فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قل إنما حرَّم ربي الفواحش}
قرأ حمزة: {ربيْ الفواحشَ} بإسكان الياء.
{ما ظهر منها وما بطن}.
فيه ستة أقوال:
أحدها: أن المراد بها الزنا، ما ظهر منه: علانيته، وما بطن: سرُّه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
والثاني: أن ما ظهر: نكاح الأمهات، وما بطن: الزنا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال علي بن الحسين.
والثالث: أن ما ظهر: نكاح الأبناء نساء الآباء، والجمع بين الأختين، وأن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وما بطن: الزنا، روي عن ابن عباس أيضا.
والرابع: أن ما ظهر: الزنا، وما بطن: العزل، قاله شريح.
والخامس: أن ما ظهر: طواف الجاهلية عراة، وما بطن: الزنا، قاله مجاهد.
والسادس: أنه عامٌّ في جميع المعاصي.
ثم في {ما ظهر منها وما بطن} قولان:
أحدهما: أن الظاهر: العلانية، والباطن: السر، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والثاني: أن ما ظهر: أفعال الجوارح، والباطن: اعتقاد القلوب، قاله الماوردي.
وفي الإثم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الذنب الذي لا يوجب الحدَّ، قاله ابن عباس، والضحاك، والفرَّاء.
والثاني: المعاصي كلها، قاله مجاهد.
والثالث: أنه الخمر، قاله الحسن، وعطاء.
قال ابن الأنباري: أنشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته، وزعم أن أبا عبيدة أنشده:
نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواع جِهَارًا ** وَنَرى المُتْكَ بيننا مُسْتَعَارًا

فقال أبو العباس: لا أعرفه، ولا أعرف الإثم: الخمر، في كلام العرب.
وأنشدنا رجل آخر:
شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ** كَذَاكَ الإثْمُ تَذْهَبُ بالعُقُولِ

قال أبو بكر: وما هذا البيت معروفًا أيضا في شعر من يحتج بشعره، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر، ولا سمَّتها العرب بذلك في جاهلية ولا إسلام.
فإن قيل: إن الخمر تدخل تحت الإثم، فصواب، لا لأنه اسم لها.
فإن قيل: كيف فصل الإثم عن الفواحش، وفي كل الفواحش إثم؟ فالجواب: أن كل فاحشة إثم، وليس كل إثم فاحشة، فكان الإثم كل فعل مذموم؛ والفاحشة: العظيمة.
فأما البغي: فقال الفراء: هو الاستطالة على الناس.
قوله تعالى: {وأن تشركوا} قال الزجاج: موضع أن نصب؛ فالمعنى: حرَّم الفواحش، وحرَّم الشرك، والسلطان: الحجة.
قوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} عام في تحريم القول في الدِّين من غير يقين. اهـ.

.قال القرطبي:

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فيه مسألة واحدة:
قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون؛ فنزلت هذه الآية.
والفواحش: الأعمال المُفْرِطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن.
وروى رَوح بن عُبادة عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد قال: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} نكاح الأمهات في الجاهلية {وَمَا بَطَنَ} الزنى.
وقال قتادة: سرّها وعلانيتها.
وهذا فيه نظر؛ فإنه ذكر الإثم والبغي فدلّ أن المراد بالفواحش بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنى. والله أعلم.
{والإثم} قال الحسن: الخمر.
قال الشاعر:
شربتُ الإثمَ حتى ضلّ عقلي ** كذاك الإثمُ تذهبُ بالعقول

وقال آخر:
نشرب الإثم بالصِوَاع جِهارا ** وترى المسك بيننا مُستعارا

{والبغي} الظلم وتجاوز الحدّ فيه.
وقد تقدّم.
وقال ثعلب: البغي أن يقع الرجل في الرجل فيتكلم فيه، ويبغِي عليه بغير الحق؛ إلا أن ينتصر منه بحق.
وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما؛ فنصّ على ذكرهما تأكيدًا لأمرهما وقصدًا للزجر عنهما.
وكذا {وَأَن تُشْرِكُواْ} {وَأَن تَقُولُواْ} وهما في موضع نصب عطفًا على ما قبْلُ.
وقد أنكر جماعة أن يكون الإثم بمعنى الخمر.
قال الفرّاء الإثم ما دون الحدّ والاستطالة على الناس.
قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي؛ كما قال الشاعر:
إني وجدتُ الأمرَ أرشَدُه ** تقوَى الإله وشرُّه الإثْمُ

قلت: وأنكره ابن العربيّ أيضًا وقال: ولا حجة في البيت؛ لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوِزر لكان كذلك، ولم يوجب قوله أن يكون الذنب والوزر اسما من أسماء الخمر كذلك الإثم.
والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهلُ باللغة وبطريق الأدلة في المعاني.
قلت: وقد ذكرناه عن الحسن.
وقال الجوهريّ في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثمًا، وأنشد:
شربت الإثم

البيت.
وأنشده الهروِيّ في غريبيه، على أن الخمر الإثم.
فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضًا لغةً، فلا تناقض.
والبغي: التجاوز في الظلم، وقيل: الفساد. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {قل إنما حرم ربي الفواحش}
جمع فاحشة وهي ما قبح وفحش من قول أو فعل، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من الثياب ويطوفون بالبيت عراة ويحرمون أكل الطيبات مما أحل الله لهم إن الله لم يحرم ما تحرمونه أنتم بل أحله الله لعباده وطيبه لهم وإنما حرم ربي الفواحش من الأفعال والأقوال {ما ظهر منها وما بطن} يعني علانتيه وسره.
(ق) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا أحد أغير من الله» من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه.
أصل الغيرة ثوران القلب وهيجان الحفيظة بسبب المشاركة فيما يختص به الإنسان ومنه غيرة أحد الزوجين على الآخر لاختصاص كل واحد منهما بصاحبه ولا يرضى أن يشاركه أحد فيه فلذلك يذب عنه ويمنعه من غيره وأما الغيرة في وصف الله تعالى فهو منعه من ذلك وتحريمه له ويدل على ذلك قوله: ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وقد يحتمل أن تكون غيرته تغيير حال فاعل ذلك بعقاب والله أعلم.
وقوله تعالى: {والإثم} يعني وحرم الإثم واختلفوا في الفرق بين الفاحشة والإثم فقيل الفواحش الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها وتزايدَ والإثم عبارة عن الصغائر من الذنوب فعلى هذا يكون معنى الآية: قل إنما حرم ربي الكبائر والصغائر.
وقيل الفاحشة اسم لما يجب فيه الحد من الذنوب والإثم اسم لما لا يجب فيه الحد، وهذا القول قريب من الأول واعترض على هذين القولين بأن الإثم في أصل اللغة الذنب فيدخل فيه الكبائر والصغائر، وقيل: إن الفاحشة اسم للكبيرة والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيرًا أو صغيرًا والفائدة فيه أن يقال لما حرم الله الكبيرة بقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش} أردفه بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم متوهم أن التحريم مقصور على الكبائر فقط وقيل أن الفاحشة وإن كانت بحسب اللغة اسمًا لكل ما تفاحش من قول أو فعل لكنه قد صار في العرف مخصوصًا بالزنا لأنه إذا أطلق لفظ الفاحشة لم يفهم منه إلا ذاك نوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا وأما الإثم فقد قيل إنه اسم من أسماء الخمر وهو قول الحسن وعطاء.
قال الجوهري وقد تسمى الخمر إثمًا واستدل عليه بقول الشاعر:
شربتُ الإثم حتى ضل عقلي ** كذاك الإثم يذهب بالعقول

وقال ابن سيده صاحب المحكم: وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لأن شربها إثم وبهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم قال لإن العرب ما سمته إثمًا قط في جاهلية ولا في إسلام ولكن قد يكون الخمر داخلًا تحت الإثم لقوله: قل فيهما إثم كبير.
وقوله تعالى: {والبغي} أي وحرم البغي {بغير الحق} والبغي هو الظلم والكبر والاستطالة على الناس ومجاوزة الحد في ذلك كله ومعنى البغي بغير الحق هو أن يطلب ما ليس له بحق فإذا طلب ما له بحق خرج من أن يكون بغيًا {وأن تشركوا} أي وحرم أن تشركوا {بالله ما لم ينزل به سلطانًا} هذا فيه تهكم بالمشركين والكفار لأنه لا يجوز أن ينزل حجة وبرهانًا بأن يشرك به غيره لأن الإقرار بشيء ليس على ثبوته حجة ولا برهانًا ممتنع فلما امتنع حصول الحجة والبينة على صحة القول بالشرك وجب أن يكون باطلًا على الإطلاق فإن قلت البغي والإشراك داخلان تحت الفاحشة والإثم لأن الشرك من أعظم الفواحش وأعظم الإثم وكذا البغي أيضًا من الفواحش والإثم.
قلت: إنما أفردهما بالذكر للتنبيه على عظم قبحهما أنه قال من الفواحش المحرمة البغي والشرك فكأنه بين جملته ثم تفصيله وقوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} تقدم تفسيره. اهـ.