فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (31):

قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أمر سبحانه بالقسط وبإقامة الوجه عند كل مسجد، أمرهم بما ينبغي عند تلك الإقامة من ستر العورة الذي تقدم الحث عليه وبيان فحش الهتك وسوء أثره معبرًا عنه بلفظ الزينة ترغيبًا فيه وإذنًا في الزينة وبيانًا لأنها ليس مما يتورع عنه لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب إذا بسط على عبد رزقه أن يرى أثر نعمته عليه» رواه أحمد والترمذي وابن منيع عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأتبع ذلك أعظم ما ينبغي لابن آدم أن يعتبر فيه القسط من المأكل والمشرب فقال مكررًا النداء استعطافًا وإظهارًا لعظيم الإشفاق وتذكيرًا بقصة أبيهم آدم عليه السلام التي أخرجته من الجنة مع كونه صفي الله ليشتد الحذر: {يا بني آدم} أي الذي زيناه فغره الشيطان ثم وقيناه شره بما أنعمنا عليه به من حسن التوبة وعظيم الرغبة {خذوا زينتكم} أي التي تقدم التعبير عنها بالريش لستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة {عند كل مسجد} وأكد ذلك كونُهم كانوا قد شرعوا أن غير الحمس يطوفون عراة.
ولما امر بكسوة الظاهر بالثياب لن صحة الصلاة متوقفة عليها، أمر بكسوة الباطن بالطعام والشراب لتوقف القدرة عادة عليها فقال: {وكلوا واشربوا} وحسَّن ذلك أن بعضهم كان يتدين في الحج بالتضييق في ذلك.
ولما أمر بالملبس والمطعم، نهى عن الاعتداء فيهما فقال: {ولا تسرفوا} بوضع شيء من ذلك فيما لا يكون أحق مواضعه ولو بالزيادة على المعاء، ومن ذلك أن يتبع السنة في الشرب فيسير لأن العكر يرسب في الإناء فربما أذى من شربه، ولذلك نهى عن النفس في الإناء لأنه ربما أنتن فعافته النفس، وأما الطعام فليحسن إناءه والأصابع لنيل البركة وهو أنظف، ثم علل ذلك بقوله: {إنه لا يحب المسرفين} أي لا يكرمهم، ولا شك أن من لا يحبه لا يحصل له شيء من الخير فيحيط به كل شر، ومن جملة السرف الأكل في جميع البطن، والاقتصاد الاقتصار على الثلث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبة فإن كان لابد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» و«وما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطن» و«الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد» أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال الأطباء، الأمعاء سبعة، فالمعنى حينئذ أن الكافر يأكل شعبًا فيملأ الأمعاء السبعة، والمؤمن يأكل تقوتًا فيأكل في معى واحد، وذلك سبع بطنه، وإليه الإشارة بلقيمات، فإن لم يكن ففي معاءين وشيء وهوالثلث- والله أعلم- وسبب الاية أنهم كانوا يطرحون ثيابهم إذا أرادوا الطواف، يقولون: لا نطوف في ثياب إذ بتنا فيها، ونتعرى منها لنتعرى من الذنوب إلا الحمس وهم قريش ومن ولده، وكانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتًا ولا يأكلون دسمًا، فقال المسلمون: يارسول الله! فنحن أحق أن نفعل ذلك- فأنزلت. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى لما أمر بالقسط في الآية الأولى، وكان من جملة القسط أمر اللباس وأمر المأكول والمشروب، لا جرم أتبعه بذكرهما، وأيضًا لما أمر بإقامة الصلاة في قوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] وكان ستر العورة شرطًا لصحة الصلاة لا جرم أتبعه بذكر اللباس. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.فصل فيما ذكره بعض المفسرين في تأييد رأي أو بيان معنى المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
ما ذكره بعض المفسرين في تأييد رأي أو بيان معنى: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء.
فمن ذلك ما ذكره الزمخشري في كشافه، وتابعه النسفي في تفسيره، عند تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني، حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان، فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه، فقال: وما هي؟ قال، قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}، فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب؟ فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة، فقال: وما هي؟ قال: في قوله: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، واعط كل بدن ما عودته فقال النصراني: ما ترك كتابكم، ولا نبيكم لجالينوس طبا أقول: ولئن أصاب في الآية، فقد أخطأ في ذكره الحديث؛ فإنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، فنسبته إلى النبي كذب واختلاق عليه، نعم هناك من قول النبي صلى الله عليه وسلم ما أهو أدق وأوفى من هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراء من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات-أي لقيمات- يقمن صلبه، فإن كان ولابد، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وقد كان الإمام البيضاوي على حق حينما ذكر القصة التي ذكرها الزمخشري، ولكنه اكتفى بالآية، ولم يذكر الحديث، فقد علمت أنه ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال الفخر:

وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال ابن عباس: إن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عُراة الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة.
وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، ومنهم من يقول: نفعل ذلك تفاؤلًا حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ سترًا تعلقه على حقويها، لتستتر به عن الحمس، وهم قريش، فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك، وكانوا يصلون في ثيابهم، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتًا، ولا يأكلون دسمًا، فقال المسلمون: يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي: البسوا ثيابكم وكلوا اللحم والدسم واشربوا ولا تسرفوا.
المسألة الثانية:
المراد من الزينة لبس الثياب، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] يعني الثياب، وأيضًا فالزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات، ولذلك صار التزيين بأجود الثياب في الجمع والأعياد سنة، وأيضًا أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يوارى سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26] فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة، ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية فوجب حمل هذه الزينة على ستر العورة، وأيضًا فقد أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة هاهنا لبس الثوب الذي يستر العورة، وأيضًا فقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أمر والأمر للوجوب، فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملًا بالنص بقدر الإمكان.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فهذا يدل على وجوب ستر العورة عنه إقامة كل صلاة، وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: إنه تعالى عطف عليه قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} ولا شك أن ذلك أمر إباحة فوجب أن يكون قوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أمر إباحة أيضًا.
وجوابه: أنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه، وأيضًا فالأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضًا في الحكم.
السؤال الثاني: أن هذه الآية نزلت في المنع من الطواف حال العري.
والجواب: أنا بينا في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} يقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة لأن اللبس التام هو الزينة.
ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء، إجماعًا، فبقي الباقي داخلًا تحت اللفظ، وإذا ثبت أن ستر العورة واجب في الصلاة، وجب أن تفسد الصلاة عند تركه، لأن تركه يوجب ترك المأمور به، وترك المأمور به معصية، والمعصية توجب العقاب على ما شرحنا هذه الطريقة في الأصول.
المسألة الثالثة:
تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في مسألة إزالة النجاسة بماء الورد.
فقالوا: أمرنا بالصلاة في قوله: {أَقِيمُواْ الصلاة} [الأنعام: 72] والصلاة عبارة عن الدعاء، وقد أتى بها، والإتيان بالمأمور به يوجب الخروج عن العهدة، فمقتضى هذا الدليل أن لا تتوقف صحة الصلاة على ستر العورة، إلا أنا أوجبنا هذا المعنى عملًا بقوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} ولبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ الزينة، فوجب أن يكون كافيًا في صحة الصلاة.
وجوابنا: أن الألف واللام في قوله: {أَقِيمُواْ الصلاة} ينصرفان إلى المعهود السابق، وذلك هو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، لم قلتم أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى في الثوب المغسول بماء الورد؟ والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا} فاعلم أنا ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا القليل، وكانوا لا يأكلون الدسم، يعظمون بذلك حجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان فساد تلك الطريقة.
والقول الثاني: أنهم كانوا يقولون أن الله تعالى حرم عليهم شيئًا مما في بطون الأنعام فحرم عليهم البحيرة والسائبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانًا لفساد قولهم في هذا الباب.
واعلم أن قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} مطلق يتناول الأوقات والأحوال، ويتناول جميع المطعومات والمشروبات، فوجب أن يكون الأصل فيها هو الحل في كل الأوقات، وفي كل المطعومات والمشروبات إلا ما خصه الدليل المنفصل، والعقل أيضًا مؤكد له، لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة.
وأما قوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} ففيه قولان:
القول الأول: أن يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام، ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقدارًا كثيرًا يضره ولا يحتاج إليه.
والقول الثاني: وهو قول أبي بكر الأصم: أن المراد من الإسراف، قولهم بتحريم البحيرة والسائبة، فإنهم أخرجوها عن ملكهم، وتركوا الانتفاع بها، وأيضًا أنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج أيضًا أشياء أحلها الله تعالى لهم، وذلك إسراف.
واعلم أن حمل لفظ الإسراف على الاستكثار، مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع من لا يجوز وينبغي.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} وهذا نهاية التهديد، لأن كل ما لا يحبه الله تعالى بقي محرومًا عن الثواب، لأن معنى محبة الله تعالى العبد إيصاله الثواب إليه، فعدم هذه المحبة عبارة عن عدم حصول الثواب، ومتى لم يحصل الثواب، فقد حصل العقاب، لانعقاد الإجماع على أنه ليس في الوجود مكلف، لا يثاب ولا يعاقب. اهـ.