فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{يا بني آدم} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى كافة الناس اهتمامًا بشأن ما في حيّزه {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} هي إنْ الشرطيةُ ضُمَّت إليها ما لتأكيد معنى الشرطِ، ولذلك لزِمت فعلَها النونُ الثقيلةُ أو الخفيفةُ، وفيه تنبيه على أن إرسالَ الرسلِ أمرٌ جائزٌ لا واجبٌ عقلًا {رُسُلٌ مّنكُمْ} الجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لرسلٌ أي كائنون من جنسكم، وقولُه تعالى: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى} صفةٌ أخرى لرسلٌ أي يبيِّنون لكم أحكامي وشرائعي، وقولُه تعالى: {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} جملةٌ شرطيةٌ وقعت جوابًا للشرط أي فمن اتقى منكم التكذيبَ وأصلح عملَه فلا خوف الخ، وكذا قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَا بَنِي آَدَمَ} خطاب لكافة الناس.
ولا يخفى ما فيه من الاهتمام بشأن ما في حيزه.
وقد أخرج ابن جرير عن أبي يسار السلمي قال: إن الله تبارك وتعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال: {يا بنى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} حتى بلغ {فاتقون} ثم بثهم.
والذي ذهب إليه بعض المحققين أن هذا حكاية لما وقع مع كل قوم.
وقيل: المراد ببني آدم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الظاهر.
ويبعده جمع الرسل في قوله سبحانه: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ} أي من جنسكم.
والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل.
و{أَمَّا} هي إن الشرطية ضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط فهي مزيدة للتأكيد فقط، وقيل: إنها تفيد العموم أيضًا فمعنى إما تفعلن مثلًا إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه.
ولزمت الفعل بعد هذا الضم نون التأكيد فلا تحذف على ما ذهب إليه المبرد والزجاج ومن تبعهما إلا ضرورة ومن ذلك قوله:
فإما تريني ولي لمة ** فإن الحوادث أودي بها

ورد بأن كثرة سماع الحدف تبعد القول بالضرورة.
ووجه هذا اللزوم عند بعض حذار انحطاط رتبة فعل الشرط عن حرفه، وقيل: إن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم أو ما المزيدة ليكون ذلك توطئة لدخول التأكيد وعليه فأمر الاستتباع بعكس ما تقدم.
وفي الإتيان بإن تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب وهو الذي ذهب إليه أهل السنة.
وقالت المعتزلة: إنه واجب على الله تعالى لأنه سبحانه بزعمهم يجب عليه فعل الأصلح.
وقوله سبحانه: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتي} صفة أخرى لرسل.
وجوز أن يكون في موضع الحال منه أو من الضمير في الظرف أي يعرضون عليكم أحكامي وشرائعي ويخبرونكم بها ويبينونها لكم.
وقوله تعالى: {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} جواب الشرط ومن إما شرطية أو موصولة ومنكم مقدر في نظم الكلام ليرتبط الجواب بالشرط.
والمراد فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف إلخ.
وتوحيد الضمير وجمعه لمراعاة لفظ من ومعناه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)}
يجيء في موقع هذه الجملة: من التّأويل، ما تقدّم في القوللِ في نظيرتها وهي قوله تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم} [الأعراف: 26].
والتّأويل الذي استظهرنا به هنالك يبدو في هذه النظيرة الرّابعة أوضحَ.
وصيغة الجمع في قوله: {رسل} وقوله: {يقصون} تقتضي توقّع مجيءِ عدّةِ رسل، وذلك منتف بعد بعثة الرّسول الخاتم للرّسل الحاشر العاقب عليه الصّلاة والسّلام، فذلك يتأكّد أن يكون هذا الخطاب لبني آدم الحاضرين وقت نزول القرآن، ويرجح أن تكون هذه النّداآت الأربعة حكاية لقولٍ موجّه إلى بني آدم الأوّلين الذي أوّلُه: {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف: 25].
قال ابن عطيّة: وكأنّ هذا خطاب لجميع الأمم، قديمها وحديثها، هو متمكّن لهم، ومتحصّل منه لحاضري محمّد صلى الله عليه وسلم أنّ هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه يريد أنّ الله أبلغ النّاس هذا الخطابَ على لسان كلّ نبيء، من آدم إلى هلم جرّا، فما من نبيء أو رسول إلاّ وبلَّغه أمَّته، وأمَرَهم بأن يبلغ الشّاهد منهم الغائبَ، حتّى نزل في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فعلمت أمّته أنّها مشمولة في عموم بني آدم.
وإذا كان ذلك متعيّنًا في هذه الآية أو كالمتعيّن تعيّن اعتبار مثله في نظائرها الثّلاث الماضية، فشد به يدك.
ولا تعبأْ بمن حَرَدك.
فأمَا إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجّهًا إلى المشركين في زمن النّزول، بعنوان كونهم من بني آدم، فهنالك يتعيّن صرف معنى الشّرط إلى ما يأتي من الزّمان بعد نزول الآية لأنّ الشّرط يقتضي الاستقبال غالبًا.
كأنّه قيل إنْ فاتكم اتّباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يَفْتُكم فيما بقي، ويتعيّن تأويل يأتينّكم بمعنى يَدْعُونَّكم، ويتعيَّن جعل جمع الرّسل على إرادة رسول واحد، تعظيمًا له، كما في قوله تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37] أي كذّبوا رسوله نُوحا، وقوله: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء: 105] وله نظائر كثيرة في القرآن.
وهذه الآية، والتي بعدها متّصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أوّل السّورة: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] الآية اتّصال التّفصيل بإجماله.
أكد به تحذيرهم من كيد الشّيطان وفتونه، وأراهم به مناهج الرّشد التي تُعين على تجنّب كيده، بدعوة الرّسل إياهم إلى التّقوى والإصلاح، كما أشار إليه بقوله، في الخطاب السّابق: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] وأنبأهم بأنّ الشّيطان توعَّد نوع الإنسان فيما حكى الله في قوله: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] الآية فلذلك حذرّ الله بني آدم من كيد الشّيطان، وأشعرهم بقوّة الشّيطان بقوله: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27] عسى أن يتّخذوا العُدّة للنّجاة من مخالب فتنته، وأردف ذلك بالتّحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين، ثمّ عزّز ذلك بإعلامه إياهم أنّه أعانهم على الاحتراز من الشّيطان، بأن يبعث إليهم قومًا من حزب الله يبلّغونهم عن الله ما فيه منجاة لهم من كيد الشّياطين، بقوله: {يا بني آدم إما يأتيكم رسل منكم} الآية فأوصاهم بتصديقهم والامتثال لهم.
و{إمَّا} مركّبة من إن الشّرطيّة وما الزائدة المؤكّدة لمعنى الشّرطية، واصطلح أئمّة رسم الخطّ على كتابتها في صورة كلمة واحدَة، رعْيًا لحالة النّطق بها بإدغام النّون في الميم، والأظهر أنّها تفيد مع التّأكيد عموم الشّرط مثل أخواتها مهما وأينما، فإذا اقترنت بإن الشّرطية اقترنت نون التّوكيد بفعل الشّرط كقوله تعالى: {فإما ترين من البشر أحدًا فقولي} سورة مريم (26) لأنّ التّوكيد الشّرطي يشبه القسم، وهذا الاقتران بالنّون غالب، ولأنّها لما وقعت توكيدًا للشّرط تنزّلت من أداة الشّرط منزلة جزء الكلمة.
وقوله: {منكم} أي من بني آدم، وهذا تنبيه لبَني آدم بأنّهم لا يترقّبون أن تجيئهم رسل الله من الملائكة لأنّ المرسَل يكون من جنس من أرسل إليهم، وفي هذا تعريض بالجهلة من الأمم الذين أنكروا رسالة الرّسل لأنّهم من جنسهم، مثل قوم نوح، إذ قالوا: {ما نراك إلا بشرًا مثلنا} [هود: 27] ومثل المشركين من أهل مكّة إذ كذّبوا رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بأنّه بَشر قال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أَبَعثَ الله بشرًا رسولًا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكًا رسولًا} [الإسراء: 94، 95].
ومعنى {يقصون عليكم آياتي} يتلونها ويحكونها ويجوز أن يكون بمعنى يُتبعون الآية بأخرى ويجوز أن يكون بمعنى يظهرون وكلّها معان مجازيّة للقص لأنّ حقيقة القص هي أنّ أصل القصص إتْباع الحديث من اقتصاص أثر الأرجل واتّباعه لتعرف جهة الماشي، فعلى المعنى الأوّل فهو كقوله في الآية الأخرى: {ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم} [الزمر: 71] وأيًّا مّا كان فهو محتمل للحمل على جميعها من استعمال اللّفظ في مجازيْه.
الآية أصلها العلامة الدّالة على شيء، من قول أو فعل، وآيات الله الدّلائل التي جعلها دالة على وجوده، أو على صفاته، أو على صدق رسله، كما تقدّم عند قوله تعالى: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} في سورة البقرة (39)، وقوله تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} في سورة الأنعام (37)، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للنّاس، للتّعريض بالمشركين من العرب، الذين أنكروا رسالة محمّد.
ووجه دلالة الآيات على ذلك إمّا لأنّها جاءت على نظم يَعجز البشر عن تأليف مثله، وذلك من خصائص القرآن، وإمّا لأنّها تشتمل على أحكام ومعان لا قِبَل لغير الله ورسوله بإدراك مثلها، أو لأنّها تدعو إلى صلاح لم يعهَدْه النّاس.
فيَدل ما اشتملت عليه على أنّه ممّا أراده الله للنّاس، مثل بقيّة الكتب التي جاءت بها الرّسل، وإمّا لأنّها قارنتها أمور خارقة للعادة تحدّى بها الرّسولُ المرسلُ بتلك الأقوال أمَّتَه، فهذا معنى تسميتها آيات، ومعنَى إضافتها إلى الله تعالى، ويجوز أن يكون المراد بالآيات ما يشمل المعجزاتتِ غيرَ القولية، مثل نبع الماء من بين أصابع محمّد ومثل قلب العصا حيّة لموسى عليه السلام.
وابراء الأكمه لعيسى عليه السّلام، ومعنى التّكذيب بها العناد بإنكارها وجحدها.
وجملة: {فمن اتقى وأصلح} جواب الشّرط وبينها وبين جملة: {إما يأتينكم} محذوف تقديره: فاتقى منكم فريق وكذب فريق {فمن اتقى} إلخ، وهذه الجملة شرطيّة أيضًا، وجوابها {فلا خوف عليهم}، أي فمن اتّبع رسلي فاتّقاني وأصلح نفسه وعمله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولمّا كان إتيان الرّسل فائدته لإصلاح النّاس، لا لنفع الرّسل، عُدل عن جعل الجواب اتّباعّ الرّسل إلى جعله التّقوى والصّلاح.
إيماء إلى حكمة إرسال الرّسل، وتحريضا على اتّباعهم بأن فائدتُه للأمم لا للرّسل، كما قال شعيب: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت} [هود: 88]، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدّنيا والآخرة ولا هم يحزنون من شيء من ذلك، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقًا بمقدار قوّة التّقوى والصّلاح، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصّالحين، ومثلُه قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [يونس: 62 64].
وقد نُفي الخوف نفي الجنس بلا النّافية له، وجيء باسمها مرفوعًا لأنّ الرّفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا، لأنّ الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهّم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحدِ، ولو فتح مثله لصحّ، ومنه قول الرابّعة من نساء حديث أمّ زرع: «زوجي كَلَيْللِ تِهامَه، لا حَرّ ولا قَرّ ولا مخافة ولا سئامَه» فقد روي بالرّفع وبالفتح.
وعلى في قوله: {فلا خوف عليهم} للاستعلاء المجازي، وهو المقارنة والملازمة، أي لا خوف ينالهم.
وقوله: {ولا هم يحزنون} جملة عطفت على جملة: {فلا خوف عليهم}، وعُدل عن عطف المفرد، بأن يقال ولا حَزَنٌ، إلى الجملة: ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم، فيدلّ على أنّ الحَزَن واقع بغيرهم، وهم الذين كفروا.
فإنّ بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدّم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر، نحو: ما أنا قُلْتُ هذا، فإنّه نفيُ صدور القول من المتكلّم مع كون القول واقعًا من غيره، وعليه بيت دلائل الإعجاز، وهو للمتنبّي:
وما أنا أسقمت جسمي به ** ولا أنا أضرَمْتُ في القلب نارًا

فيفيد أنّ الذين كفروا يَحزنون إفادة بطريق المفهوم، ليكون كالمقدّمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون. اهـ.