فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا} أي تداركوا، بمعنى تلاحقوا، واجتمعوا في النار، وأدرك بعضهم بعضًا، واستقر معه {قَالَتْ أولاهم لأُخْرَاهُمْ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
في تفسير الأولى والأخرى قولان: الأول: قال مقاتل أخراهم يعني آخرهم دخولًا في النار، لأولاهم دخولًا فيها.
والثاني: أخراهم منزلة، وهم الأتباع والسفلة، لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء.
المسألة الثانية:
اللام في قوله: {لاِخْرَاهُمْ} لام أجل، والمعنى: لأجلهم ولإضلالهم إياهم {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم، لأنهم ما خاطبوا أولاهم، وإنما خاطبوا الله تعالى بهذا الكلام.
أما قوله تعالى: {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} فالمعنى: أن الأتباع يقولون إن المتقدمين أضلونا، واعلم أن هذا الإضلال يقع من المتقدمين للمتأخرين على وجهين: أحدهما: بالدعوة إلى الباطل، وتزيينه في أعينهم، والسعي في إخفاء الدلائل المبطلة لتلك الأباطيل.
والوجه الثاني: بأن يكون المتأخرون معظمين لأولئك المتقدمين، فيقلدونهم في تلك الأباطيل والأضاليل التي لفقوها ويتأسون بهم، فيصير ذلك تشبيهًا بإقدام أولئك المتقدمين على الإضلال.
ثم حكى الله تعالى عن هؤلاء المتأخرين أنهم يدعون على أولئك المتقدمين بمزيد العذاب وهو قوله: {فَئَاتِهِم عذابًا ضِعفًا من النار} وفي الضعف، قولان:
القول الأول: قال أبو عبيدة الضعف هو مثل الشيء مرة واحدة.
وقال الشافعي رحمه الله: ما يقارب هذا، فقال في رجل أوصى فقال اعطوا فلانًا ضعف نصيب ولدي قال: يعطي مثله مرتين.
والقول الثاني: قال الأزهري: الضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين، وجائز في كلام العرب أن تقول: هذا ضعفه، أي مثلاه وثلاثة أمثاله، لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، والدليل عليه: قوله تعالى: {فأولئك لَهُمْ جَزَاء الضعف بِمَا عَمِلُواْ} [سبأ: 37] ولم يرد به مثلًا ولا مثلين، بل أولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله، لقوله تعالى: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فثبت أن أقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور إلى ما لا نهاية له.
وأما مسألة الشافعي رحمه الله: فاعلم أن التركة متعلقة بحقوق الورثة، إلا أنا لأجل الوصية صرفنا طائفة منها إلى الموصى له، والقدر المتيقن في الوصية هو المثل، والباقي مشكوك، فلا جرم أخذنا المتيقن وطرحنا المشكوك، فلهذا السبب حملنا الضعف في تلك المسألة على المثلين.
أما قوله تعالى: {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قرأ أبو بكر عن عاصم {يَعْلَمُونَ} بالياء على الكناية عن الغائب، والمعنى: ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر، فيحمل الكلام على كل، لأنه وإن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة، فحمل على اللفظ دون المعنى، وأما الباقون فقرؤوا بالتاء على الخطاب والمعنى: ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون، ما لكل فريق منكم من العذاب، ويجوز ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك.
المسألة الثانية:
لقائل أن يقول: إن كان المراد من قوله: {لِكُلّ ضِعْفٌ} أي حصل لكل أحد من العذاب ضعف ما يستحقه، فذلك غير جائز لأنه ظلم، وإن لم يكن المراد ذلك، فما معنى كونه ضعفًا؟
والجواب: أن عذاب الكفار يزيد، فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم قال: {قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم} أي: قالت لهم خزنة النار: ادخلوا النار مع أمم قد مضت على مذهبكم {مّن الجن والإنس في النار كُلَّمَا دَخَلَتْ} يعني: النار {أُمَّةٍ} جماعة {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} أي: على الأمة التي دخلت قبلها في النار.
قال مقاتل: يعني لعنوا أهل ملتهم يلعن المشركون المشركين والنصارى النصارى.
وقال الكلبي: تدعو على الأمم التي قبلهم في النار يبدأ بالأمم الأولى فالأولى، ويبدأ أولًا بقابيل وولده.
ويقال: يبدأ بالأكابر فالأكابر مثل فرعون كما قال في آية آخرى {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيًّا} [مريم: 69].
{حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا} يعني: اجتمعوا في النار وأصله تداركوا فيها يعني: اجتمع القادة والأتباع في النار وقرأ بعضهم حَتَّى إذَا أَدْرَكُوا فيه أي دخلوا في إدراكها، كما يقال أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء وهي قراءة شاذة {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاولاهم} أي: قال أواخر الأمم لأولّهم.
ويقال: قالت الأتباع للقادة والرؤساء {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} عن الهدى {قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ} أي: أعظم زيادة من العذاب {قَالَ} الله تعالى: {لِكُلّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} أي: على القادة زيادة من العذاب ولكن لا تعلمون ما عليهم.
قرأ عاصم في رواية أبي بكر {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} بالياء أي: لا يعلم فريق منهم عذاب فريق آخر. اهـ.

.قال الثعلبي:

{قَالَ ادخلوا} يقول الله عزّ وجلّ لهم يوم القيامة ادخلوا {في أُمَمٍ} يعني مع جماعات {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الجن والإنس فِي النار} يعني كفار الأُمم الماضية {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} في الدين والملة ولم يقل أخاها لأنّه عنى بها الأُمّة فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود، وكذلك النصارى النصارى والمجوس المجوس ويلعن الأتباع القادة يقولون: لعنكم الله أنتم غررتمونا يقول الله عزّ وجل: {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا} أي تلاحقوا {جَمِيعًا} قرأ الأعمش: حتّى إذا تداركوا، على الأصل، وقرأ النخعي: حتّى إذا أدركوا، مثقلة الدال من غير ألف أراد فنقلوا من الدرك.
{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} قال مقاتل: يعني أُخراهم دخولًا للنار وهم الأتباع، {لأُولاَهُمْ} دخولًا وهم القادة.
قال ابن عباس: {أُخراهم} يعني آخر الأُمم، {لأولاهم} يعني أوّل الأُمم، وقال السدي: أُخراهم يعني الذين كانوا في آخر الزمان. {لأولاهم} يعني الذين شرعوا لهم ذلك الدين {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} عن الهدى. يعني الفساد {فَآتِهِمْ} أي فأعطاهم {عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار} أي مضعفًا من النار {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} من العذاب {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} حتّى يحل بكم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {... حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جِمِيعًا} يعني في النار أدرك بعضهم بعضًا حتى استكملوا فيها.
{قَالَتْ أُخْرَاهُمُ لأُولاَهُمْ} يعني الأتباع للقادة لأنهم بالاتباع لهم متأخرون عنهم، وكذلك في دخول النار تقدم القادة على الأتباع.
{رَبَّنَا هَؤُّلاءِ أَضَلُّونَا فئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ} يريد بأحد الضعفين عذابهم على الكفر، وبالآخر عذابهم على الإغواء.
ويحتمل هذا القول من الأتباع وجهين:
أحدهما: تخفيف العذاب عنهم.
والثاني: الانتقام من القادة بمضاعفة العذاب عليهم.
فأجابهم الله قال: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} يعني أنه وإن كان للقادة ضعف العذاب، لأن أحدهما بالكفر، والآخر بالإغواء، فلكم أيها الأتباع ضعف العذاب، وهذا قول الجمهور، وإن ضعف الشيء زيادة مثله.
وفيه وجه ثان: قاله مجاهد: أن الضعف من أسماء العذاب. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ}
هذه حكاية ما يقول الله لهم يوم القيامة بوساطة ملائكة العذاب وعبر عن يقول. ب {قال} لتحقق وقوع ذلك وصدق القصة، وهذا كثير، وقوله: {في أمم} متعلق ب {ادخلوا}، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره كائنين أو ثابتين في أمم، فيكون في موضع الحال من الضمير في {ادخلوا} وقيل {في} بمعنى مع، وقيل هي على بابها وهو أصوب، وقوله: {قد خلت} صفة ل {أمم} وقوله: {في النار} يصح تعلقه ب {ادخلوا} يصح أن يتعلق ب {أمم} أي في أمم ثابتة أو مستقرة، ويصح تعلقه بالذكر الذي في {خلت} ومعنى {قد خلت} على هذا التعلق أي قد تقدمت ومضى عليها الزمن وعرفها فيما تطاول من الآباد، وقد تستعمل وإن لم يطل الوقت إذ أصلها فيمن مات من الناس أي صاروا إلى خلاء من الأرض، وعلى التعليقين الأولين لقوله: {في النار} فإنما {خلت} حكاية عن حال الدنيا أي ادخلوا في النار في جملة الأمم السالفة لكم في الدنيا الكافرة، وقد ذكر الجن لأنهم أعرق في الكفر، وإبليس أصل الضلال والإغواء، وهذه الآية نص في أن كفرة الجن في النار، والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة لأنهم عقلاء مكلفون مبعوث إليهم آمنوا وصدقوا، وقد بوب البخاري رحمه الله- باب في ذكر الجن وثوابهم وعقابهم- وذكر عبد الجليل أن مؤمني الجن يكونون ترابًا كالبهائم، وذكر في ذلك حديث مجهولًا وما أراه يصح، والله أعلم.
والأخوة في هذه الآية أخوة الملة والشريعة. قال السدي: يتلاعن آخرها وأولها، و{اداركوا} معناه تلاحقوا ووزنه تفاعلوا أصله تداركوا أدغم فجلبت ألف الوصل، وقرأ أبوعمرو {إداركوا} بقطع ألف الوصل، قال أبو الفتح: هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالًا فذلك إنما يجيء شاذًا في ضرورة الشعر في الاسم أيضًا لكنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع، وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال {ادْركوا} بفتح الراء وبحذف الألف بعد الدال بمعنى أدرك بعضهم بعضًا، وقرأ حميد {أُدرِكوا} بضم الهمزة وكسر الراء أي أدخلوا في إدراكها، وقال مكي في قراءة مجاهد إنها {ادَّارَكوا} بشد الدال المفتوحة وفتح الراء، قال: وأصله إذ تركوا وزنها افتعلوا، وقرأ ابن مسعود والأعمش {تداركوا} ورويت عن أبي عمرو، وقرأ الجمهور {حتى إذا اداركوا} بحذف ألف {إذا} لالتقاء الساكنين.
وقوله تعالى: {قالت أخراهم لأولاهم} معناه قالت الأمة الأخيرة التي وجدت ضلالات مقررة وسننًا كاذبة مستعملة للأولى التي شرعت ذلك وافترت على الله وسلكت سبيل الضلال ابتداء، ربنا هؤلاء طرقوا طرق الضلال وسببوا ضلالنا فآتهم عذابًا مضاعفًا أي ثانيًا زائدًا على عذابنا إذ هم كافرون ومسببون كفرنا وتقول ضاعفت كذا إذا جعلته مثل الأول، واللام في قوله: {لأولادهم} كأنها لام سبب إذ القول إنما هو للرب، ثم قال عز وجل مخبرًا لهم: {لكل ضعف} أي العذاب مشدد على الأول والآخر ولكن لا تعلمون أي المقادير وصور التضعيف، وهذا رد لكلام هؤلاء، إذ ليس لهم كرامة فيظهر إسعافهم.
وأما المعنى الذي دعوا فيه فظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه حاصل وأن كل من سن كفرًا أو معصية فعليه كفل من جهة كل من عمل بذلك بعده، ومنه حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من داع دعا إلى ضلالة إلا كان عليه وزره ووزر من اتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا» الحديث، ذكره الليث بن سعد من آخر الجزء الرابع من حديثه، وذكره مالك في الموطأ غير مسند موصل، ومنه قوله «ما تقتل نسمة ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها»، أما أن هؤلاء عينوا في جميع السبعة غير عاصم في رواية أبي بكر {ولكن لا تعلمون} بالتاء ويحتمل ذلك أن يكون مخاطبة لمحمد وأمته، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر {ولكن لا يعلمون}، وروى حفص عن عاصم مثل قراءة الجماعة، وهذه مخاطبة لأمة محمد وإخبار عن الأمة الأخيرة التي طلبت أن يشدد العذاب على أولاها، ويحتمل أن يكون خبرًا عن الطائفتين حملًا على لفظة كل، أي لا يعلم أحد منهم قدر ما أعد لهم من عذاب الله. اهـ.