشّديد لأنّ شأن الوصف الشّديد أن يظهر للعيان.
وقد قالا: {ربنا ظلمنا أنفسنا} اعترافًا بالعصيان، وبأنّهما علما أن ضر المعصية عاد عليهما، فكانا ظالمين لأنفسهما إذ جرّا على أنفسهما الدّخولَ في طور ظهور السوآت، ومشقّة اتّخاذ ما يستر عوراتهما، وبأنّهما جَرّا على أنفسهما غضب الله تعالى، فهما في توقع حقوق العذاب، وقد جزما بأنّهما يكونان من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما، إمّا بطريق الإلهام أو نوع من الوحي، وإمّا بالاستدلال على العَواقب بالمبادىء، فإنّهما رأيا من العصيان بوادِئ الضر والشّر، فعلما أنّه من غضب الله ومن مخالفة وصايته، وقد أكدا جملة جواب الشّرط بلام القسم ونون التّوكيد إظهارًا لتحقيق الخسران استرحاما واستغفارًا من الله تعالى. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [23].
{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} أي: أضررناها بالمعصية: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا} أي: ما سلف: {وَتَرْحَمْنَا} أي: بالتوبة وقبولها {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: لنصيرن ممن خسر جميع ما حصل له من الكمالات.
قال الضحاك بن مُزَاحم في قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا} الآية: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.
لطيفة:
قال الجشمي: يقال إن آدم عليه السلام سعد بخمسة أشياء: إعترف بالذنب، وندم عليه، ولام نفسه، وسارع إلى التوبة، ولم يقنط من الرحمة، وشقي إبليس بخمسة أشياء: لم يقر بالذنب، ولم يندم، ولم يلم نفسه بل أضاف إلى ربه فلم يتب، وقنط من الرحمة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}
وتلك هي الكلمات التي قال الله عنها في سياق آخر: {فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} [البقرة: 37]
فكأن الحق سبحانه وتعالى قدَّر غفلة خلقه عن المنهج؛ فشرّع لهم وسائل التوبة إليه، ووسائل التوبة ثلاث مراحل: تشريعها رحمة، ثم الإقبال عليها من المذنب اعترافا وإنابة، وقبولها منه سبحانه رحمة، فالتشريع يطلب منك أن تفعل، وحين تتوب يتوب الله عليك.
تشريع التوبة- إذن رحمة، لا بالمذنب فقط، بل وبغيره أيضًا؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة، كان الذي يعمل معصية، ولايجد مغفرة، يستشري في المعاصي، وإذا استشرى في المعاصي تعب المجتمع كله. {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23]
وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته، وهو يختلف عن موقف إبليس بعد الذنب؛ فإبليس أراد أن يبرر المخالفة: {... قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]
فماذا قال آدم وحواء؟: {... رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23]
ولذلك كان جزاء إبليس- وهو المتأبي على أوامر الله وحكمه- أن يطرد من رحمته. وجزاء المعترف بأنه أذنب، وأنه ظلم نفسه أن تُقبل توبته. إذن لا يصح للناس الذين يقيمون على معصية أن يقول الواحد منهم: هذه هي ظروفي، ويبرر ويحلل ما يفعله من المعاصي، بل على الواحد منهم ألا يطرد نفسه بنفسه من منطقة الرحمة، وعليه أن يقول: ما أفعله، حرام، لكن لا أقدر على نفسي وبذلك لا يكون قد ردّ الحكم، بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب، فصار أهلًا للمغفرة وأهلًا للتوبة.
وهنا نسأل: ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم؟. نقول: إبليس عصى وجاء بحيثية رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة.
وحين قال آدم وزوجته حواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} معًا وفي نَفَس واحد، ونغمة حزينة نادمة، ألا يدل ذلك على أنهما قد تعلماها؟. إن كلا منهما لو اعتذر لله بمفرده لاختلفا في أسلوب الاعتذار.
وهذا دليل على أنها ملقنة، ولهذا قال ربنا. {فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ...} [البقرة: 37]
وهما قد قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}، وأنفسنا جمع نَفْس، ولم يقولا نفسينا، بل قالا {أَنفُسَنَا} أي أن قلبيهما أيضًا قد صفيا وخلصا من أثر تلك المعصية، وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس ذريتهما. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}: ضررناها بالمِعْصِيَةِ، وتقدَّمَ تفسِيرُهَا في سُورةِ البقَرةِ، وأنَّها تَدُلُّ على صدور الذَّنْبِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، إلاَّ أنَّا نقُولُ: هذا الذَّنْبُ إنَّمَا صَدَرَ عنه قَبْلَ النُّبُوَّةِ.
وفي قوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسنَا} فائدةٌ حَذْف حرف النداء هنا تعظيم المُنَادَى، وتَنْزِيهُهُ.
قال مَكِّي: كَثُر نِدَاءُ الرَّبِّ بحذف يَا من القرآن، وعلّةُ ذلك أن في حذف يا من نداء الرَّب معنى التَّعْظِيم والتنزيه؛ وذلك أنَّ النداءَ فيه طَرَف من معنى الأمر؛ لأنَّكَ إذا قُلْتَ: يا يزيدُ فمعناه: تعالا يا زَيْدُ أدعوك يا زَيْدُ، فحُذِفَتْ يا من نداء الرَّبِّ ليزول معنى الأمر وينقص، لأنَّ يا تُؤكِّده، وتُظهرُ معناهُ، فكان في حذف يا الإجلال، والتعظيم، والتنزيه.
قوله: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} هذا شرط حُذِفَ جوابه لدلالة جواب القسم المقدَّر عليه، فإن قيل: حرف الشَّرْطِ لام التَّوْطِئَةِ للقسم مقدرة كقوله: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] ويَدُلُّ على ذلك كثرةُ ورُوُدِ لامِ التَّوْطِئَةِ قبل أداة الشَّرطِ في كلامهم.
وتقدَّم إعرابُ ما بعد ذلك في البقرة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}
اعترفا بالظلم جهرًا، وعرفا الحكم في ذلك سِرًّا؛ فقولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} اعتراف بالظلم من حيث الشريعة، وعرفان بأن المدارَ على الحكم من حيث الحقيقة، فَمَنْ لم يعترف بظلم الخلْق طوى الشريعة، ومن لم يعرف جريان حكم الحق فَقَدْ جَحَدَ الحقيقة، فلمَّا أقرّا بالظلم قالا: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} نطقا على عين التوحيد حيث لم يقولا بظلمنا خَسِرْنا، بل قالا: فَعَلْنَا فإنْ لم تغفر لنا خسرنا، فبِتَرْكِ غفرانك تخسر لارتكاب ظلمنا. اهـ.