فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: المراد بأختها أسلافها الذين أضلّوها.
وأفادت {كلّما} لما فيها من معنى التّوقيت: أنّ ذلك اللّعن يقع عند دخول الأمّة النّار، فيتعيّن إذن أن يكون التّقدير: لعنت أختها السّابقة إياها في الدّخول في النّار، فالأمّة التي تدخل النّار أوّل مرّة قبل غيرها من الأمم لا تَلْعن أختها، ويعلم أنّها تلعن من يدخل بعدَها الثّانيةَ، ومن بعدها بطريق الأوْلى، أو ترُدّ اللّعن على كلّ أخت لاعنة.
والمعنى: كلّما دخلت أمّة منهم بقرينة قوله: {لعنت أختها}.
وحتى في قوله: {حتى إذا اداركوا} ابتدائيّة، فهي جملة مستأنفة وقد تقدّم في الآية قبل هذه أن حتى الابتدائيّة تفيد معنى التّسبّب، أي تسبّب مضمون ما قبلها في مضمون ما بعدها، فيجوز أن تكون مترتِبَة في المعنى على مضمون قوله: {قال أدخلوا في أمم قد خلت} إلخ، ويجوز أن تكون مترتّبة على مضمون قوله: {كلما دخلت أمة لعنت أختها}.
و{اداركوا} أصله تَداركوا فقلبت التّاء دَالا ليتأتى إدغامها في الدّال للتّخفيف، وسُكنت ليتحقّق معنى الإدغام المتحركين، لثقل واجتلبت همزة الوصل لأجل الابتداء بالسّاكن، وهذا قلْب ليس بمتعيّن، وإنّما هو مستحسن، وليس هو مثل قلب التّاء في ادّان وازْداد وادّكر: ومعناه: أدرك بعضهم بعضًا، فصيغ من الإدراك وزن التّفاعل، والمعنى: تلاحقوا واجتمعوا في النّار.
وقوله: {جميعًا} حال من ضمير {اداركوا} لتحقيق استيعاب الاجتماع، أي حتى إذا اجتمعت أمم الضّلال كلّها.
والمراد: بـ {أخراهم}: الآخِرة في الرّتبة، وهم الأتباع والرّعيّة من كلّ أمّة من تلك الأمم، لأنّ كلّ أمّة في عصر لا تخلو من قادة ورَعاع، والمراد بالأولى: الأولى في المرتبة والاعتبار، وهم القادة والمتبوعون من كلّ أمّة أيضًا، فالأخرى والأولى هنا صفتان جرتا على موصوفَين محذوفين، أي أخرى الطّوائف لأولاهم، وقيل: أريد بالأخرى المتأخّرة في الزّمان، وبالأولى أسلافهم، لأنّهم يقولون: {إنّا وجدنا آباءنا على أمة} [الزخرف: 23].
وهذا لا يلائم ما يأتي بعده.
واللاّم في: {لأولاَهم} لام العلّة، وليست اللاّم التي يتعدّى بها فعل القَول، لأنّ قول الطائفة الأخيرة موجَّه إلى الله تعالى، بصريح قولهم: {ربنا هؤلاء أضلونا} إلخ، لا إلى الطّائفة الأولى، فهي كاللاّم في قوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11].
والضعف بكسر الضّاد المِثْل لمقدار الشّيء، وهو من الألفاظ الدّالة على معنى نسبي يقتضي وجودَ معنى آخر، كالزّوج والنِّصف، ويختص بالمقدار والعدد، هذا قول أبي عبيدة والزّجاج وأيمّة اللّغة، وقد يستعمل فعله في مطلق التّكثير وذلك إذا أسند إلى ما لا يدخل تحت المقدار، مثل العذاب في قوله تعالى: {يُضَاعَفْ له العذاب يوم القيامة} [الفرقان: 69] وقوله: {يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] أراد الكثرة القويّة فقولهم هنا {فآتهم عذابًا ضعفا} أي أعطهم عذابًا هو ضِعف عذاببٍ آخر، فعُلم أنّه، آتاهم عذابًا، وهم سألوا زيادة قوّة فيه تبلغ ما يعادل قوّته، ولذلك لما وصف بضعف علم أنّه مِثْلٌ لعذاببٍ حصل قبله إذ لا تقول: أكرمت فلان ضِعفًا، إلاّ إذا كان إكرامك في مقابلة إكراممٍ آخر، فأنت تزيده، فهم سألوا لهم مضاعفة العذاب لأنّهم علموا أنّ الضّلال سبب العذاب، فعلموا أنّ الذين شرعوا الضّلال هم أولى بعقوبة أشدّ من عقوبة الذين تقلّدوه واتبعوهم، كما قال تعالى في الآية الآخرى: {يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين} [سبأ: 31].
وفعل: {قال} حكاية لجواب الله إياهم عن سُؤالهم مضاعفةَ العذاب لقادتهم، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات، والتّنوينُ في قوله: {لكلّ} عوض عن المضاف إليه المحذوف، والتّقدير: لكلّ أمّة، أو لكلّ طائفة ضعف، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذّبه أولَ الأمر، فأمّا مضاعفة العذاب للقادة فلأنّهم سنّوا الضّلال أو أيّدوه ونصروه وذبّوا عنه بالتّمويه والمغالطات فأضلوا، وأمّا مضاعفته للأتباع فلأنَهم ضلّوا بإضلال قادتهم، ولأنّهم بطاعتهم العمياء لقادتهم، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم، وإعطائِهم إياهم الأموال والرّشى، يزيدونهم طغيانًا وجراءة على الإضلال ويغرّونهم بالازدياد منه.
والاستدراك في قوله: {ولكن لا تعلمون} لرفع ما تُوهِمه التّسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب: أنّ التّغليظ على الأتباع بلا موجب، لأنّهم لولا القادة لما ضلّوا، والمعنى: أنّكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني، فلذلك ظننتم أنّ موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنّهم علّموكم الضّلال، ولو علمتم حقّ العلم لاطّلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال.
ومفعول {تعلمون} محذوف دلّ عليه قوله: {لكلٍ ضِعف}، والتّقدير: لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكلّ من الطّائفتين، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنّهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلّوهم.
وقرأ الجمهور: {لا تَعلمون} بتاء الخطاب على أنّه من تمام ما خاطب الله به الأمّة الأخرى، وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة فيكون بمنزلة التّذييل خطابًا لسامعي القرآن، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يَعلمون أنّ لكلّ ضعفًا فلذلك سألوا التّغليظ على القادة فأجيبوا بأنّ التّغليظ قد سُلّط على الفريقين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ}
ويوضح لنا الحق أنه بأوامر كن سيدخلون كما دخلتها أمم قد خلت من قلبهم فليسوا بدعًا، وليدخلوا معهم إلى المصير الذي يذهبون إليه، وهم أمم خليط؛ لأن الكفر سوف يلتقي كله في الجزاء.
إن الاقتداء بالأمم التي سبقت هو الذي قادهم إلى الكفر؛ فالأمم التي سبقت كانت أسوة في الضلال للأمة التي لحقت، فإذا ما دخلوا لعنوهم.
وهب أن إنسانًا دخل مرة السجن لجرم ارتكبه، وبعد ذلك دخل عليه من كان يغربه بالجرم. ومن كان يزين له، ومن اقتدى به. بالله ساعة يلتقيان في السجن ألا يلعن الأول الثاني؟ {... كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38]
وبعد أن يلحق بعضهم بعضًا ويجتمعوا، يحدث بينهم هذا الحوار العجيب: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار...} [الأعراف: 38]
فإن قلت الأخرى أي التي دخلت النار متأخرة كانت الأولى هي القدوة في الضلال وقد سبقتهم إلى النار، {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ}، أي أن الأولى هم القادة الذين أضلوا، والطائفة الأخرى هم الأتباع الذين قلدوا. {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا}. وهم يتوجهون بالكلام إلى ربنا: {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا}.
كيف يتأتى هذا؟. وكان المقياس أن يقول: قالت أخراهم لأولاهم أنتم أضللتمونا لكن جاء هذا القول، لأن الذين أضلوا غيرهم أهون من أن يخاطبوا؛ لأن الموقف كله في يد الله، وإذا ما قالوا لله المواجه للجميع: {هؤلاء أَضَلُّونَا} فهؤلاء، هذه رشارة إليهم، فكأن القول موجه لله شهادة منهم إلى من كان وسيلة لإضلالهم وهم يقولون لربنا هذا حتى يأخذوا عذاب الضعف من النار مصداقًا لقوله الحق: {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار...} [الأعراف: 38]
فقال لهم جميعًا: {... لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ}.
فلكل أمة منهم ضعف العذاب بما ضلت وأضلت. ونفهم أن الضّعْف معناه شيء مساوٍ لمثله، فأنتم أيها المقلدون غيركم قد أضللتم سواكم بالأسوة أيضًا؛ لأنكم كثرتم عددهم وقويتم شوكتهم وأغريتم الناس باتباعهم.
ويكون لكم ضعف العذاب بحكم أنكم أضللتم أيضًا، وأنتم لا تعلمون أن من يحاسبكم دقيق في الحساب، ويعطي كل إنسان حقه تمامًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {فِي أمَمٍ} يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله: {في أمَمٍ} وقوله: {في النَّارِ} كلاهما بـ {ادْخُلُوا}، فيجيء الاعتراضُ المشهور وهو كيف يتلّق حرفا جرٍّ متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد؟، فيجاب بأحد وجهين:
إمَّا أنَّ {في} الأولى ليست للظَّرفية، بل للمعيّة، كأنَّهُ قيل: ادخلوا مع أممٍ أي: مصاحبين لهم في الدُّخول، وقد تأتي {في} بمعنى مع كقوله تعالى: {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة} [الأحقاف: 61].
وقول الشاعر: [الطويل]
شَمُوسٌ ودُودٌ فِي حَيَاءٍ وعِفَّةٍ ** رخِيمَةُ رَجْعِ الصَّوْتِ طَيِّبَةُ النَّشْرِ

وإمَّا بأن {في النَّار} بدل من قول: {فِي أمَمٍ} وهو بدل اشتمال كقوله: {أَصْحَابُ الأخدود النار} [البروج: 4، 5].
فإنَّ النَّار بدل من الأخدود، كذلك {في النَّارِ} بدل من {أمَمٍ} بإعاد العامل بدل اشتمال، وتكونُ الظرفية في {في} مجازًا؛ لأنَّ الأمم ليسوا ظروفًا لهم حقيقة، وإنَّما المعنى: ادخلوا في جملة أمَمٍ وغمارهم.
ويجوز أن تتعلّق {فِي أمَم} بمحذوف على أنَّهُ حال أي: كائنين في جملة أمم.
و{فِي النَّارِ} متعلّق بـ {خلت} أي: تسبقكم في النَّارِ.
ويجوز أنْ تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ صفة لـ {أمَمٍ} فتكون {أمم} قد وصفت بثلاثة أوصاف:
الأولى: الجملة الفعليّة، وهي قوله: {قَدْ خَلَتْ}.
والثاني: الجارّ والمجرور، وهو قوله: {مِن الجن والإنس}.
الثالث: قوله: {فِي النَّارِ}، والتقدير: في أممٍ خالية من قبلكم كائنة من الجنِّ والإنس، ومستقرَّة في النَّارِ.
ويجوز أن تتعلَّق {فِي النَّار} بمحذوفٍ أيضًا، لا على الوَجْهِ المذكور، بل على كونه حالًا من {أمَمٍ}، وجاز ذلك وَإنْ كانت نكرة لتخصُّصها بالوصفين المُشَار إليهما.
ويجوز أن يكون حالًا من الضَّميرِ في {خَلَتْ}؛ إذ هو ضمير الأمَمِ، وقُدِّمت الجنُّ على الإنس؛ لانَّهم الأصل في الإغواء.
قوله: {كُلَّما دَخَلتْ} تقدَّم نظيرها، وهذه الجملة يحتمل أن تكون صفة لـ {أمم} أيضًا، والعائد محذوفٌ أي: كلما دخلت أمة منهم أي: من الأمَمِ المتقدَّمةِ لعنت أمتها، والمعنى: أن أهل النّار يلعنُ بعضهم بَعْضًا، ويتبرَّأ بعضهم مِنْ بَعْضٍ كما قال تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].
والمرادُ بقوله أختها أي: في الدّين.
قوله: {حتَّى} هذه غاية لما قبلها، والمعنى: أنَّهُم يدخلون فضوْجًا فَوْجًا، لاعنًا بعضهم لبعض إلى انتها تداركهم فيها.
وقرأ الجمهور: {إذَا ادَّارَكُوا} بوصل الألف وتشديد الدَّال، والأصلُ: تداركوا، فلما أريد إدغامُهُ فُعل به ما فُعل بـ {ادَّارَأتُمْ}، وقد تقدَّم تصريفه في البقرة [72].
قال مكيٌّ: ولا يستطاع اللفظ بوزنها مع ألف الوصل؛ لأنَّك تردُّ الزائد أصليًا فتقول: افاعلوا، فتصير تاء تفاعل فاء الفعل لإدغامها في فاء الفِعْلِ؛ وذلك لا يجوزُ، فإنْ وزنتها على الأصل فقلت: تَفَاعَلُوا جاز.
وهذا الذي ذكر من كونه لا يمكن وزنه إلا بالأصْلِ، وهو فاعلوا ممنوع.
قوله: لأنَّكَ تردّ الزَّائد أصليًّا.
قلنا: لا يلزم ذلك: لأنَّا نزنه بلفظه مع همزة الوَصْلِ، وتأتي بناء التفاعل بلفظها، فتقولُ: وزن ادَّارَكوا: اتفاعلوا، فيلفظ بالتاء اعتبارًا بأصلها، لا بما صارتء إليه حال الإدغام.
وهذه المسألةُ نصُّوا على نظيرها، وهو أنَّ تاء الافتعال إذا أبْدِلت إلى حرف مُجَانِسٍ لما قبلها كما تبدل تاء طاء، أو دالًا في نحو: اصْطَبَر، واضْطَرَبَ، وازْدَجَرَ، وادَّكَرَ، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا: يُلفظ في الوزن بأصل تَاءِ الافتعال، ولا يُلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال، فتقولُ: وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل، فكذلك تقولُ هنا: وزن ادَّاركوا اتفاعلوا لا افَّاعلوا، فلا فرق بين تاء الافتعال والتَّفعال في ذلك.