فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ زَيْدٌ: «نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي»، أَمَّا إنَّهُ يُكْرَهُ كَشْفُهَا فَإِنَّ مَالِكًا وَغَيْرَهُ قَدْ رَوَى حَدِيثَ جَرْهَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «غَطِّ فَخِذَك؛ فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ»؛ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} وَإِنْ كَانَ وَارِدًا عَلَى طَوَافِ الْعُرْيَانِ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ؛ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّوَافَ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ.
وَاَلَّذِي يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ هُوَ الصَّلَاةُ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مَقَاصِدُ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً فِي الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، لِيَكُونَ الْعُمُومُ شَامِلًا لِكُلِّ مَسْجِدٍ، وَالسَّبَبُ الَّذِي أَثَارَ ذَلِكَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ، وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ نِظَامُ الْكَلَامِ، وَلَا كَيْفَ كَانَ وُرُودُهُ، اجتزءوا بِوُرُودِ الْآيَةِ وَمَنْحَاهَا، فَلَا مَطْمَعَ لِعَالِمٍ فِي أَنْ يَسْبِقَ شَأْوَهُمْ فِي تَفْسِيرٍ أَوْ تَقْدِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ الْوُرُودُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَسْجِدِ، تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، فَزَادَ النَّاسُ، فَقَالُوا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ لِلْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالسَّتْرِ فِي الْمَسْجِدِ لِبَيْنِ الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: طَوَافٍ، وَلَا يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ وَاعْتِكَافٍ، وَلَمْ يَشْرُفْ لِأَجْلِهِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الصَّلَاةُ؛ وَقَدْ أُلْزِمَ السَّتْرَ لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا.
وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ مَا زَادَ عَلَى الْعَوْرَةِ، وَبَقِيَ مَا قَابَلَ الْعَوْرَةَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا مِنْ قَبْلُ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَيَجْتَمِعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ.
قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ اجْتِمَاعًا مَشْرُوعًا؛ بَلْ يَجُوزُ تَفَرُّقُهُمْ.
وَهَا هُنَا إنْ تَفَرَّقُوا فِي الْمَسَاجِدِ كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْجَمَاعَةِ، وَخَرْقًا لِلصُّفُوفِ؛ إذْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ».
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الطَّوَافَ لَا يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا قُلْنَا: إنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ فَسَقَطَ ثَوْبُ إمَامٍ فَانْكَشَفَ دُبُرُهُ، وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَغَطَّاهُ أَجْزَأَهُ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إلَيْهِ مِنْ الْمَأْمُومِينَ أَعَادَ.
وَقَدْ رَوَى سَحْنُونٌ أَنَّهُ يُعِيدُ، وَيُعِيدُونَ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا بَطَلَ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ.
فَهَذَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ النَّظَرِ.
وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ صَلَاتَهُمْ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقِدُوا شَرْطًا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنْ أَخَذَهُ مَكَانَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَتَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ نَظَرَ إلَيْهِ، فَصَحِيفَةٌ يَجِبُ مَحْوُهَا، وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ أَوْ كَانَ إمَامًا فَلَا يُصَلِّي إلَّا بِرِدَائِهِ أَوْ شَيْءٍ يَجْعَلُهُ عَلَى مَنْكِبِهِ، وَلَوْ طَرَفَ عِمَامَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الزِّينَةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنَّهُ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؛ وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قَالُوا: «صَلُّوا فِي النِّعَالِ»، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: هَذَا خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إلَّا أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْعَوْرَةِ، فَعَوْرَةُ الرَّجُلِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ جَمِيعُ بَدَنِهَا إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَفِي الْمُصَنِّفِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ».
وَهَذَا فِي الْحُرَّةِ؛ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ لَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا»، فَأَمَّا الْأَمَةُ فَإِنَّهَا تُصَلِّي كَمَا تَمْشِي حَاسِرَةَ الرَّأْسِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَسْتُرُ فِي الصَّلَاةِ مَا يَسْتُرُ الرَّجُلُ، حَتَّى لَوْ انْكَشَفَ بَطْنُهَا لَمْ يَضُرَّهَا.
وَقَالَ أَصْبَغُ: إنْ انْكَشَفَتْ فَخِذُهَا أَعَادَتْ فِي الْوَقْتِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} الْإِسْرَافُ: تَعَدِّي الْحَدِّ؛ فَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَدِّي الْحَلَالِ إلَى الْحَرَامِ.
وَقِيلَ: أَلَّا يَزِيدُوا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ: هُوَ حَرَامٌ.
وَقِيلَ: هُوَ مَكْرُوهٌ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ فَإِنَّ قَدْرَ الشِّبَعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَسْنَانِ وَالطَّعْمَانِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ لِرَجُلٍ كَافِرٍ بِحِلَابِ سَبْعِ شِيَاهٍ، فَشَرِبَهَا ثُمَّ آمَنَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَلْبِ شَاةٍ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»
؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ لَمَّا تَنَوَّرَ بِالتَّوْحِيدِ نَظَرَ إلَى الطَّعَامِ بِعَيْنِ التَّقْوَى عَلَى الطَّاعَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَحِينَ كَانَ مُظْلِمًا بِالْكُفْرِ كَانَ أَكْلُهُ كَالْبَهِيمَةِ تَرْتَعُ حَتَّى تَثْلِطَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ: إنَّ الْأَمْعَاءَ السَّبْعَةَ كِنَايَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ سَبْعَةٍ يَأْكُلُ بِهَا النَّهِمُ: يَأْكُلُ لِلْحَاجَةِ، وَالْخَبَرِ، وَالنَّظَرِ، وَالشَّمِّ، وَاللَّمْسِ، وَالذَّوْقِ، وَيَزِيدُ اسْتِغْنَامًا.
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} فيه سبع مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {يا بني آدَمَ} هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانًا؛ فإنه عامٌّ في كل مسجد للصلاة.
لأن العبرة للعُموم لا للسّبب.
ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف؛ لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة.
وهذا قول مَن خفي عليه مقاصد الشريعة.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يُعِيرُني تِطْوَافًا؟ تجعله على فرجها.
وتقول:
اليومَ يَبْدُو بعضُه أو كلّه ** وما بَدَا منه فلا أحِلّه

فنزلت هذه الآية: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
التطْواف بكسر التاء.
وهذه المرأة هي ضُباعة بنت عامر بن قُرْط؛ قاله القاضي عياض.
وفي صحيح مسلم أيضًا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحُمْس، والحُمْسُ قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عُراةً إلا أن تعطيهم الحُمْسُ ثيابًا فيعطي الرجالُ الرجالَ والنساءُ النساءَ.
وكانت الحمس لا يخرجون من المُزْدَلِفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات.
في غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحَرَم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا.
فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يُعيره ثوبًا ولا يَسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عُريانًا، وإما أن يطوف في ثيابه؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد.
وكان ذلك الثوب يسمى اللَّقَى؛ قال قائل من العرب:
كفَى حَزَنا كَريِّ عليه كأنّه ** لَقًى بين أيدي الطائفين حَرِيمُ

فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى: {يا بني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} الآية.
وأذَّن مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يطوف بالبيت عُرْيَان».
قلت: ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال؛ لما رواه كُرْز بن وَبْرَة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: «خذوا زينة الصلاة» قيل: وما زينة الصلاة؟ قال: «البسوا نعالكم فَصلّوا فيها».
الثانية دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدّم.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة.
وقال الأبهرِيّ هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها.
وهو الصحيح؛ لقوله عليه السلام لِلْمِسْوَر بن مَخْرَمَة: «ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عُراة». أخرجه مسلم.
وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سُنَن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضًا في الصلاة لكان العُريان لا يجوز له أن يصلي؛ لأن كل شيء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك.
قال ابن العربيّ: وإذا قلنا أن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمامٍ فانكشف دُبُره وهو راكع فرفع رأسه فغطّاه أجزأه؛ قاله ابن القاسم.
وقال سُحْنون: وكل من نظر إليه من المأمومِين أعاد.
وروى عن سحنون أيضًا: أنه يعيد ويعيدون؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة أصله الطهارة قال القاضي ابن العربيّ: أما من قال إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطًا، وأما من قال إنْ أخذه مكانه صَحّت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها.
وفي البخارِيّ والنسائِيّ عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومي من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا قال: «ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن» قال: فدعوني فعلَّموني الركوع والسجود؛ فكنت أُصلِّي بهم وكانت عليَّ بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تُغَطِّي عنا است ابنك.
لفظ النسائيّ.
وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كانت الرجال عاقدي أَزُرِهم في أعناقهم من ضيق الأُزُر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كأمثال الصبيان؛ فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخارِيّ والنسائِي وأبو داود.
الثالثة واختلفوا إذا رأى عورة نفسه؛ فقال الشافعيّ: إذا كان الثوب ضيقًا يُزرّه أو يخلِّله بشيء لئلا يتجافى القميص فتُرى من الجيب العورة، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة.
وهو قول أحمد.
ورخّص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل.
وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور.
وكان سالِم يُصلي محلول الأزرار.
وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به.
وحكى معناه الأَثْرم عن أحمد.
فإن كان إمامًا فلا يصلي إلا بردائه؛ لأنه من الزينة.
وقيل: من الزينة الصلاة في النعلين؛ رواه أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يصحّ.
وقيل: زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه.
قال أبو عمر: لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي.
وقال عمر رضي الله عنه: إذا وَسّع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلَّى في إزار ورِداء، في إزار وقميص، في إزار وقَبَاء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقَباء وأحسبه قال: في تُبَّان وقميص في تُبَّان ورداء، في تُبَّان وقَباء.