فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}
إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا} [الأعراف: 26].
وهذه الجملة تتنزّل، من التي بَعدها، وهي قوله: {قل من حرم زينة الله} [الأعراف: 32] منزلة النّتيجة من الجدل، فقدمت على الجدل فصارت غرضًا بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها.
فالمقصد من قوله: {خذوا زينتكم} إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة، وعند مساجد معيّنة، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يُعيرني تِطْوافًا تجعله على فرجها وتقول:
اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه ** وما بَدا منه فلا أُحِلُّه

وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير، قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلاّ الحُمْس، والحُمْس قريشٌ وما ولدتْ فكان غيرهم يطوفون عراة إلاّ أن يعطيهم الحُمْس ثيابًا فيعطِي الرّجالُ الرّجالَ والنّساءُ النّساءَ، وعنه: أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة.
وروي أنّ الحُمْس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلاّ في ثيابنا ولا يأكل إذا دَخل أرضنا إلاّ من طعامنا.
فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوبًا ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عُريانًا، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى: اللَّقَى بفتح اللام قال شاعرهم:
كفى حزنًا كَري عليه كأنّه ** لقى بين أيدي الطائفين حَرامُ

وفي الكشاف، عن طاووس: كان أحدهم يطوف عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضُرِب وانتُزِعَت منه لأنّهم قالوا: لا نعبد الله في ثياببٍ أذنَبْنا فيها، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه، عام حجّته سنة تسع، أن ينادي في الموسم: «أنْ لا يحج بعد العام مُشرك ولا يطوفَ بالبيت عُريان».
وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريمَ اللّم والودك في أيام الموسم، ولا يأكلون من الطّعام إلاّ قُوتًا، ولا يأكلون دَسمًا، ونسب في الكشاف ذلك إلى بني عامر، وكان الحُمْس يقولون: لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضَنا أن يأكل إلاّ من طعامنا، وفي تفسير الطبري عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرّموا الشاة ولبنها وسمْنها.
وفيه عن قتادة: أنّ الآية أرادت ما حرّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
فالأمر في قوله: {خذوا زينتكم} للوجوب، وفي قوله: {وكلوا واشربوا} للإباحه لبني آدم الماضين والحاضرين.
والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطالُ التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم، وامتن به عليهم، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعًا.
وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحَظر.
فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] بعد قوله: {غير محلي الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 1] وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجبًا.
فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش، فلا جرم يكون اللّباس في الحجّ منه واجبٌ، وهو ما يستْر العورة، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالًا لتحريمه، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالًا للتّحريم، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم.
وقوله: {عند كل مسجد} تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد مِنَى، وقد تقدّم نظيره في قوله: {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} [الأعراف: 29].
وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفًا.
والإسراف تقدّم عند قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافًا} في سورة النّساء (6)، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي: ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة.
وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهيُ إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاّحقة في قوله: {قل من حرم زينة الله} إلى قوله: {والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقًا: {قل أمر ربي بالقسط} [الأعراف: 29] فإن ترك السّرف من معنى العدل.
وقوله: {إنه لا يحب المسرفين} تذييل، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام. اهـ.

.قال القاسمي:

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي: من اللباس: {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي: بيت بُنِي للعبادة، على أنه اسم مكان، أو مصدر بمعنى السجود، مرادًا به الصلاة والعبادة، فإن العبادة أولى أوقات التزين: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} أيام الحج تقويًا على العبادة: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي: إسرافًا يوجب الإنهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة، أو لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} المعتدين.
تنبيهات:
الأول: كما أسلفنا في مقدمة هذا التفسير، أن من فوائد معرفة سبب النزول الوقوف على المعنى، وإزالة الإشكال، وهذه الآية إنما أجملنا تفسيرها بما ذكرنا، لأنها نزلت في ذلك.
فقد روى مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُريانة، فتقول: من يعيرني تِطْوافًا؟ تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أُحله

فنزلت هذه الآية: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} الآية. ونزلت: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّه} الآية.
وعند ابن جرير عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** فما بدا منه فلا أُحله

فنزلت: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ}. قال في اللباب: وفي رواية أخرى عنه: فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. وروى العوفي عن ابن عباس أيضًا في الآية قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة، والزينة اللباس، وهو ما يواري السوأة، وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.
وأخرج أبو الشيخ عن طاوس قال: أُمروا بلبس الثياب، وأخرج من وجه آخر عنه قال: الشملة من الزينة، وقال مجاهد: كان حيٌّ من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجًا أو معتمرًا يقول: لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول: من يعيرني مئزرًا؟ فإن قدر عليه وإلا طاف عريانًا. فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} الآية.
وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس- وهم قريش وأحلافهم- فمن جاء من غير الحمس، وضع ثيابه، وطاف في ثوب أحمسي، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه، ويطوف عريانًا، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها، وإذا قضى طوافه وحرمها، أي: جعلها حرامًا عليه، فلذلك قال تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
والمراد من الزينة الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد: ما يواري عوراتكم، ولو عباءة. انتهى.
قال ابن كثير: هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النَّخَعِي، وسعيد بن جبير وقتادة والسدي، والضحاك ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها: أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة. انتهى.
فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة لأنه اللازم المأمور به الذي بينه سبب النزول، دون لباس التجمل المتبادر منه، لأن المستفاد من: {خُذُواْ} هو وجوب الأخذ، ولباس التجمل مسنون- قاله الشهاب- وأقول دلت الآية بما أفاده سبب نزولها على أن الزينة لا تختص لغة بالجيد من اللباس كما توهم، وبين ذلك العوفي عن ابن عباس فيما نقلناه.
وفي التهذيب: الزينة إسم جامع لكل شيء يتزين به. ومثله في الصحاح والقاموس وعبارته: الزينة ما يتزين به.
وقال الحراني: الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة.
وقال الراغب: الزينة الحقيقية ما لا يشين الْإنسَان في شيء من أحواله، ولا في الدنيا ولا في الآخرة. انتهى.
وقد نقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد بالزينة لبس الثياب التي تستر العورة.
قال: والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات، قال: وأيضًا إنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا} فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة.
ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية.
وأيضًا فقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أمر، والأمر للوجوب، فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملًا بالنص بقدر الإمكان، ولا يقال: إن قوله: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} أمر إباحة، فيكون المعطوف عليه كذلك، لأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف، تركه في المعطوف عليه.
هذا، وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعًا: أنها نزلت في الصلاة في النعال، وكذا أخرجه أبو الشيخ عنه، وعن أبي هريرة مثله، قال ابن كثير: وفي صحته نظر، والله أعلم.