فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ وأن تشركوا بالله ما لم تعلمون}
قال الكلبي لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون بذلك وقالوا استحلوا الحرم فنزلت، وتقدّم تفسير {الفواحش ما ظهر منها وما بطن} في أواخر الأنعام وزيد هنا أقوال، أحدها: {ما ظهر منها} طواف الرّجل بالنهار عريانًا {وما بطن} طوافها بالليل عارية قاله التبريزي، وقال مجاهد: {ما ظهر} طواف الجاهلية عراة {وما بطن} الزنا، وقيل: {ما ظهر} الظلم {وما بطن} السّرقة، وقال ابن عباس ومجاهد في رواية: {ما ظهر} ما كانت تفعله الجاهلية من نكاح الأباء نساء الآباء والجمع بين الأختين وأن ينكح المرأة على عمتها وخالتها {وما بطن} الزنا {والإثم} عام يشمل الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الإثم، هذا قول الجمهور، وقيل هو صغار الذنوب، وقيل: الخمر، وهذا قول لا يصح هنا لأن السّورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وجماعة من الصحابة اصطبحوها يوم أحد وماتوا شهداء وهي في أجوافهم وأما تسمية الخمر إثمًا فقيل هو من قول الشاعر:
شربت الإثم حتى زلّ عقلي

وهو بيت مصنوع مختلَق وإن صحّ فهو على حذف مضاف أي موجب الإثم ولا يذلّ قول ابن عباس والحسن {الإثم} الخمر على أنه من أسمائها إذ يكون ذلك من إطلاق المسبب على السبب وأنكر أبو العباس أن يكون {الإثم} من أسماء الخمر وقال الفضل: {الإثم} الخمر، وأنشد:
نهانا رسول الله أن نقرب الخنا ** وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وأنشد الأصمعي أيضًا:
ورحت حزينًا ذاهل العقل بعدهم ** كأني شربت الإثم أو مسّني خبل

قال: وقد تسمّى الخمر إثمًا وأنشد:
شربت الإثم حتى زلّ عقلي

وقال ابن عباس والفراء: {البغي} الاستطالة، وقال الحسن: السّكر من كل شراب، وقال ثعلب: تكلم الرّجل في الرجل بغير الحقّ إلا أن ينتصر منه بحق، وقيل: الظّلم والكبر، قاله الزمخشري، وقال وأفردوه بالذكر كما قال تعالى: {وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} وقال ابن عطية: {البغى} التعدّي وتجاوز الحدّ مبتدئًا كان أو منتصرًا وقوله: {بغير الحق} زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحقّ لا يسمى بغيًا وتقدّم تفسير {ما لم ينزل به سلطانًا} في الأنعام، وقال الزمخشري فيه تهكّم لأنه لا يجوز أن ينزل برهانًا بأن يشرك به غيره ما لا تعلمون من تحريم البحائر وغيرها، وقال ابن عباس أراد بذلك أنّ الملائكة بنات الله، وقيل قولهم أنه حرّم عليهم مآكل وملابس ومشارب في الإحرام من قبل أنفسهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش} أي ما تفاحش قبحُه من الذنوب، وقيل: ما يتعلق منها بالفروج {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} بدلٌ من الفواحش أي جهرَها وسرَّها {والإثم} أي ما يوجب الإثمَ وهو تعميمٌ بعد تخصيص، وقيل: هو شربُ الخمر {والبغى} أي الظلم أو الكِبْر أُفرد بالذكر للمبالغة في الزجر عنه {بِغَيْرِ الحق} متعلق بالبغي مؤكدٌ له معنى {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} تهكّمٌ بالمشركين وتنبيهٌ على تحريم اتباعِ ما لا يدل عليه برهان {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم: {والله أَمَرَنَا بِهَا} وتوجيهُ التحريم إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون وقوعَه لا ما يعلمون عدمَ وقوعِه قد مر سرُّه. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش} أي ما تزايد قبحه من المعاصي.
وقيل: ما يتعلق بالفروج {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} بدل من {الفواحش} أي جهرها وسرها.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما ظهر الزنا علانية وما بطن الزنا سرًا وقد كانوا يكرهون الأول ويفعلون الثاني فنهوا عن ذلك مطلقًا.
وعن مجاهد ما ظهر التعري في الطواف وما بطن الزنا.
وقيل: الأول: طواف الرجال بالنساء.
والثاني: طواف النساء بالليل عاريات.
{والإثم} أي ما يوجب الإثم، وأصله الذم فأطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب، وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش.
وقيل: إن الإثم هو الخمر كما نقل عن ابن عباس والحسن البصري وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره وأنشدوا له قول الشاعر:
نهانا رسول الله أن نقرب الزنا ** وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وقول الآخر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ** كذاك الإثم يذهب بالعقول

وزعم ابن الأنباري أن العرب لا تسمي الخمر اثمًا في جاهلية ولا إسلام وأن الشعر موضوع.
والمشهور أن ذلك من باب المجاز لأن الخمر سبب الإثم.
وقال أبو حيان وغيره: إن هذا التفسير غير صحيح هنا لأن السورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد.
وأيضًا يحتاج حينئذ إلى دعوى أن الحصر إضافي فتدبر.
{والبغى} الظلم والاستطالة على الناس.
وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه {بِغَيْرِ الحق} متعلق بالبغي لأن البغي لا يكون إلا كذلك.
وجوز أن يكون حالًا مؤكدة.
وقيل: جيء به ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه فإنه يسمى بغيًا في الجملة لكنه بحق وهو كما ترى {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} أي حجة وبرهانًا، والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معًا على أبلغ وجه كقوله:
لا ترى الضب بها ينجحر

وفيه من التهكم بالمشركين ما لا يخفى {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} بالإلحاد في صفاته واإفتراء عليه كقولهم: {والله أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] ولا يخفى ما في توجيه التحريم إلى قولهم عليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه دون ما يعلمون عدم وقوعه من السر الجليل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
لَمَّا أنبأ قوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} [الأعراف: 32] إلى آخره، بأنّ أهل الجاهليّة حُرِموا من الزّينة والطّيبات من الرّزق، وأنبأ قوله تعالى قبل ذلك: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف: 28] بأنّ أهل الجاهليّة يَعْزُون ضلالهم في الدّين إلى الله، فأنتج ذلك أنّهم ادّعوا أنّ ما حَرّموه من الزّينة والطّيبات قد حرّمه الله عليهم، أعقب مجادلتهم ببيان ما حرّمه الله حقًّا وهم ملتبسون به وعاكفون على فعله.
فالقصر المفاد من {إنَّما} قصر إضافي مُفَادُهُ أنّ الله حرّم الفَواحش وما ذُكر معها لاَ ما حرّمتموه من الزّينة والطّيّبات، فأفاد إبطال اعتقادهم، ثمّ هو يفيد بطريق التّعريض أنّ ما عدّه الله من المحرّمات الثّابت تحريمها قد تلبّسوا بها، لأنّه لمّا عدّ أشياء، وقد علم النّاس أنّ المحرّمات ليست محصورة فيها، عَلم السّامع أنّ ما عيّنه مقصود به تعيين ما تلبّسوا به فحصل بصيغة القصر ردّ عليهم من جانبي ما في صيغة إنّما من إثبات ونفي: إذ هي بمعنى مَا وإلاّ، فأفاد تحليل ما زعموه حرامًا وتحريم ما استبَاحوه من الفواحش وما معها.
والفواحش جمع فاحشة وقد تقدّم ذكر معنى الفاحشة عند قوله تعالى: {إنه كان فاحشة ومقتًا} في سورة النّساء (22) وتقدّم آنفًا عند قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة} [الأعراف: 28].
و{ما ظهر منها} هو ما يظهره النّاس بين قرنائهم وخاصتهم مثل البغاء والمخادنة، وما بطن هو ما لا يظهره النّاس مثل الوأد والسّرقة، وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} في سورة الأنعام (151).
وقد كانوا في الجاهليّة يستحلّون هذه الفواحش وهي مفاسد قبيحة لا يشكّ أولو الألباب، لو سئلوا، أنّ الله لا يرضى بها، وقيل المراد بالفواحش: الزّنا، وما ظهر منه وما بطن حالان من أحوال الزّناة، وعلى هذا يتعيّن أن يكون الإتيان بصيغة الجمع لاعتبار تعدّد أفعاله وأحواله وهو بعيد.
وأمّا الإثم فهو كلّ ذنب، فهو أعمّ من الفواحش، وتقدّم في قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير} في سورة البقرة (219).
وقوله: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} في سورة الأنعام (120)، فيكون ذكر الفواحش قبلَه للاهتمام بالتّحذير منها قبل التّحذير من عموم الذّنوب، فهو من ذكر الخاص قبل العام للاهتمام، كذكر الخاص بعد العام، إلاّ أنّ الاهتمام الحاصل بالتّخصيص مع التّقديم أقوى لأنّ فيه اهتمامًا من جهتين.
وأمّا البغي فهو الاعتداء على حقّ الغير بسلب أموالِهم أو بأذاهم، والكبرُ على النّاس من البغي، فما كان بوجه حقّ فلا يسمّى بَغيًا ولكنّه أذىً، قال الله تعالى: {والّذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16] وقد كان البغي شائعًا في الجاهليّة فكان القوي يأكل الضّعيف، وذو البأس يغير على أنعام النّاس ويقتل أعداءه منهم، ومن البغي أن يضربوا من يطوف بالبيت بثيابه إذا كان من غير الحُمْس، وأن يُلزموه بأن لا يأكل غير طعام الحُمْس، ولا يطوف إلاّ في ثيابهم.
وقوله: {بغير حق} صفة كاشفة للبغي مثل العشاء الآخرة لأنّ البغي لا يكون إلاّ بغير حقّ.
وعطف {البغي} على {الإثم} من عطف الخاص على العام للاهتمام به، لأنّ البغي كان دأبهم في الجاهليّة، قال سوار بن المضرِّب السّعدي:
وأنَّي لاَ أزَالُ أخَا حُروب ** إذا لم أجْننِ كنت مِجَنَّ جان

والإشراك معروف وقد حرّمَه الله تعالى على لسان جميع الأنبياء منذ خلَق البشر.
و{ما لم ينزّل به سلطانا} موصول وصلته، ومَا مفعول {تشركوا بالله}، والسّلطان البرهان والحجّة، والمجرور في قوله: {به} صفة ل {سلطانا}، والباء للمصاحبة بمعنى معه أي لم ينزّل حجّة مصاحبة له، وهي مصاحبة الحجّة للمدّعي وهي مصاحبة مجازية ويجوز أن يكون الباء بمعنى على للاستعلاء المجازي على حدّ قوله تعالى: {من إن تأمنه بقنطار} [آل عمران: 75] أي سلطانًا عليه، أي دليلًا.
وضمير به عائد إلى ما وهو الرابط للصّلة.
فمعنى نفي تنزيل الحجّة على الشّركاء: نفي الحجّة الدّالة على إثبات صفة الشّركة مع الله في الإلهيّة، فهو من تعليق الحكم بالذّات والمرادُ وصفُها، مثلُ حرّمت عليكم الميتة أي أكلها.
وهذه الصّلة مؤذنة بتخطئة المشركين، ونفيِ معذرتهم في الإشراك، بأنّه لا دليل يشتبه على النّاس في عدم استحقاق الأصنام العبادة، فَعَرّف الشّركاء المزعومين تعريفًا لطريق الرسم بأنّ خاصّتهم: أنّ لا سُلطان على شركتهم لله في الإلهية، فكلّ صنم من أصنامهم واضحة فيه هذه الخاصّة، فإنّ الموصول وصلته من طرق التّعريف، وليس ذلك كالوصف، وليس للموصول وصلته مفهوم مخالفة، ولا الموصولاتُ معدودة في صِيَغ المفاهيم، فلا يتّجه ما أورده الفخر من أن يقول قائل: هذا يوهم أن مِن بين الشّرك ما أنزل الله به سلطانًا واحتياجِه إلى دفع هذا الإيهام، ولا ما قفاه عليه صاحب الانتصاف من تنظير نفي السّلطان في هذه الآية بنحو قول امرئ القيس:
على لا حببٍ لا يُهتدَى بمناره

ولا يتّجه ما نحاه صاحبُ الكشاف من إجراء هذه الصّلة على طريقة التّهكّم.
وقولُه: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} تقدّم نظيره آنفًا عند قوله تعالى، في هذه السّورة: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28].
وقد جمعت هذه الآية أصول أحوال أهل الجاهليّة فيما تلبسوا به من الفواحش والآثام، وهم يزعمون أنّهم يتورّعون عن الطّواف في الثّياب، وعن أكل بعض الطّيّبات في الحجّ.
وهذا من ناحية قوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عنه الله والفتنة أكبر من القتل} [البقرة: 217]. اهـ.