فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا القياس معارض بأن النار من خاصيتها الإحراق والفناء والطين من خواصه النشوء والإنماء والاستمساك الذي بقوته يصير الإنسان مستمسكًا للفيض الإلهي ونفخ الروح فيه فاستحق سجود الملائكة لأنه صار كعبة حقيقية. فلما ابتلي إبليس بالصغار وطرد من الجوار أخذ في النوح وأيس من الروح ورضي بالبعاد واطمأن بالحياة فقال: {أنظرني} فأجيب إلى ما سأل ليكون وبالًا عليه ويزي في شقوته، ولكن لم يجبه بأن لا يذيقه ألم الموت لقوله في موضع آخر {إلى يوم الوقت المعلوم} [ص: 81] {قال فبما أغويتني} لم تكن حوالته الإغواء إلى الله منه نظر التوحيد وإنما كان للمعارضة والمعاندة لقوله: {لأغوينهم} [الحجر: 39] {لأقعدن} {ثم لآتينهم} من الجهات التي فيها حظوظ النفس {من بين أيديهم} من قبل الحسد على الأكابر من المشايخ والعلماء المعاصرين {ومن خلفهم} من قبل الطعن في الأكابر الأقدمين والسلف الصالحين. {وعن أيمانهم} من قبل إفساد ذات البين وإلقاء العداوة والبغضاء بين الإخوان {وعن شمائلهم} من جهة ترك النصيحة مع أهاليهم وأقاربهم وترك الأمر بالمعروف مع عامة المسلمين. أو المراد {من بين أيديهم} من قبل الرياء والعجب {ومن خلفهم} من قبل الصلف والفخر {وعن أيمانهم} من قبل الادعاء وإظهار المواعيد والمواجيد {وعن شمائلهم} من قبل الافتراء على أنفسهم ما ليس فيها من الكشوف والأحوال. أو {من بين أيديهم} من قبل الاعتراض على الشيخ {ومن خلفهم} من قبل التفريق والإخراج عن صحبة الشيخ {وعن أيمانهم} من قبل ترك حشمة المشايخ {وعن شمائلهم} من قبل مخالفة الشيخ والرد بعد القبول. أو {من بين أيديهم} أثوّر عليهم أهاليهم وأولادهم ليمنعوهم عن طلب الحق {ومن خلفهم} أثور عليهم آباءهم وأمهاتهم {وعن أيمانهم} أثور عليهم أحباءهم {وعن شمائلهم} أثور عليهم أعداءهم وحسادهم. {ولا تقربا هذه الشجرة} يعني شجرة المحبة فإن المحبة مطية المحنة {فتكونا من الظالمين} على أنفسكما لأن للمحبة نارًا ونورًا فمن لم يرد نارها لم يجد نورها ومن يرد نارها احترقت أنانيته فيبقى بلا هوية نفسه مع هوية ربه فهاهنا يجد نور المحبة ويتنور به كقوله: {يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] فشجرة المحبة شجرة غرسها الرحمن بيده لأجل آدم كما خمر طينة آدم بيده لأجل هذه الشجرة، وإنّ منعه منها كان تحريضًا له على تناولها فإن الإنسان حريص على ما منع. ولم تكن الشجرة طعمة لغير آدم وأولاده {إلا أن تكونا ملكين} أي من أهل السلو كملكين في زوايا الجنة {أو تكونا من الخالدين} في الجنة كالحور والرضوان فسقاهما إبليس في كأس القسم شراب ذكر الحبيب {وقاسمهما} فلما غرقا في لجّة المحنة وذاقا شجرة المحبة {بدت لهما سوآتهما} أي سوآت نار المحبة قبل نورها وهي نار فرقة الأحبة في البداية {وطفقا} لاشتعال نائرة المحبة يجعلان كل نعيم الجنة على نارهما، فلما التهبت احترقت بلظى نارها حبة الوصلة ونعب غراب البين بالفرقة.
فبينما نحن في لهو وفي طرب ** بدا سحاب فراق صوبه هطل

وإن من كنت مشغوفًا بطلعته ** مضى وأقفر منه الرسم والطلل

فالصبر مرتحل والوجد متصل ** والدمع منهمل والقلب مشتعل

{وناداهما ربهما} نداء العزة والكبرياء {ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} فإنها تذل العزيز وتزيل النعيم وتذهب الطرب وتورث التعب والنصب {إن الشيطان لكما عدوّ مبين} ولكن في عداوته صداقة مخفية تظهر ولو بعد حين:
واخجلتا من وقوفي باب دارهم ** لو قيل لي مغضبًا من أنت يا رجل

فانغسل بماء الخجل منهما رعونات البشرية ولوث العجب والأنانية فرجعا عما طمعا فيه ووقفا لديه وعلما أن لا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه فقالا {ربنا ظلمنا أنفسنا} بأن أوقعناها في شبكة المحبة لا المحبة تبقينا بالوصال ولا المحنة تفنينا بالزوال {وإن لم تغفر لنا} بنوال الوصال {وترحمنا} بتجلي الجمال {لنكونن من الخاسرين} الذين خسروا الدنيا والعقبى ولم يظفروا بالمولى. فأمرا بالصبر على الهجر وقيل: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو} النفس عدو القلب والروح، والقلب عدو لما سوى الله: {ولكم} للنفس والقلب والرفع في أرض البدن مقام وتمتع في الشريعة باستعمال الطريقة للوصول إلى الحقيقة إلى حين تصير النفس مطمئنة تستحق الخطاب، ارجعي من الهبوط وارفعي بعد السقوط.
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ** فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا

لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ** إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

{قال فيها} أي في المحبة {تحيون} بصدق الهمة وقرع باب العزيمة {وفيها تموتون} بطلب الحق على جادة الشريعة بإقدام الطريقة {ومنها تخرجون} إلى عالم الحقيقة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (26):

قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين فيما مضى أن موجب الإخراج من الجنة هو ما أوجب كشف السوءة من المخالفة وفرغ مما استتبعه حتى أخبره بأنه حكم بإسكاننا هذه الدار بعد تلك الدار، شرع يحذرنا من عدونا كما حذر أبانا عليه السلام، وبدأ بقوله بيانًا لأنه أنعم علينا فيها بكل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وإيذانًا بما في كشف العورة من الفضيحة والإبعاد عن كل خير وإشعارًا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى {يا بني آدم}.
ولما كان الكلام في كشف العورة، وأن آدم عليه السلام أعوزه الساتر حتى فزع إلى الورق، كان موضع أن يتوقع ما يكون في ذلك فقال مفتتحًا بحرف التوقع: {قد أنزلنا} أي بعظمتنا {عليكم} من آثار بركات السماء، إما ابتداء بخلقه وإما بإنزال أسبابه لمطر ونحوه {لباسًا} أي لم يقدر عليه أبوكم في الجنة {يواري سوءاتكم} إرشادًا إلى دواء ذلك الداء وإعلامًا بأن نفس الكشف نقص لا يصلح لحضرات الكمال، وقال: {وريشًا} إشارة إلى أنه سبحانه زادنا على الساتر ما به الزينة والجمال استعارة من ريش الطائر، محببًا فيما يبعد من الذنب ويقرب إلى حضرة الرب.
ولما ذكر اللباس الحسي، وقسمه على ساتر ومزين، أتبعه المعنوي فقال مشيرًا- بقطعه في قراءة الجمهور عما قبله- إلى كمال تعظيمه حثًا عليه وندبًا إليه: {ولباس التقوى} فعلم أن ساتر العورات حسي ومعنوي، فالحسي لباس الثياب، والمعنوي التحلي بما يبعث على المناب؛ ثم زاد في تعظيم المنوي بقوله: {ذلك خير} أي ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب، ولكنه فصل باسم الإشارة المقترن بإداة البعد إيماء إلى علو رتبته وحسن عاقبته لكونه أهم اللباسين لأن نزعه يكون بكشف العورة الحسية والمعنوية، فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوءات، ولوكان متقيًا وليس عليه إلا خريقة تواري عورته كان في غاية الجمال والستر والكمال، بل ولو كان مكشوف العورة في بعض الأحوال كما قال صلى الله عليه وسلم «ستر ما بين عوراتكم وأعين الجن أن يقول أحدكم إذا دخل الخلاء: بسم الله اللهم! إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» رواه الترمذي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه، والذي يكاد يقطع به أن المعاصي سبب إحلال السوءة الذي منه ضعف البدن وقصر العمر حسًا أو معنى بمحق البركة منه لما يفهمه ما تقدم في البقرة في بدء الخلق عن التوراة أن الله تعالى قال لآدم عليه السلام: كل من جميع أشجار الفردوس، فأما شجرة علم الخير والشر فلا تأكل منها لأنك في اليوم الذي تأكل منها تموت موتًا تتهيأ للموت حسًا، ويقضى عليك بالاشتغال بأسباب المعيشة فيقصر عمرك معنى بذهاب بركته- والله أعلم.
ولما كان في شرع اللباس تمييز الإنسان عن بقية الحيوان وتهيئة أسبابه التي لم يجدها آدم عليه السلام في الجنة من الفضل والنعمة والدلالة على عظمة المنعم ورحمته وقدرته واختياره ما هو معلوم، قال: {ذلك} أي إنزال اللباس {من آيات الله} أي الذي حاز صفات الكمال الدالة على فضله ورحمته لعباده، ولعل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة {لعلهم يذكرون}- لو على أدنى وجوه التذكر بما يشير إليه الإدغام- لئلا يقول المتعنت: إن الحث على التذكر خاص بالمخاطب ويدعي أنه المسلمون فقط، أي أنزلنا ذلك ليكون حالهم حال من يتذكر فيعرف أنه يستقبح منه ما يستقبح من غيره. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{ورياشا} أبو زيد عن المفضل. الباقون {ريشًا} {ولباس} بالنصب: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعليّ. الباقون بالرفع. {خالصة} بالرفع: نافع. الآخرون بالنصب {ربي الفواحش} مرسلة الباء: حمزة.

.الوقوف:

{وريشًا} ط لمن قرأ {ولباس} مرفوعًا ومن قرأ بالنصب وقف على {التقوى} {خير} ط {يذكرون} o {سوآتهما} ط {لا يؤمنون} o {أمرنا بها} ط {بالفحشاء} ط {ما لا تعلمون} o {الدين} ط {تعودون} o على جواز الوصل لرد النهاية إلى البداية {الضلالة} ج {مهتدون} o {ولا تسرفوا} ج لاحتمال الفاء أو اللام. {المسرفين} o {من الرزق} ط {يوم القيامة} ط {يعلمون} o {ما لا تعلمون} o {أجل} ج لأن جواب إذا منتظر مع دخول الفاء فيها {ولا يستقدمون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

في نظم الآية وجهان:
الوجه الأول: أنه تعالى لما بين أنه أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض، وجعل الأرض لهما مستقرًا بين بعده أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا، ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا.
الوجه الثاني: أنه تعالى لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة أنه كان يخصف الورق عليها، أتبعه بأن بين أنه خلق اللباس للخلق ليستروا بها عورتهم، ونبه به على المنة العظيمة على الخلق بسبب أنه أقدرهم على التستر.
فإن قيل: ما معنى إنزال اللباس؟
قلنا: إنه تعالى أنزل المطر، وبالمطر تتكون الأشياء التي منها يحصل اللباس، فصار كأنه تعالى أنزل اللباس، وتحقيق القول أن الأشياء التي تحدث في الأرض لما كانت معلقة بالأمور النازلة من السماء صار كأنه تعالى أنزلها من السماء.
ومنه قوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الإنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] وقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] وأما قوله: {وَرِيشًا} ففيه بحثان:
البحث الأول: الريش لباس الزينة، استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته، أي أنزلنا عليكم لباسين: لباسًا يواري سوآتكم، ولباسًا يزينكم، لأن الزينة غرض صحيح كما قال: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وقال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6].
البحث الثاني: روي عن عاصم رواية غير مشهورة {ورياشًا} وهو مروي أيضًا عن عثمان رضي الله عنه، والباقون {سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا} واختلفوا في الفرق بين الريش والرياش فقيل: رياش جمع ريش، وكذياب وذيب، وقداح وقدح، وشعاب وشعب، وقيل: هما واحد، كلباس ولبس وجلال وجل، روى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: كل شيء يعيش به الإنسان من متاع أو مال أو مأكول فهو ريش ورياش، وقال ابن السكيت: الرياش مختص بالثياب والأثاث، والريش قد يطلق على سائر الأموال وقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التقوى} فيه بحثان:
البحث الأول: قرأ نافع وابن عامر والكسائي {وَلِبَاسُ} بالنصب عطفًا على قوله: {لِبَاسًا} والعامل فيه أنزلنا وعلى هذا التقدير فقوله: {ذلك} مبتدأ وقوله: {خَيْرٌ} خبره والباقون بالرفع وعلى هذا التقدير فقوله: {وَلِبَاسُ التقوى} مبتدأ وقوله: {ذلك} صفة أو بدل أو عطف بيان وقوله خير خبر لقوله: {وَلِبَاسُ التقوى} ومعنى قولنا صفة أن قوله: {ذلك} أشير به إلى اللباس كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير.
البحث الثاني: اختلفوا في تفسير قوله: {وَلِبَاسُ التقوى} والضابط فيه أن منهم من حمله على نفس الملبوس ومنهم من حمله على غيره.
أما القول الأول: ففيه وجوه: أحدها: أن المراد أن اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري سوآتكم هو لباس التقوى وعلى هذا التقدير فلباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده الله لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن جماعة من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت فجرى هذا في التكرير مجرى قول القائل: قد عرفتك الصدق في أبواب البر، والصدق خير لك من غيره.
فيعيد ذكر الصدق ليخبر عنه بهذا المعنى.
وثانيها: أن المراد من لباس التقوى ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقي به في الحروب.
وثالثها: المراد من لباس التقوى الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلوات.
والقول الثاني: أن يحمل قوله: {وَلِبَاسُ التقوى} على المجازات ثم اختلفوا فقال قتادة والسدي وابن جريج: لباس التقوى الإيمان.
وقال ابن عباس: لباس التقوى العمل الصالح، وقيل هو السمت الحسن، وقيل هو العفاف والتوحيد، لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عاريًا من الثياب.
والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسيًا، وقال معبدهو الحياء.
وقيل هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخبات والعمل الصالح، وإنما حملنا لفظ اللباس على هذه المجازات لأن اللباس الذي يفيد التقوى، ليس إلا هذه الأشياء أما قوله: {ذلك خَيْرٌ} قال أبو علي الفارسي: معنى الآية {وَلِبَاسُ التقوى}.. {خَيْرٌ} لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به.
قال: وأضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع في قوله: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} [النحل: 112] وقوله: {ذلك مِنْ آيات الله} معناه من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس عليهم {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيعرفون عظيم النعمة فيه. اهـ.