فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (14):

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بيّن نفاقهم وعلته وسيرتهم عند دعاء الداعي إلى الحق بهذة الآيات بين سيرتهم في أقوالهم في خداعهم دليلًا على إفسادهم بقوله: {وإذا لقوا} واللقاء اجتماع بإقبال {الذين آمنوا} أي حقًا ظاهرًا وباطنًا، ولكن إيمانهم كما قال الحرالي فعل من أفعالهم لم ينته إلى أن يصير صفة لهم، وأما المؤمنون الذين صار إيمانهم صفة لهم فلا يكادون يلقونهم بمقتضاه، لأنهم لا يجدون معهم مدخلًا في قول ولا مؤانسة، لأن اللقاء لابد فيه من إقبال ما من الملتقيين.
انتهى {قالوا} خداعًا {آمنا} معبرين بالجملة الفعلية الماضية التي يكفي في إفادتها لما سقيت له أدنى الحدوث.
{وإذا خلوا} منتهين {إلى شياطينهم} أي الذين هم رؤوسهم من غير أن يكون معهم مؤمن، والشيطان هو الشديد البعد عن محل الخير- قاله الحرالي، {قالوا إنا معكم} معبرين بالأسمية الدالة على الثبات مؤكدين لها دلالة على نشاطهم لهذا الإخبار لمزيد حبهم لما أفاده ودفعًا لما قد يتوهم من تبدلهم من رأى نفاقهم للمؤمنينَ ثم استأنفوا في موضع الجواب لمن قال: ما بالكم تلينون للمؤمنين قولهم؟ {إنما نحن مستهزئون} أي طالبون للهُزء ثابتون عليه فيما نظهر من الإيمان والهزء إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه قاله الحرالي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

هذا هو النوع الرابع من أفعالهم القبيحة، يقال: لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريبًا منه، وقرأ أبو حنيفة: {وإذا لاقوا} أما قوله: {قَالُواْ ءامَنَّا} فالمراد أخلصنا بالقلب، والدليل عليه وجهان:
الأول: أن الإقرار باللسان كان معلومًا منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك.
الثاني: أن قولهم للمؤمنين {آمنا} يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين التصديق بالقلب، أما قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} فقال صاحب الكشاف: يقال خلوت بفلان وإليه، وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى، ومنه القرون الخالية، ومن خلوت به إذا سخرت منه، من قولك: خلا فلان بعرض فلان أي: يعبث به، ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلانًا وأذمه إليك.
وأما شياطينهم فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا} بيانٌ لتبايُن أحوالِهم وتناقضِ أقوالهم في أثناء المعاملة والمخاطبةِ حسَب تباينِ ومَساقِ ما صُدِّرت به قصتُهم لتحرير مذهبهم والترجمةِ عن نفاقهم، ولذلك لم يُتعرَّضْ هاهنا لِمُتَعَلَّق الإيمان فليس فيه شائبةُ التكرير. اهـ.

.قال القرطبي:

والشياطين جمع شيطان على التكسير؛ وقد تقدم القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة.
واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا؛ فقال ابن عباس والسُّدِّي: هم رؤساء الكفر.
وقال الكلبي: هم شياطين الجن.
وقال جمع من المفسرين: هم الكهان.
ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر. والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} ففيه سؤالان:
السؤال الأول: هذا القائل أهم كل المنافقين أو بعضهم.
الجواب: في هذا خلاف، لأن من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم وكانوا يقولون للمؤمنين آمنا وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم؛ لئلا يتوهموا فيهم المباينة، ومن يقول في الشياطين: المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين، ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم، وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين، لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض، وأما أصاغرهم فلا.
السؤال الثاني: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالجملة الإسمية محققة بأن؟
الجواب: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرًا بأقوى الكلامين، لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة؛ وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين، وأما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم، فلا جرم كان التأكيد لائقًا به. اهـ.
فائدة: في قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ}:
قال الفخر:
أما قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} ففيه سؤالان.
السؤال الأول: ما الاستهزاء؟
الجواب: أصل الباب الخفة من الهزء وهو العدو السريع، وهزأ يهزأ مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع، وحدُّه أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، فعلى هذا قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم.
السؤال الثاني: كيف تعلق قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} بقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} الجواب: هو توكيد له؛ لأن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه الثبات على الكفر وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} رد للإسلام، ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته، أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا: إنا معكم، فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا: إنما نحن مستهزئون. اهـ.

.قال الزمخشري:

فإن قلت: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالاسمية محققة بأن؟
قلت: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرًا بأقوى الكلامين وأوكدهما، لأنهم في ادّعاء حدوث الإيمان منهم ونشئه من قبلهم، لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم، وذلك إما لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه، إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرّك، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة واعتقاد.
وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة.
وكيف يقولونه ويطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والإنجيل.
ألا ترى إلى حكاية الله قول المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا} [آل عمران: 16].
وأما مخاطبة إخوانهم، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق ومثنة للتوكيد.
فإن قلت: أنى تعلق قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} بقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} قلت: هو توكيد له، لأن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه الثبات على اليهودية.
وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} ردّ للإسلام ودفع له منهم، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدًا به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر.
أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم: {إِنَّا مَعَكُمْ} فقالوا: فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام فقالوا: إنما نحن مستهزئون. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا} بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاءً فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضًا لأن المعنى ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقًا للخداع وذلك التفوه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة، والقول بأن المراد ب {مِنَ} أولًا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام ولا أقتدي به وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلومًا منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبي فيجب إرادته يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه، واللقاء استقبال الشخص قريبًا منه وهو أحد أربعة عشر مصدرًا للقي، وقرأ أبو حنيفة وابن السميقع لاقوا، وجعله في البحر بمعنى الفعل المجرد، وحذف المفعول في {آمنا} قيل اكتفاءً بالتقييد قبل {بالله وباليوم الآخر} [البقرة: 8] وقيل: المراد آمنا بما آمنتم به، وأبعد من قال أرادوا الإيمان بموسى عليه السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهامًا.
هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب، وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب، وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه.
{وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} من خلوت به وإليه إذا انفردت معه أو من قولهم في المثل: اطلب الأمر وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك ومنه {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] وعلى الثاني المفعول الأول هاهنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا خلوهم، وتعديته إلى المفعول الثاني ب {إلى} لما في المضي عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت منه، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلانًا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحًا خلا بمعنى سخر في كلام من يوثق به، وقولهم: خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو بمعنى تمكن منه على ما قيل، والدال على السخرية يعبث به، وزعم النضر بن شميل أن {إلى} هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف، نعم إن الخلوة كما في التاج تستعمل بإلى، والباء، ومع بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغر وكذا الزمان وليس بمعنى المضي، وإذا أريد به ذلك كان مجازًا وظاهر كلام غيره أنه حقيقة وضعيفان يغلبان قويًا.
والمراد ب {شياطينهم} من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهود كما قاله ابن عباس أو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة وكان على عهده صلى الله عليه وسلم كثير منهم ككعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبي بردة من بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام.
وحمله على شياطين الجن كما قاله الكلبي مما لا يختلج بقلبي، والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح كما في بعض الشواذ تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدًا والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر، وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضبًا والأنثى شيطانة وأنشد في البحر:
هي البازل الكوماء لا شيء غيرها ** وشيطانة قد جن منها جفونها

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب.
{قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث، وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهامًا منهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعًا لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان، وقيل: إن التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان وثباته، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم، وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكى عنهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1] إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى، والعوارض كثيرة ولهذا قيل: إنهم للتقية والخداع، ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان ليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربة أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا: {بالله وباليوم الآخر} [البقرة: 8].
والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين، رسالته صلى الله عليه وسلم ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى، وقرأ الجمهور {مَّعَكُمْ} بتحريك العين وقرئ شإذا بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم.
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} الاستهزاء الاستخفاف والسخرية، واستفعل بمعنى فعل تقول هزأت به واستهزأت بمعنى كاستعجب وعجب، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين.
وأصل هذه المادة الخفة يقال: ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف وقول الرازي: إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية غير موافق للغة والعرف.
والجملة إما استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ} إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين فأجابوا بذلك.
أو بدل من إنا معكم؛ وهل هو بدل اشتمال، أو كل، أو بعض؟ خلاف، أما الأول: فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزئ بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال.
وأما الثاني: وبه قال السعد: فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول، وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك، أو تأكيد لما قبله بأن يقال إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما نحن مستهزؤن لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررًا للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع النقيضين، أو يقال يلزم: {إِنَّا مَعَكُمْ} إنا نوهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيدًا باعتبار ذلك اللازم، وأولى الأوجه عند المحققين الاستئناف لولا ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز من أن موضوع إنما أن تجئ لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل، وقرئ: {مُسْتَهْزِءونَ} بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة، ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي. اهـ.