فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عندما جاءهم بأس الله في الدنيا: {فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين} فإذا انتهى مشهد الاحتضار، فنحن أمام المشهد التالي، وهؤلاء المحتضرون في النار!.. ويسكت السياق عما بينهما، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر. وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار!
{قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادَّاركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}.
{ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار}.
انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس.. هنا في النار.. أليس إبليس هو الذي عصى ربه؟ وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه؟ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه؟ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار؟.. فادخلوا إذن جميعًا.. ادخلوا سابقين ولاحقين.. فكلكم أولياء.. وكلكم سواء!
ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها؛ ويملي متبوعها لتابعها.. فلننظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها، وكيف يكون التنابز فيها: {كلما دخلت أمة لعنت أختها}!
فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه؛ ويتنكر فيها الولي لمولاه!
{حتى إذا اداركوا فيها جميعًا}.
وتلاحق آخرهم وأولهم، واجتمع قاصيهم بدانيهم، بدأ الخصام والجدال: {قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار}..
وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم! ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء، وهم متناكرون أعداء؛ يتهم بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، ويطلب له من {ربنا} شر الجزاء.. من {ربنا} الذين كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته؛ وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء! فيكون الجواب استجابة للدعاء. ولكن أية استجابة؟!
{قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون}.
لكم ولهم جميعًا ما طلبتم من مضاعفة العذاب!
وكأنما شمت المدعو عليهم بالداعين، حينما سمعوا جواب الدعاء، فإذا هم يتوجهون إليهم بالشماتة.. كلنا سواء.. في هذا الجزاء: {وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}!
وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم، ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل- وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم-: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين}..
ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب.. مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة. فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير، فانتظر حينئذ- وحينئذ فقط- أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين، فتقبل دعاءهم أو توبتهم- وقد فات الأوان- وأن يدخلوا إلى جنات النعيم! أما الآن، وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط، فهم هنا في النار، التي تداركوا فيها جميعًا وتلاحقوا؛ وتلاوموا فيها وتلاعنوا، وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء، ونالوا جميعًا ما طلبه الأولياء للأولياء!
{وكذلك نجزي المجرمين}..
ثم إليك هيئتهم في النار:
{لهم من جهنم مهادٌ ومن فوقهم غواشٍ}..
فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش، يدعوه- للسخرية- مهادًا، وما هو مهد ولا لين ولا مريح!- ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم!
{وكذلك نجزي الظالمين}..
والظالمون هم المجرمون. والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله، المفترون الكذب على الله.. كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن.
والآن فلننظرإلى المشهد المقابل:
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسًا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}..
هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم، لا يكلفون إلا طاقتهم.
هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم! إنهم أصحابها- بإذن الله وفضله- ورثها لهم- برحمته- بعملهم الصالح مع الإيمان.. جزاء ما اتبعوا رسل الله وعصوا الشيطان. وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم، وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم! ولولا رحمة الله ما كفى عملهم- في حدود طاقتهم- وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن يدخل أحدًا منكم الجنة عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وليس هنالك تناقض ولا اختلاف بين قول الله سبحانه في هذا الشأن، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوى.. وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين، إنما ثار عن الهوى! فلقد علم الله من بني آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة. ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا. فكتب على نفسه الرحمة؛ وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف؛ وكتب لهم به الجنة، فضلًا منه ورحمة، فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة..
وبعد، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار ويتخاصمون، وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد، بعد أن كانوا أصفياء أولياء.. فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون، يرف عليهم السلام والولاء: {ونزعنا ما في صدورهم من غل}..
فهم بشر. وهم عاشوا بشرًا. وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه، وغل يغالبونه ويغلبونه.. ولكن تبقى في القلب منه آثار.
قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين». وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل}..
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم. فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار؛ فترف على الجو كله أنسام: {تجري من تحتهم الأنهار}..
وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق}..
وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب: {ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار}.. فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}..
إنه التقابل التام بين أصحاب الجنة وأصحاب النار. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم} فالنزع هو بمعنى ينزع فهو على حد {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1]، والنزع: قلع الشَّيء عن مكانه.
وقوله: {مِنْ غِلٍّ} يجوز أن تكون {مِنْ} لبيان جنس {مَا} ويجوز أن تكون حالًا متعلّقًا بمحذوف أي: كائنًا من غلٍّ.
الغل: الحِقْد والإحْنَةُ والبُغْض، وكذلك الغُلُولُ.
قال أهل اللُّغَةِ: وهو الذي يغل بلطفه إلى صَميمِ القَلْب أي: يدخلُ، ومنه الغلول، وهو الوصول بالحيلَةِ إلى لاذُّنُوبِ الدقيقة.
ويقال: انغل في الشَّيء، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافته كما يدخل في صميم الفؤادِ وجمع الغل غلال، والغُلُولُ: الأخذ في خُفْيَةٍ، وأحسن ما قيل إنَّ ذلك من لفظ الغلالة كأنّه تدرع ولبس الحِقْدَ والخيانة حتَّى صار إليه كالغلالةِ الملبوسة.
قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار}.
في هذه الجملة ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنَّها حال من الضَّميرِ في {صُدُورِهِم}، قاله أبُو البقاء وجعل العَامِلَ في هذه الحال معنى الإضافة.
والثاني: أنَّها حال أيضًا، والعامل فيها {نَزَعْنَا}، قاله الحوفيُّ.
الثالث: أنَّها استئناف إخبار عن صِفَةِ أحوالهم.
وردَّ أبُو حيَّان الوجهين الأوَّلين؛ أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ معنى الإضافة لا يعمل إلاّ إذا أمكن تجريدُ المضاف، وإعماله فيما بعده رفعًا أو نصبًا.
وأما الثاني فلأن {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} ليس من صفة فاعل {نَزَعْنَا}، ولا مفعوله وهما نَا ومَا فكيف ينتصب حالًا عنهما؟ وهذا واضح.
قال شهابُ الدِّين: قد تقدَّم غيره مرة أنَّ الحال تأتي من المضاف إليله إذا كان المضاف جزءًا من المضاف إليه لمدرك آخر، لا لما ذكره أبو البقاءِ من أنَّ العامل هو معنى الإضافة، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف، وإنْ كانت الحال ليست منه؛ لأنَّهما لمَّا كانا متضايفين، وكانا مع ذلك شيئًا واحدًا ساغ ذلك.
قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ}
قرأ الجماعة: {ومَا كُنَّا} بواو، وكذلك هي في مصاحف الأمصار غير الشَّامِ وفيها وجهان:
أظهرهما: أنَّها واو الاستئناف، والجملة بعدها مستأنفة.
والثاني: أنَّها حاليّة.
وقرأ ابن عامر {ما كنا} بدون واو، والجملة على ما تقدَّم من احتمال الاستئناف والحال، وهي في مصحف الشَّاميين كذا، فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه.
ووجه قراءة ابن عامر أنَّ قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} جار مجرى التَّفْسِيرِ لقوله: {هَدَانَا لِهَذَا}، فلما كان أحدهما غير الآخر؛ وجب حذف الحرف العاطف.
قوله: {لولا أَنْ هَدَانَا الله} {أن} وما في حيزها في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر محذوف على ما تقرَّر، وجواب {لَوْلاَ} مدلولٌ عليه بقوله: {ومَا كُنَّا} تقديره: لولا هدايته لنا موجودة لشقينا، أو ما كنا مهتدين.
قوله: {لَقَدْ جَاءَتْ} جواب قسم مقدَّر، و{بالحَقِّ} يجوز أن تكون الباء للتعدية، ف {بالحق} مفعول معنى، ويجوز أن تكون للحال أي: جَاءُوا ملتبسين بالحقِّ، وهذا من قول أهلِّ الجنَّةِ حين رَأوْا ما وعدهم الرُّسُلُ عيانًا، {ونُودُوا} هذا النداء يحتمل أن يكون من الله تعالى، وأن يكون من الملائكة.
قوله: {لَقَدْ جَاءَتْ} يجوز أنْ تكونَ المفسِّرة، فسَّرت النداء- وهو الظَّاهِرُ- بما بعدها، ويجوز أن تكون المخففة واسمها ضمير الأمر محذوفًا، فهي وما بعدها في محلّ نصب أوْ جرِّ؛ لأنَّ الأصل: بِأنْ تِلْكُمُ، وأُشير إليها بإشارة البعيد؛ لأنَّهُم وُعِدُوا في الدُّنْيَا.
وعبارة بعضهم هي إشَارَةٌ لغائب مسامحة؛ لأنَّ الإشارة لا تكونُ إلا لحاضِرٍ، ولكنَّ العلماء تُطلق على البعيد غائًا مجازًا.
قوله: {أوْرِثْتُمُوها} يجوز أن تكون هذه الجملة حاليّة كقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52].
ويجوز أن تكُون خبرًا عن {تِلْكُم}، ويجوز أن تكون {الجنّة} بدلًا أو عطف بيان و{أرِثْتُمُوها} الخبر.
ومنع أبُو البقاءِ أن تكون حالًا من تلكم للفصل بالخبر، ولأنَّ المبتدأ لا يعمل في الحال.
وأدغم أبُو عَمْرو والأخوان الثّاء في التاء، وأظهرها الباقون.
و{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تقدَّم [المائدة: 105].
أهـ.. باختصار.