فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين حالهم إذا أمروا بالصلاح العام بين أنهم إذا دعوا إلى الصلاح الخاص الذي هو أس كل صلاح سموه سفهًا فقال: {وإذا قيل} أي من أي قائل كان {لهم آمنوا} أي ظاهرًا وباطنًا {كما آمن الناس} أي الذين هم الناس ليظهر عليكم ثمرة ذلك من لزوم الصلاح واجتناب الفساد والإيمان المضاف إلى الناس أدنى مراتب الإيمان قاله الحرالي، وهو مفهم لما صرح به قوله: {وما هم بمؤمنين} {قالوا أنؤمن} أي ذلك الإيمان {كما آمن السفهاء} أي الذين استدرجهم إلى ما دخلوا فيه بعد ترك ما كان عليه آباؤهم خفة نشأت عن ضعف العقل، ثم رد سبحانه قولهم بحصر السفه فيهم فقال: {ألا إنهم هم السفهاء} لا غيرهم لجمودهم على رأيهم مع أن بطلانه أظهر من الشمس ليس فيه لبس {ولكن لا يعلمون} أي ليس لهم علم أصلًا لا بذلك ولا بغيره، ولا يتصور لهم علم لأن جهلهم مركب وهو أسوأ الجهل والعلم، قال الحرالي: ما أخذ بعلامة وأمارة نصبت آية عليه- انتهى.
ولما كان الفساد يكفي في معرفته والسد عنه أدنى تأمل والسفه لا يكفي في إدراكه والنهي عنه إلا رزانة العلم ختمت كل آية بما يناسب ذلك من الشعور والعلم ولما كان العام جزء الخاص قدم عليه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كما آمن الناس} أي إيمانًا مقرونًا بالإخلاص بعيدًا عن النفاق، ولقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يكن إيمانًا لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص، فكان قوله: {ءامَنُواْ} كافيًا في تحصيل المطلوب، وكان ذكر قوله: {كَمَا ءامَنَ الناس} لغوًا، والجواب: أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص، أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله: {كَمَا ءامَنَ الناس}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره.
{آمِنُواْ كَمَا آمَنَ الناس} أي صدّقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشَرْعه، كما صدّق المهاجرون والمحققون من أهل يَثْرِب.
وألف {آمنوا} ألف قطع؛ لأنك تقول: يؤمن، والكاف في موضع نصب؛ لأنها نعت لمصدر محذوف، أي إيمانًا كإيمان الناس.
قوله تعالى: {قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس.
وعنه أيضًا: مؤمنو أهل الكتاب.
وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء فأطلع الله نبيّه والمؤمنين على ذلك، وقرّر أن السَّفه ورِقّة الحُلُوم وفساد البصائر إنما هي في حيزِّهم وصفة لهم، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرَّينْ الذي على قلوبهم.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود؛ أي وإذا قيل لهم يعني اليهود آمنوا كما آمن الناس: عبد اللَّه بن سَلاَم وأصحابُه، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء‍! يعني الجهال والخرقاء. اهـ.
فائدة: في نوع اللام في {الناس}:

.قال الفخر:

اللام في {الناس} فيها وجهان:
أحدهما: أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه، وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه. لأنهم من أبناء جنسهم.
والثاني: أنها للجنس ثم هاهنا أيضًا وجهان: أحدهما: أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا، منهم وكانوا قليلين، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر.
والثاني: أن المؤمنين هم الناس في الحقيقة، لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} من قِبَل المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثرَ نهيِهم عن المنكر إتمامًا للنُصح وإكمالًا للإرشاد: {ءامَنُواْ} حُذف المؤمَنُ به لظهوره أو أريدَ افعلوا الإيمان: {كَمَا ءامَنَ الناس} الكاف في محل النصب على أنه نعتٌ لمصدر مؤكدٍ محذوف أي آمنوا إيمانًا مماثلًا لإيمانهم فما مصدرية أو كافة، كما في ربما، فإنها تكف الحرف عن العمل، وتصحح دخولَها على الجملة، وتكون للتشبيه بين مضموني الجملتين، أي حققوا إيمانَكم كما تحقق إيمانُهم، واللام للجنس، والمراد بالناس الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، فإن اسمَ الجنس كما يُستعمل في مسماه يستعمل فيما يكون جامعًا للمعاني الخاصة به المقصودةِ منه، ولذلك يُسلب عما ليس كذلك، فيقال هو ليس بإنسان، وقد جمعهما من قال:
إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان

أو للعهد، والمرادُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ومن معه، أو مَنْ آمن مِنْ أهل جِلْدتهم كابن سلام وأضرابِه، والمعنى آمنوا إيمانًا مقرونًا بالإخلاص، متمحّضًا عن شوائب النفاق، مماثلًا لإيمانهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ الناس} إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة كما أن {لا تفسدوا} [البقرة: 11] إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمة ولذا قدم، وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته كما قيل لأن اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان والكاف في موضع نصب، وأكثر النحاة يجعلونها نعتًا لمصدر محذوف أي إيمانًا كما آمن الناس وسيبويه لا يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناءً على أن الكاف لا تكون كذلك وما إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف، والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانًا مشابهًا لإيمان الناس، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقرونًا بالإخلاص خالصًا عن شوائب النفاق، والمراد من الناس الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقًا كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم نصب عين أولى الغين، وملتفت خواطرهم لتأملهم منهم، وقد مر ذكرهم أيضًا لدخولهم دخولًا أوليًا في الذين آمنوا فالعهد خارجي، أو خارجي ذكري، أو من آمن من أبناء جنسهم كعبد الله بن سلام كما قاله جماعة من وجوه الصحابة، أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل، فاللام إما للجنس أو للاستغراق.
واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب؛ والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله، ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق:
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ** أخوها غذته أمه بلبانها

نعم إن كان معروفًا بالزندقة داعيًا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَا ءَامَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء}.
هو من تمام المقول قبله فحكمه حكمه بالعطف والقائل، ويجوز هنا أن يكون القائل أيضًا طائفة من المنافقين يشيرون عليهم بالإقلاع عن النفاق لأنهم ضجروه وسئموا كُلَفَهُ ومتَّقياته، وكَلَّت أذهانهم من ابتكار الحِيَل واختلاق الخطل.
وحذف مفعول {آمِنوا} استغناء عنه بالتشبيه في قوله: {كما آمن الناس} أو لأنه معلوم للسامعين.
وقوله: {كما آمن الناس} الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل، واللام في {الناس} للجنس أو للاستغراق العرفي.
والمراد بالناس من عَدَا المخاطبين، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء، قال عَمْرو ابن البَرَّاقَة النِّهْمِي:
وننصُرُ مولانا ونَعَلُم أَنَّه ** كما الناسِ مجرومٌ عليه وجَارم

.قال الفخر:

القائل: {ءامِنُواْ كما آمن الناس} إما الرسول، أو المؤمنون، ثم كان بعضهم يقول لبعض: أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان، والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالُواْ} مقابِلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر، واصفين للمراجيح الرِّزانِ بضد أوصافِهم الحسانِ: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} مشيرين باللام إلى من أشير إليهم في الناس من الكاملين، أو المعهودين، أو إلى الجنس بأسره، وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد، والسَّفهُ خِفةٌ وسخافةُ رأيٍ يُورِثهما قصورُ العقل، ويقابله الحِلْم والأناة، وإنما نسبوهم إليه مع أنهم في الغاية القاصية من الرشد والرزانةِ والوقار، لكمال انهماكِ أنفسِهم في السفاهة، وتماديهم في الغَواية، وكونِهم ممن زُين له سوءُ عمله فرآه حسنًا، فمن حسِب الضلالَ هدىً يسمِّي الهدى لا محالة ضلالًا، أو لتحقير شأنهم، فإن كثيرًا من المؤمنين كانوا فقراءَ، ومنهم مَوالٍ كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المرادِ بالناس عبدَ الله بن سلام وأمثالَه، وأيًا ما كان فالذي يقتضيه جزالةُ التنزيل ويستدعي فخامةُ شأنِه الجليل أن يكون صدورُ هذا القول عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابًا عن نصيحتهم، وحيث كانوا فحواه تسفيهَ أولئك المشاهيرِ الأعلام، والقدحَ في إيمانهم لزم كونُهم مجاهرين لا منافقين. وذلك مما لا يكاد يساعده السِباق والسِياق، وعن هذا قالوا ينبغي أن يكون ذلك فيما بينهم لا على وجه المؤمنين.
قال الإمام الواحدي: إنهم كانوا يُظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبيّه عليه السلام والمؤمنين بذلك عنهم، وأنت خبير بأن إبرازَ ما صدر عن أحد المتحاورَيْن في الخلاء في معرِض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهدَ به في الكلام فضلًا عما هو في منصِب الإعجاز، فالحقُ الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر عنهم بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونَهم مجاهرين، فإنه ضربٌ من الكفر أنيقٌ، وفنّ في النفاق عريق، مصنوعٌ على شاكلة قولِهم: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} فكما أنه كلامٌ ذو وجهين مثلَهم محتملٌ للشر، بأن يُحمل على معنى اسمعْ منا غيرَ مُسمعٍ كلامًا ترضاه ونحوِه، وللخير بأن يُحمل على معنى {اسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} مكروهًا، كانوا يخاطبون به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً به، مظهرين إرادةَ المعنى الأخير، وهم مُضمرون في أنفسهم المعنى الأولَ، مطمئنون به، ولذلك نُهوا عنه، كذلك هذا الكلامُ محتملٌ للشر كما ذكر في تفسيره، وللخير بأن يُحملَ على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكارِ ما اتُّهموا به من النفاق، على معنى أنؤمن كما آمن السفهاءُ والمجانينُ الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا، ولا نؤمنُ كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، قد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم مُرائين لإرادة المعنى الأخير، وهم معوّلون على الأول، فرُدّ عليهم ذلك بقوله عز قائلًا: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} أبلغَ ردَ، وجُهِّلوا أشنعَ تجهيل حيث صُدِّرت الجملةُ بحرفي التأكيد حسبما أشير إليه فيما سلف، وجعلت السفاهةُ مقصورةً عليهم وبالغةً إلى حيث لا يدرون أنهم سفهاء، وعن هذا اتضح لك سرُ ما مر في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فإن حمله على المعنى الأخير كما هو رأيُ الجمهور منافٍ لحالهم ضرورةَ أن مشافهتَهم للناصحين بادعاء كونِ ما نُهوا عنه من الإفساد إصلاحًا كما مر إظهارٌ منهم للشقاق، وبروزٌ بأشخاصهم من نَفَق النفاق.
والاعتذارُ بأن المرادَ بما نُهوا عنه مداراتُهم للمشركين كما ذكر في بعض التفاسير، وبالإصلاح الذي يدْعونه إصلاحَ ما بينهم وبين المؤمنين، وأن معنى قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} أنهم في تلك المعاملة مفسدون لمصالح المؤمنين، لإشعارها بإعطاء الدنِيّة، وإنبائِها عن ضعفهم الملجئ إلى توسيط مَنْ يتصدى لإصلاح ذاتِ البين، فضلًا عن كونهم مصلحين مما لا سبيل إليه قطعًا، فإن قوله تعالى: {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} ناطقٌ بفساده كيف لا وهو يقتضي أن يكون المنافقون في تلك الدعوى صادقين قاصدين للإصلاح، ويأتيهم الإفسادُ من حيث لا يشعرون، ولا ريب في أنهم فيهم كاذبون لا يعاشرونهم إلا مضارّةً للدين، وخيانةً للمؤمنين، فإذن طريقُ حلِّ الأشكال ليس إلا ما أشير إليه، فإن قولَهم إنما نحن مصلحون محتملٌ للحَمْلِ على الكذب، وإنكارِ صدورِ الإفساد المنسوب إليهم عنهم، على معنى إنما نحن مصلحون لا يصدُر عنا ما تنهوننا عنه من الإفساد وقد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم وإرادةً لإرادة هذا المعنى وهم معرِّجون على المعنى الإول، فرُد عليهم بقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} الآية، والله سبحانه أعلم بما أودعه في تضاعيف كتابهِ المكنونِ من السر المخزون، نسأله العصمةَ والتوفيق، والهداية إلى سَواءِ الطريق. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا ءامَنَ السفهاء} أرادوا ألا يكون ذلك أصلًا فالهمزة للإنكار الإبطالي وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولًا أوليًا، وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم الله أنى يؤفكون والسفه الخفة والتحرك والاضطراب، وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلًا منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرًا من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم، واليهود قوم بهت، وقد استشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين كما هو الظاهر والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟ وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم ورده عليهم، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير، وقيل: {إِذَا} هنا بمعنى لو تحقيقًا لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا كما قيل مثله في قوله:
وإذا ما لمته لمته وحدي

وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين لكن مساررة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى، وقيل: كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما، وذكر مولانا مفتي الديار الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر كما ذكره في تفسيره وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول، والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم ولكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم: {أَسْمِعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء: 6 4] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه، وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] من هذا القبيل أيضًا، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره، وعندي أنه ليس بشيء لأن {أَنُؤْمِنُ} لإنكار الفعل في الحال وقولهم: {كَمَا آمَنَ السفهاء} بصيغة الماضي صريح في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا، ولا أدري من أين أتى به.
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
فالأهون بعض هاتيك الوجوه، وقوله: إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام فضلًا عما هو في منصب الإعجاز لا يخفي ما فيه على من اطلع على محاورات الناس قديمًا وحديثًا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. اهـ.
فصل: معنى السفه: