فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة: {حتى إذا جاءتهم رسلنا} تفصيل لمضمون جملة {ينالهم نصيبهم من الكتاب} فالوقت الذي أفاده قوله: {إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لَقُوه في الدّنيا.
و{حتى} ابتدائيّة لأنّ الواقع بعدها جملة فتفيد السّببيّة، فالمعنى: ف {إذا جاءتهم رسلنا} إلخ، وحَتّى الابتدائيه لها صدر الكلام فالغاية التي تدلّ عليها هي غاية مَا يُخبر به المخبر، وليست غايةَ ما يبلغ إليه المعطوف عليه بحتّى، لأنّ ذلك إنّما يُلتزم إذا كانت حتّى عاطفة، ولا تفيد إلاّ السّببيّة كما قال ابن الحاجب فهي لا تفيد أكثر من تسبّب ما قبلها فيما بعدها، قال الرضي؛ قال المصنف: وإنّما وجب مع الرّفع السّببيّة لأنّ الاتّصال اللّفظي لمَّا زال بسبب الاستئناف شُرِط السّببيّة التي هي موجبة للاتّصال المعنوي، جبرًا لما فات من الاتّصال اللّفظي، قال عَمرو بن شَأس:
نذود الملوك عنكُمُ وتذودُنا ** ولا صُلْحَ حتّى تَضبَعُونَ ونَضْبَعا

وقد تقدّم بعض هذا عند قوله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة} في سورة الأنعام (31) وحتّى الابتدائيّة تدلّ على أنّ مضمون الكلام الّذي بعدها أهمّ بالاعتناء للإلقاء عند المتكلّم لأنّه أجدى في الغرض المسوق له الكلام، وهذا الكلام الواقع هنا بعد حتى فيه تهويلُ ما يصيبهم عند قبض أرواحهم، وهو أدخل في تهديدهم وترويعهم وموعظتهم، من الوعيد المتعارف، وقد هدّد القرآن المشركين بشدائد الموْت عليهم في آيات كثيرة لأنهم كانوا يرهبونه.
والرّسُل هم الملائكة قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت} [السجدة: 11] وقال: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} [الأنفال: 50].
وجملة: {يتوفونهم} في موضع الحال من {رُسلنا} وهي حال معلِّلة لعاملها، كقوله: {ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} [الأعراف: 61، 62] أي رسول لأبلّغكم ولأنْصحَ لكم.
والتّوفي نزع الرّوح من الجسد، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك} في سورة آل عمران (55) وهو المراد هنا، ولا جدوى في حمْلهِ على غير هذا المعنى، ممّا تردّد فيه المفسّرون، إلاّ أن المحافظة على معنى الغاية لحرف حتى فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعًا، إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب الاستئصال، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمّة الشّرك.
ويجوز أن يكون المراد حتى يتوفَّون آحادهم في أوقات متفرّقه إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب وعيد العذاب، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمععِ والمراد منه التّوزيع أي قال كلّ ملَك لمن وُكِّل بتوفّيهِ، على طريقة: رَكِبَ القومُ دَوَابَّهم.
وقد حكي كلام الرّسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة، لأنّ وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد.
والاستفهام في قوله: {أين ما كنتم تدعون من دون الله} مستعمل في التّهكّم والتّأييس.
وما الواقعة بعد أين موصولة، يعني: أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنّهم ينفعونكم عند الشّدائد ويردّون عنكم العذاب فإنّهم لم يَحْضُروكم، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أوراحهم، فقد جاء في حديث الموطأ: أنّ الميّت يرى مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمِنْ أهل الجنّة وإن كان من أهل النّار يقال له هذا مقعدك حتّى يبعثك الله.
وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر.
وقولهم: {ضلّوا عنّا} أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا، وهذا يقتضي أنّهم لَمَّا يعلمُوا أنّهم لا يُغنون عنهم شيئًا من النّفع، فظنّوا أنّهم أذهبهم ما أذهبهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم، ولم يعلموا سببه، لأنّ ذلك إنّما يتبيّن لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنّهم كانوا يدعونهم من دون الله بخلاف ما حُكي عنهم في يوم الحشر من قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] ولذلك قال هنا: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}، وقال في الآخرى: {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} [الأنعام: 24].
والشّهادة هنا شهادة ضِمنية لأنّهم لما لم ينفُوا أن يكونوا يدْعُون من دون الله وأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم قد اعترفوا بأنّهم عبدوهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَمَنْ أَظْلَمُ}
تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إلا الإِقرار. ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب؛ لأنه أولًا ظلم نفسه، وظلم أمته، وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية، وأما ظلمه للناس فلأنه سيأخذ أوزار ما يفعلون؛ لأنه قد افترى على الله كذبًا. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي قوَّل الله ما لم يقله، أو كذَّب ما قاله الله، وكلا الأمرين مساوٍ للآخر. والآية- كما نعلم- هي الأمر العجيب، والآيات أُطلقت في القرآن على معانٍ متعددة؛ فالحق يقول: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ...} [فصلت: 3]
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييدًا لرسله. {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون...} [الإسراء: 59]
فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة.
وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر...} [فصلت: 37]
فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل آيات القرآن؛ لأنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون كله تقول لنفسك: هذا شيء عجيب؛ لأن الذي جاءت على لسانه هذه الآيات نبي أمي، ما عرف عنه أنه زاول تعلمًا، وما جربوا عليه أنه قال شعرًا، أو نثرًا أو له رياضة في كلام، وبعد ذلك ما جرب حكم أمم، وما درس تاريخ الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها.
إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس، وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها، وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه الأمة البدوية، وكان كل نظام هذه الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها رئيس، وبعد أن جاءت رسالته صلى الله عليه وسلم جاء بنظام يجمع أمم العالم كلها، ثم ينجح في أدراة الدنيا كلها، وهذه مسألة عجيبة، وكل آية من هذه الآيات كانت معجزة وعجيبة.
وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة؛ فالشمس والقمر بحسبان، وكل في فلك يسبحون، إنه نظام عجيب.
إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن، والمعجزات والآيات الكونية. وكيف يكذبون إذن بالآيات؟. ألا ينظرون إلى الكون. وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني لا تضارب فيه؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق؛ فهو العالم، القادر، الحكيم، الحسيب. وكذلك كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات، ويقولون: إنه ساحر، وحين تتلى عليهم آيات يكذبونها. إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته ودقته، ولم يلتفتوا إلى الإِيمان به قمة عقيدية، وكذلك كذبوا بالآيات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات القرآن العظيم.
وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، تساءل: كيف تقولون. إنه سحر الناس فآمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنت؟. وحينما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ...} [النحل: 103]
قال الحق: {... لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103]
وقالوا: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]
فيعلم الحق رسله أن يقول: {... فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]
وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عامًا فهل عرف عنه أنه يقول أو يتكلم بشيء من هذا؟
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات؟ أنهم خلق الله، والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا.
إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قَدَّر لهم، من الرزق والحياة، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لذلك يقول الحق: {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب...} [الأعراف: 37]
أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب، والعاصي له العقاب، فيقول الحق هنا: {... حتى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37]
وساعة تسمع {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} تفهم أن الحياة تنتهي، وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو التوفي، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه وتعالى، ومرة ينسب إلى المَلَك، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول سبحانه: {حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}، والأساليب الثلاثة ملتقية؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده، بل أخذ التلقي من الله، فالأمر الأعلى من الله، وأمر التوسط للملك، وأمر التنفيذ للرسل.
والتوفي على إطلاقه هو استيفاء الأجل، فإن كان أجل الحياة فهو ترفية بالموت، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب. إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفي أجلهم الثاني؛ لأن كل إنسان له أجلان: أجل ينهي هذه الحياة، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب. وهذا لا يمنع أن يقال: إن قيامة كل إنسان تأتي بموته؛ لأن للقيامة مراحل بدءا من القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار.
وحين تسألهم الملائكة: {... أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37]
هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد غابوا واختفوا ولا يظهر لهم أثر.
{وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...} [السجدة: 10]
وهم- إذن- يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون الله، والمراد أنه لا وجود لهم، وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم. ولكن هذه الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف قد انتهى، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده الله؛ ففي دار التكليف كان الإِنسان حرًّا أن يفعل أو ألاّ يفعل، ولكن في الدار الآخرة لا تنفع هذه الشهادة. وذلك لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم، ولن يتأبوا على الجزاء؛ لذلك يقول الحق: {قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ...}. اهـ.

.التفسير المأثور:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}
أخرج الفريابي وابن جرير وأبو الشيخ وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} قال: ما قدر لهم من خير وشر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} قال: من الأعمال، من عمل خيرًا جزى به ومن عمر شرًا جزى به.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله و{نصيبهم من الكتاب} قال: ما كتب عليهم من الشقاء والسعادة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} قال: قوم يعملون أعمالًا لابد لهم أن يعملوها.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} قال: ما سبق من الكتاب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {نصيبهم من الكتاب} قال: ما وعدوا فيه من خير أو شر.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} قال: رزقه وأجله وعمله.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في قوله: {نصيبهم من الكتاب} قال: من العذاب.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن. مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: {ينالهم نصيبهم من الكتاب} قال مما كتب لهم من الرزق. اهـ.