فصل: تفسير الآية رقم (54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: الكتاب الإنسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} الدالة علينا {واستكبروا عَنْهَا} ولم يلتفتوا إليها لوقوفهم مع أنفسهم {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} فلا تعرج أرواحهم إلى الملكوت {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة} أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة {حتى يَلِجَ الجمل} أي جمل أنفسهم المستكبرة {فِى سَمّ الخياط} [الأعراف: 40] أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته يد الشقاق، وسمه آداب الطريقة لأنها دقيقة جدًّا، وقد يقال: الخياط إشارة إلى خياط الشريعة، والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لا يمكن مع الاستكبار بل لابد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل أقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم {لَهُم مّن جَهَنَّمَ} الحرمان {مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] أي أن الحرمان أحاط بهم، وقيل: لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم.
{وَنَادَى أصحاب الجنة} المرحومون {أصحاب النار} المحرمون {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} من القرب حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من البعد {حَقًّا} {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ} وهو مؤذن العزة والعظمة {بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] الواضعين الشيء في غير موضعه {الذين يَصُدُّونَ} السالكين {عَن سَبِيلِ الله} أي الطريق الموصلة إليه سبحانه، وقيل: يصدون القلب والروح عن ذلك {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق، وقيل: يطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها {وَهُم بالآخرة} أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى {كافرون} [الأعراف: 45] لمزيد احتجابهم بما هم فيه {وَبَيْنَهُمَا} أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار {حِجَابٍ} فكل منهم محجوب عن صاحبه {وَعَلَى الأعراف} أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب {رِجَالٌ} وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته، قيل: وإنما سموا رجالًا لأنهم يتصرفون بإذن الله تعالى فيما سواه عز وجل تصرف الرجال بالنساء ولا يتصرف فيهم شيء من ذلك {يَعْرِفُونَ كُلًا بسيماهم} لما أعطوا من نور الفراسة {وَنَادَوْاْ أصحاب الجنة} أي جنة ثواب الأعمال {أَن سلام عَلَيْكُمْ} بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار، وقيل: إن سلامهم على أهل الجنة بإمدادهم بأسباب التزكية والتخلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم {لَمْ يَدْخُلُوهَا} أي لم يدخل أولئك الرجال الجنة لعدم احتياجهم إليها {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] في كل وقت بما هو أعلى وأغلى، وقيل: هم أي أهل الجنة يطمعون في دخول أولئك الرجال ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم ويستأنسوا بحضورهم {وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار} ليعتبروا {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} [الأعراف: 47] بأن تحفظ قلوبنا من الزيغ {ونادى أصحاب الأعراف رِجَالًا} [الأعراف: 48] من رؤساء أهل النار، وإطلاق الرجال عليهم وعلى أصحاب الأعراف كإطلاق المسيح على الدجال اللعين وعلى عيسى عليه السلام.
{أهؤلاء} [الأعراف: 49] إشارة إلى أهل الجنة {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء} أي الحياة التي أنتم فيها {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} أي النعيم الذي من الله تعالى به عليكم أو أفيضوا علينا من العلم أو العمل لننال به ما نلتم {قَالُواْ إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا} في الأزل {عَلَى الكافرين} [الأعراف: 50] لسوء استعدادهم، وقيل: إن الكفار لما كانوا عبيد البطون حراصًا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا وأدخلوا النار على ما ماتوا طلبوا الماء أو الطعام {وَلَقَدْ جئناهم بكتاب} وهو النبي صلى الله عليه وسلم الجامع لكل شيء والمظهر الأعظم لنا {فَصَّلْنَاهُ} أي أظهرنا منه ما أظهرنا {على هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52] لأنهم المنتفعون منه وإن كان من جهة أخرى رحمة للعالمين {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] أي ما يؤول إليه عاقبة أمره، وقيل: الكتاب الذي فصل على علم إشارة إلى البدن الإنساني المفصل إلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلا ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله سبحانه: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] وكما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} [الإسراء: 97] انتهى.
ويحتمل أن يكون الكتاب المذكور إشارة إلى الآفاق والأنفس وما يؤول إليه كل ظاهر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (54):

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان مدار القرآن على تقرير الأصول الأربع: التوحيد والنبوة والمعاد والعلم، وطال الكلام في إخباره سبحانه عن أوامره ونواهيه وأفعاله بأوليائه وأعدائه الدالة على تمام القدرة والعلم، وختم بأن شركاءهم تغني عنهم، علل ذلك بأنه الرب لا غيره، في سياق دال على الوحدانية التي هي أعظم مقاصد السورة، كفيل بإظهار الحجج عليها، وعلى المقصد الثاني- وهو الإعادة التي فرغ من تقرير أحوالها بالإبداء الذي تقرر في العقول أنه أشد من الإعادة- بأدلة متكلفة بتمام القدرة والعلم فقال: {إن ربكم} أي المحسن إليكم بالإيجاد من العدم وتدبير المصالح هو {الله} أي الملك الذي لا كفوء له وحده لا صنم ولا غيره؛ ثم وصفه بما حقق ذلك فقال: {الذي خلق السماوات والأرض} أي على اتساعهما وعظمتهما.
ولما كان ربما قال الكفار: ما له إذا كان قادرًا وأنت محق في رسالتك لا يعجل لنا الإتيان بتأويله، بين أن عادته الأناه وإن كان أمره وأخذه كلمح بالبصر إذا أراده، فقال: {في ستة أيام} أي في مقدارها؛ ولما كان تدبير هذا الخلق أمرًا باهرًا لا تسعه العقول، ولهذا كانت قريش تقول: كيف يسع الخلق إله واحد! أشار إلى عظمته وعلو رتبته بأداة البعد فقال: {ثم استوى على العرش} أي أخذ في التدبير لما أوجده وأحدث خلقه أخذًا مستوفى مستقصى مستقلًا به لأن هذا شأن من يملك ملكًا ويأخذ في تدبيره وإظهار أنه لا منازع له في شيء منه وليكون خطاب الناس على ما ألفوه من ملوكهم لتستقر في عقولهم عظمته سبحانه، وركز في فطرهم الأولى من نفي التشبيه منه، ويقال: فلان جلس على سرير الملك، وإن لم يكن هناك سرير ولا جلوس، وكما يقال في ضد ذلك: فلان ثل عرشه، أي ذهب عزه وانتقض ملكه وفسد أمره، فيكون هذا كناية لا يلتفت فيه إلى أجراء التركيب، والألفاظ على ظواهرها كقولهم للطويل: طويل النجاد، وللكريم: عظيم الرماد.
ولما كان سبحانه لا يشغله شان عن شأن، ابتدأ من التدبير هو آية ذلك بمشاهدته في تغطية الأرض بظلامه في آن واحد، فقال دالًا على كمال قدرته المراد بالاستواء بأمر يشاهد كل يوم على كثرة منافعة التي جعل سبحانه بها انتظام هذا الوجود: {يغشي} أي استوى حال كونه يغشي {الليل النهار} وقال أبو حيان: وقرأ حميد بن قيس: يغشى الليل- بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام، كذا قال عنه أبو عمرو الداني، وقال أبو الفتح بن جني عن حميد بنصب الليل ورفع النهار، وقال ابن عطية: وأبو الفتح أثبت، وهذا الذي قاله- من أن أبا الفتح أثبت- كلام لا يصح، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءة ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءة فضلًا عن النجاة الذين ليسوا مقرئين ولا رووا القراءة عن أحد ولا روى عنهم القراءة أحد، هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من العربية، فقد رأيت له كتابًا في كلا وكتابًا في إدغام أبي عمرو الكبير دلًا على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النجاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه، والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى، لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ {الليل} في قراءتهم- وإن كان منصوبًا- هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيرة مفعولًا، ولا يجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا من حيث المعنى، لأن المنصوبين تعدى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى، فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في: ملكت زيدًا عمرًا، إذ رتبة التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى- انتهى.
ولما أخبر سبحانه أن الليل يغطي النهار، دل على أن النهار كذلك بقوله مبينًا لحال الليل {يطلبه} أي الليل يجر ويطلب النهار دائمًا طلبًا {حثيثًا} أي سريعًا جدًّا لتغطية الليل، وذلك لأن الشيء لا يكون مطلوبًا إلا بعد وجوده، وإذا وجد النهار كان مغطيًا لليل، لأنهما ضدان، وجود أحدهما ماح لوجود الآخر، وابتدأ سبحانه بذكر الليل لأن إغشاءه أول كائن بعد تكمل الخلق، وحركتهما بواسطة حركة العرش، ولذا ربطهما به، وهي أشد الحركات سرعة وأكملها شدة، وللشمس نوعان من الحركة: أحدهما بحسب ذاتها تتم بقطع الدرج كلها في جميع الفلك، وبسببه تحصل السنة، والثاني بحسب حركة الفلك الأعظم تتم في اليوم بليلته، والليل والهنار إنما يحصلان بسبب حركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش لا بسبب حركة النيرين، وأجاز ابن جني أن يكون {يطلبه} حالًا من النهار في قراءة الجماعة وإن كان مفعولًا، أي حال كون النهار يطلب الليل حثيثًا ليغطيه، وأن يكون حالًا منهما معًا لأن كلًا منهما طالب للآخر، وبهذا ينتظم ما قاله في قراءة حميد، فإن كلًا منهما يكون غاشيًا للآخر، قال في كتابه المحتسب في القراءات الشواذ: ووجه صحة القراءتين والتقاء معنييهما أن الليل والنهار يتعاقبان، وكل واحد منهما وإن أزال صاحبه فإن صاحبه أيضًا مزيل له، وكل واحد منهما على هذا فاعل وإن كان مفعولًا ومفعول وإن كان فاعلًا، على أن الظاهر في الاستحثاث هنا إنما هو النهار لأنه بسفورة وشروقه أظهر أثرًا في الاستحثاث من الليل.
ولما ذكر الملوين، أتبعهما آية كل فقال: {والشمس والقمر والنجوم} أي خلقها، أو يغشى كل قبيل منهما ما الآخر آيته خال كون الكل {مسخرات} أي للسير وغيره {بأمره} وهو إرداته وكلامه، تقودها الملائكة كما روي أن لله ملائكة يجرون الشمس والقمر.
ولما صح أن جميع ما نراه من الذوات خلقه، وما نعلمه من المعاني أمره، أنتج قطعًا قوله: {ألا له} أي وحده، وقدم المسبب على السبب ترقية- كما هو مقتضى الحكم- من المحسوس إلى المعقول فقال: {الخلق} وهو ما كان من الإيجاد بتسبيب وتنمية وتطوير قال الرازي: فكل ما كان جسمًا او جسمانيًا كان مخصوصًا بمقدار معين فكان من عالم الخلق، فعالم الخلق بتسخيره، وعالم الأمر بتدبيره، واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره {والأمر} وهو ما كان من ذلك إخراجًا من العدم من غير تسبب كالروح، وما كان حفظًا وتدبيرًا بالكلام كالأديان وكل ما يلاحظ القيومية؛ وقال الرازي: كل ما كان بريئًا من الحجم والمقدار كان من عالم الأمر، وعد الملائكة من عالم الأمر، فأتنج ذلك قطعًا قوله على سبيل المدح الذي ينقطع دونه الأعناق ويتقاصر دون عليائه ذري الآفاق: {تبارك} أي ثبت ثبوتًا لا ثبوت في الحقيقة غيره اليمن والبركة وكثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة {الله} أي ذو الجلال والإكرام.
ولما دل على أنه يستحق هذا الثناء لذاته، دل على أنه يستحقه لصفاته فقال: {رب العالمين} أي مبدع ذلك كله ومربيه خلقًا وتصريفًا بأمره، وفي الجزء السادس من فوائد المخلص عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما يقول هذه الدوبية- يعني بشرًا المريسي؟ قالوا: يا أبا محمد! يزعم أن القرآن مخلوق، فقال: كذب، قال الله عزّ وجل: {ألا له الخلق والأمر} فالخلق خلق الله، والأمر القرآن- انتهى.
وهذا الذي فسر به مما تحتمله الآية بأن يكون الأمر هو المراد بقوله: {بأمره} وهو الإرادة والكلام مع احتمال ما قدمته. اهـ.