فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعلم الله وقدرتُه لا حدّ لمتعلّقاتهما.
و{أنّ} في قوله: {أن قد وجدنا} تفسيرية للنّداء.
والخبر الذي هو: {قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا} مستعمل في لازم معناه وهو الاغتباط بحالهم، وتنغيص أعدائهم بعلمهم برفاهيّة حالهم، والتوركُ على الأعداء إذ كانوا يحسبونهم قد ضلّوا حين فارقوا دين آبائهم، وأنّهم حَرموا أنفسهم طيّبات الدّنيا بالانكفاف عن المعاصي، وهذه معانٍ متعدّدة كلّها من لوازم الإخبار، والمعاني الكنائيّة لا يمتنع تعدّدها لأنّها تبع للّوازممِ العقليّة، وهذه الكناية جمع فيها بين المعنى الصّريح والمعاني الكنائيّة، ولكنّ المعاني الكنائيّة هي المقصودة إذ ليس القصد أن يَعلم أهل النّار بما حصل لأهل الجنّة ولكن القصد ما يلزم عن ذلك.
وأمّا المعاني الصّريحة فمدلولة بالأصالة عند عدم القرينة المانعة.
والاستفهام في جملة: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا} مستعمل مجازًا مرسلًا بعلاقة اللّزوم في توقيف المخاطبين على غلطهم، واثارة ندامتهم وغمّهم على ما فرط منهم، والشّماتة بهم في عواقب عنادهم.
والمعاني المجازيّة التي علاقتها اللّزوم يجوز تعدّدها مثل الكناية، وقرينة المجاز هي: ظهور أنّ أصحاب الجنّة يعلمون أنّ أصحاب النّار وجدوا وعده حقًا.
والوجدان: إلفاء الشّيء ولقيّه، قال تعالى: {فوجد فيها رجلين يقتتلان} [القصص: 15] وفِعله يتعدّى إلى مفعول واحد، قال تعالى: {ووجد الله عنده} [النور: 39] ويغلب أن يذكر مع المفعول حالُه، فقوله: {وجدنا ما وعدنا ربنا حقا} معناه ألفيناه حالَ كونه حقًا لا تخلّف في شيء منه، فلا يدلّ قوله: {وجدنا} على سبق بحث أو تطلب للمطابقة كما قد يتوهّم، وقد يستعمل الوجدان في الإدراك والظنّ مجازًا، وهو مجاز شائع.
و{ما} موصولة في قوله: {مَا وعدنا ربّنا} و{مَا وعد ربّكم} ودَلت على أنّ الصّلة معلومة عند المخاطبين، على تفاوت في الإجمال والتّفصيل، فقد كانوا يعلمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وعد المؤمنين بنعيم عظيم، وتوعّد الكافرين بعذاب أليم، سمع بعضهم تفاصيل ذلك كلَّها أو بعضها، وسمع بعضهم إجمالها: مباشرة أو بالتّناقل عن إخوانهم، فكان للموصولية في قوله: {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا} إيجازٌ بديع، والجواب بنَعَم تحقيق للمسؤول عنه بهل: لأنّ السؤال بهَل يتضمّن ترجيح السّائل وقوع المسؤول عنه، فهو جوابُ المقرّ المتحسّر المعترف، وقد جاء الجواب صالحًا لظاهر السّؤال وخفيِّه، فالمقصود من الجواب بها تحقيق ما أريد بالسؤال من المعاني حقيقة أو مجازًا، إذ ليست نعَم خاصة بتحقيق المعاني الحقيقيّة.
وحذف مفعول وعَدَ الثّاني في قوله: {ما وعد ربكم} لمجرّد الإيجاز لدلالة مقابله عليه في قوله: {ما وعدنا ربنا} لأنّ المقصود من السّؤال سؤالهم عمّا يخصّهم.
فالتّقدير: فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم، أي من العذاب لأنّ الوعد يستعمل في الخير والشرّ.
ودلّت الفاء في قوله: {فأذّن مؤذن} على أنّ التّأذين مسبّب على المحاورة تحقيقًا لمقصد أهل الجنّة من سؤال أهل النّار من إظهار غلطهم وفساد معتقدهم.
والتّأذينُ: رفع الصّوت بالكلام رفعًا يُسمع البعيد بقدر الإمكان وهو مشتقّ من الأذن بضمّ الهمزة جارحةِ السمع المعروفة، وهذا التّأذين إخبار باللّعن وهو الإبعاد عن الخير، أي إعلام بأنّ أهل النّار مبعدون عن رحمة الله، زيادة في التّأييس لهم، أو دعاء عليهم بِزيادة البعد عن الرّحمة، بتضعيف العذاب أو تحقيق الخلود، ووقُوع هذا التأذين عقب المحاورة يعلَم منه أنّ المراد بالظّالمين، وما تبعه من الصّفات والأفعال، هم أصحاب النّار، والمقصود من تلك الصّفات تفظيع حالهم، والنّداء على خبْثثِ نفوسهم، وفساد معتقدهم.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم، وقُنبل عن ابن كثير: {أنْ لعنة الله} بتخفيف نون {أن} على أنّها تفسيريّة لفعل {أذّنَ} ورفععِ {لعنة} على الابتداء والجملة تفسيرية، وقرأه الباقون بتشديد النّون وبنصب {لعنة} على {أنّ} الجملة مفعول {أذّن} لتضمنه معنى القَول، والتّقدير: قائلًا أنّ لعنة الله على الظّالمين.
والتّعبير عنهم بالظّالمين تعريف لهم بوصف جرى مجرى اللّقب تعرف به جماعتهم، كما يقال: المؤمنين، لأهل الإسلام، فلا ينافي أنّهم حين وُصِفوا به لم يكونوا ظالمين، لأنّهم قد علّموا بطلان الشّرك حقّ العلم وشأن اسم الفاعل أن يكون حقيقة في الحال مجازًا في الاستقبال، ولا يكون للماضي، وأمّا إجراء الصّلة عليهم بالفعلين المضارعين في قوله: {يَصدّون} وقوله: {ويَبغونها} وشأنُ المضارع الدّلالة على حدث حاصل في زمن الحال، وهم في زمن التّأذين لم يكونوا متّصفين بالصدّ عن سبيل الله، ولا ببغي عوج السّبيل، فذلك لقصد ما يفيده المضارع من تكرّر حصول الفعل تبعًا لمعنى التّجدّد، والمعنى وصفهم بتكرّر ذلك منهم في الزّمن الماضي، وهو معنى قول علماء المعاني استحضار الحالة، كقوله تعالى في الحكاية عن نوح: {ويصنع الفلك} [هود: 38] مع أنّ زمن صنع الفلك مضى، وإنّما قصد استحضار حالة التّجدّد، وكذلك وصفهم باسم الفاعل في قوله: {وهم بالآخرة كافرون} فإن حقه الدلالة على زمن الحال، وقد استعمل هنا في الماضي: أي كافرون بالآخرة فيما مضى من حياتهم الدّنيا، وكلّ ذلك اعتماد على قرينة حال السّامعين المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من صيغة المضارع وصيغة اسم الفاعل، إذ قد عَلِم كلّ سامع أنّ المقصودين صاروا غير متلبّسين بتلك الأحداث في وقت التّأذين، بل تلبّسوا بنقائضها، فإنّهم حينئذ قد علموا الحقّ وشاهدوه كما دلّ عليه قولهم: {نَعَم}.
وإنَّما عُرّفوا بتلك الأحوال الماضية لأنّ النّفوس البشريّة تعرّف بالأحوال التي كانت متلبسة بها في مدّة الحياة الأولى.
فبالموت تنتهي أحوال الإنسان فيستقر اتّصاف نفسه بما عاشت عليه، وفي الحديث: «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه» رواه مسلم، ويجوز أن تكون هذه اللّعنة كانت الملائكة يَلعنونهم بها في الدّنيا.
فجهروا بها في الآخرة، لأنّها صارت كالشّعار للكفرة ينادَون بها، وهذا كما جاء في الحديث: «يؤتى بالمؤذّنين يوم القيامة يصرخون بالأذان» مع أنّ في ألفاظ الأذان ما لا يقصد معناه يومئذ وهو: «حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح».
وفي حكاية ذلك هنا إعلام لأصحاب هذه الصّفات في الدّنيا بأنّهم محقوقون بلعنة الله تعالى.
والمراد بالظّالمين: المشركون. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا}
وهكذا نرى التبكيت، وتصور لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضًا من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقًا وصدقًا، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة. فهل- يا أهل النار- وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟
ونلاحظ أن هناك خلافًا بين الأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون: {قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا}، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد الثانية بل قال: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا}؟
إنه قال سبحانه: ما وعد فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال: {ما وعدنا} لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضًا الخاص بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلًا من الله، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقابًا من الله.
وهنا يجيب أهل النار: {قالوا نعم}.
وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعًا بعد أن، كان وعيدًا، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعًا، وتحقق وجودهم في النار. {... فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44]
أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون} وفى سورة هود: {ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون} فزيد في هذه الآية ضمير الفصل ولم يزد في الأولى فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟
وجوابه والله أعلم: أن ابتداء الإخبار في الأعراف بحال هؤلاء الملعونين في الآيتين هو قوله تعالى في الأولى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} وابتداء الاخبار عنهم في سورة هود قوله تعالى: {أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} ففى هذا اطناب وتأمل ورود الظاهر في موضع المضمر من قوله: {على الظالمين} ولم يقل عليهم، فناسب زيادة ضمير الفصل وفى آية الأعراف إيجاز ناسبه سقوطه ولو لم يكن ما بين أن وألا فإن ذلك مراعى فيما قصدناه فأن أوجز من ألا وأن هنا حرف عبارة وتفسير وهى كالواردة في قوله: {ونودوا أن تلكم الجنة} وفي قوله: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا}، وتقع بعد ما يراد به القول وليس بلفظه وتفسر بأي وأما ألا فاستفتاح وكل من الموضعين على ما يجب ويناسب ولو فرض العكس لما ناسب والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)}
اعترف أهل النار بحقيقة الدِّين، وأقروا بسوء ما عملوا، ولكن حين لم ينفعهم إقرارٌ بحالٍ من الأحوال. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

قوله: {أَن قَدْ وَجَدْنَا}
{أن} يحتمل أن تكون تفسيرية للنِّدَاءِ، وأن تكون مخففة من الثَّقِيلَةِ، واسمها ضمير الأمر والشَّأنِ، والجملة بعدها خبرها، وإذَا كان الفعل مُتَصَرّفًا غير دعاء، فالأجود الفصل بـ {قَدْ} كهذه الآية أو بغيرها.
وقد تقدَّم تحقيقه في المائدة.
قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا}.
قلت: حُذف ذلك تخفيفًا لدلالة {وَعَدَنَا} عليه.
ولقائل أن يقول: أطْلِقَ ليتناول كلَّ ما وعد الله من البعث والحساب والعقاب والثواب، وسائر أحوال القيامة، لأنَّهُم كانوا مكذِّبين بذلك أجمع، ولأنَّ الموعود كله ممَّا ساءهم، وما نعيم أهل الجنَّة إلاَّ عذاب لهم فأطلق لذلك.
قال شِهَابُ الدِّين: قوله: ولقائل... إلى آخره.
هذا الجواب لا يطابق سؤاله؛ لأنَّ المدعي حذف المفعول الأوَّل، وهو ضمير المخاطبين.
والجوابُ وقع بالمفعول الثَّاني الذي هو الحِسَابُ والعقاب، وسائر الأحوال، فهذا إنَّما يناسب لو سئل عن حذف المفعول الثاني، لا المفعول الأول.
وأجاب ابْنُ الخطيبِ عن السُّؤالِ بأن قوله: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} يدلُّ على أنَّهُ تعالى خاطبهم بهذا الوَعْدِ وكونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التّشريف ومزيد التشريف لائق بحال المؤمنين.