فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قَالَ} أي الله عز وجل يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك {ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم} أي كائنين من جملة أممٍ مصاحبين لهم {مّنَ الجن والإنس} يعني كفارَ الأمم الماضيةِ من النوعين {فِى النار} متعلقٌ بقوله: {أَدْخِلُواْ} {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} من الأمم السابقةِ واللاحقةِ فيها {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} التي ضللت بالاقتداء بها {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا} أي تداركوا وتلاحقوا في النار {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} دخولًا أو منزلةً وهو الأتباعُ {لاولاهم} أي لأجلهم إذِ الخطابُ مع الله تعالى لا معهم {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} سنّوا لنا الضلالَ فاقتدَيْنا بهم {فَآتِهِم عَذَابًا ضِعْفًا} أي مضاعفًا {مِنَ النار} لأنهم ضلّوا وأضلوا {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ} أما القادةُ فلِما ذُكر من الضلال والإضلالِ، وأما الأتباعُ فلكفرهم وتقليدِهم {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} أي مالَكم وما لِكُلّ فريقٍ من العذاب وقرئ بالياء. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ} أي الله عز وجل لأولئك الكاذبين المكذبين يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك {ادخلوا في أُمَمٍ} أي مع أمم، والجار والمجرور في موضع الحال أي مصاحبين لامم {قَدْ خَلَتْ} أي مضت {مِن قَبْلِكُم مّن الجن والإنس} يعني كفار الأمم من النوعين، وقدم الجن لمزيد شرهم {فِى النار} متعلق بأدخلوا، وجوز أن يتعلق {فِى أُمَمٍ} به ويحمل {فِى النار} على البدلية أو على أنه صفة {أُمَمٌ}؛ وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا إخبارًا عن جعله سبحانه إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول مطلقًا أي إنه تعالى جعلهم كذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} من الأمم تابعة أو متبوعة في النار {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} أي دعت على نظيرها في الدين فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابة التي زادت في ضلالها، وعن أبي مسلم يلعن الأتباع القادة يقولون أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى.
{حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا} غاية لما قبله أي يدخلون فوجًا فوجًا لاعنا بعضهم بعضًا إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار.
وأصل {اداركوا} تداركوا فادغمت التاء في الدال بعد قلبها دالًا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل.
وعن أبي عمرو أنه قرأ: {اداركوا} بقطع ألف الوصل وهو كما قيل مبني على أنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع وإلا فلا مساغ لذلك في كلام الله تعالى الجليل، وقرأ {إِذَا} بألف واحدة ساكنة ودال بعدها مشددة وفيه جمع بين ساكنين وجاز لما كان الثاني مدغمًا ولا فرق بين المتصل والمنفصل {جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} منزلة وهم الأتباع والسفلة {لأولاهم} منزلة وهم القادة والرؤساء أو قالت أخراهم دخولًا لأولاهم كذلك، وتقدم أحد الفريقين على الآخر في الدخول مروي عن مقاتل، واللام في {لأولاهم} للتعليل لا للتبليغ كما في قولك: قلت لزيد افعل كذا لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم: {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} أي دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاقتدينا بهم {قَالَ ادخلوا فِى} أي مضاعفا كما روي عن مجاهد {مِنَ النار}.
والضعف على ما قال أبو عبيد ونص عليه الشافعي في الوصايا مثل الشيء مرة واحدة، وعن الأزهري أن هذا معنى عرفي والضعف في كلام العرب وإليه يرد كلام الله تعالى المثل إلى ما زاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير محصور واختاره هنا غير واحد.
وقال الراغب: الضعف بالفتح مصدر وبالكسر اسم كالشَّيء والشِّيء وضعف الشيء هو الذي يثنيه ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد ومثله نحو أن يقال ضعف عشرة وضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف؛ وعلى ذلك قول الشاعر:
جزيتك ضعف الود لما اشتكيته ** وما إن جزاك الضعف من أحد قبلى

وإذا قيل: أعطه ضِعْفَيْ واحد اقتضى ذلك الواحد ومثليه وذلك ثلاثة لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه، وذلك ثلاثة هذا إذا كان الضعف مضافًا فإذا لم يكن مضافًا فقلتَ: الضعفين فقد قيل: يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين لأن كل واحد منهما يضاعف الآخر فلا يخرجان منهما اهـ.
وقال الألوسي:
ونصب {ضعافا} على أنه صفة لعذاب، وجوز أن يكون بدلًا منه و{مِنَ النار} صفة العذاب أو الضعف.
{قَالَ} سبحانه وتعالى: {لِكُلّ} منكم ومنهم عذاب {ضِعْفَ} من النار، أما القادة فلضلالهم وإضلالهم وذلك سبب الدعاء السابق، وأما الأتباع فلذلك أيضًا عند بعض، وكونهم ضالين ظاهر وأما كونهم مضلين فلان اتخاذهم إياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، واعترض بعدم اطراده فإن اتباع كثير من الأتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال: إنه مخصوص ببعضهم؛ وقيل: الأحسن أن يقال: إن ضعف الأتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا عرض الدنيا اتباعًا للهوى، ويدل عليه قوله تعالى: {قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} [سبأ: 32] وفيه ما فيه.
والأولى أن يقال: إن ذلك في الأتباع لكفرهم وتقليدهم ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال يستحق فاعله العذاب، ونقل الراغب عن بعضهم في الآية أن المعنى لكل منكم ومنهم ضعف ما يرى الآخر فإن من العذاب ظاهرًا وباطنًا وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أن ليس له العذاب الباطن، واختار أن المعنى لكل منهم ضعف ما لكم من العذاب والظاهر ما عولنا عليه.
{ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} ما لكم أو ما لكل فريق فلذا تكلمتم بما يشعر باعتقادكم استحقاق الرؤساء الضعف دونكم فالخطاب على التقديرين للأتباع كما هو الظاهر.
وقيل: إنه على الأول للأتباع، وعلى الثاني للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الأتباع على الغيب الذين هم القادة.
وقرأ عاصم {لاَّ يَعْلَمُونَ} بالياء التحتية على انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلًا لم يقصد به إدراجه في الجواب، ومن ادعى أن الخطاب للفريقين على سبيل التغليب قال: إن هذه القراءة على انفصال القادة من الأتباع إذ عليها لا يمكن القول بالتغليب إذ لا يغلب الغائب على المخاطب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

فأمّا قوله: {قال ادخلوا في أمم} فهذا قول آخر، ليس هو من المحاورة السّابقة، لأنّه جاء بصيغة الإفراد، والأقوالُ قبله مسندة إلى ضمائر الجمع، فتعيّن أنّ ضمير قال عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام، لأنّ مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى، فهو استيناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حينَ أوّل قدومهم على الحياة الآخرة، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيَكون خطابًا صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته، أو بكلام سمعوه وعلموا أنّه من قِبَل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنّهم داخلون إلى النار، فيكون هذا من أشدّ ما يرون فيه مقعدهم من النّار عقوبة خاصّة بهم.
والأمر مستعمل للوعيد فيتأخّر تنجيزه إلى يوم القيامة.
ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النّار مع الأمم السّابقة، فذُكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالًا لذكر حال مصيرهم، وتخلّصًا إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم.
وأيًّا مّا كان فالإتيان بفعل القول، بصيغه الماضي: للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر.
ويجوز أن تكون جملة: {قال ادخلوا في أمم} في موضع عطف البيان لجملة {ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي: قال الله فيما كتبه لهم {ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم} [الأعراف: 34] أي أمثالكم، والتّعبير بفعل المضي جرَى على مقتضى الظّاهر.
والأمم جمع الأمّة بالمعنى الذي تقدّم في قوله: {ولكل أمة أجل}.
وفي من قوله: {في أمم} للظّرفية المجازيّة، وهي كونهم في حالة واحدة وحكممٍ واحد، سواء دخلوا النّار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بَعدهم، وهي بمعنى مع في تفسير المعنى، ونقل عن صاحب الكشاف أنه نظَّر في التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة:
إنْ تَكُنْ عن حسن الصّنيعة مأفُو ** كًا ففي آخرينَ قد أُفِكُوا

ومعنى: {قد خلت} قد مضت وانقرضت قبلكم، كما في قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت} في سورة البقرة (134)، يعني: أنّ حالهم كحال الأمم المكذّبين قبلَهم، وهذا تذكير لهم بما حاق بأولئك الأمم من عذاب الدّنيا كقوله: {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} [إبراهيم: 45] وتعريض بالوعيد بأن يحل بهم مثل ذلك، وتصريح بأنّهم في عذاب النّار سواء.
جملة: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا، لوصف أحوالهم في النّار، وتفظيعها للسّامع، ليتّعظ أمثالهم ويستبشر المؤمنين بالسّلامة ممّا أصابهم فتكون جملة {حتى إذا اداركوا} داخلة في حيز الاستيناف.
ويجوز أن تكون جملة: {كلما دخلت أمة} معترضة بين جملة: {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار} وبين جملة: {حتى إذا أداركوا فيها} إلخ.
على أن تكون جملة {حتى إذا اداركوا} مرتبطة بجملة {ادخلوا في أمم} بتقدير محذوف تقديره: فيدخلون حتّى إذا اداركوا.
وما في قوله: {كلّما} ظرفية مصدريّة، أي كلّ وقت دخول أمّة لعنت أختها.
والتّقدير: لعنت كلّ أمّة منهم أختها في كلّ أوقات دخول الأمّة منهم، فتفيد عموم الأزمنة.
و{أمّة} نكرة وقعت في حيز عموم الأزمنة، فتفيد العموم، أي كلّ أمة دخلت، وكذلك: {أختَها} نكرة لأنّه مضاف إلى ضمير نكرة فلا يتعرّف فتفيد العموم أيضًا، أي كل أمة تدخل تلعن كل أخت لها، والمراد بأختها المماثِلة لها في الدّين الذي أوجب لها الدّخول في النّار، كما يقال: هذه الأمّة أخت تلك الأمّة إذا اشتركتا في النّسب، فيقال: بَكْر وأختها تغلب، ومنه قول أبي الطبيّب:
وكطَسْم وأُخْتِها في البعاد

يريد: كَطَسم وجَدِيس.
والمقام يعيّن جهة الأخوّة، وسبَبُ اللّعن أنّ كل أمّة إنّما تدخل النّار بعد مناقشة الحساب، والأمر بإدخالهم النّار، وإنّما يقع ذلك بعد أن يتبيّن لهم أنّ ما كانوا عليه من الدّين هو ضلال وباطل، وبذلك تقع في نفوسهم كراهية ما كانوا عليه، لأنّ النّفوس تكره الضّلال والباطل بعد تبيُّنه، ولأنّهم رأوا أن عاقبة ذلك كانت مجلبة العقاب لهم فيزدادون بذلك كراهيّة لدينهم، فإذا دخلوا النّار فرأوا الأمم التي أدخلت النّار قبلهم علموا، بوجه من وجوه العلم، أنّهم أُدخلوا النّار بذلك السّبب فلعنوهم لكراهيّة دينهم ومن اتّبعوه.