فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

واعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكى عنهم ذلك أجابهم بأشياء:
أحدها: قوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} وفيه أسئلة:
الأول: كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزئ وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس، وهو على الله محال، ولأنه لا ينفك عن الجهل، لقوله: {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} [البقرة: 67] والجهل على الله محال؟
والجواب: ذكروا في التأويل خمسة أوجه:
أحدها: أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء قال تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] وقال عليه السلام: «اللهم إن فلانًا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه، اللهم والعنه عدد ما هجاني» أي أجزه جزاء هجائه، وقال عليه السلام: «تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا».
وثانيها: أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم.
وثالثها: أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء، والمراد حصول الهوان لهم تعبيرًا بالسبب عن المسبب.
ورابعها: إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة، كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمرًا مع أن الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا التأويل ضعيف، لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا.
وخامسها: أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح الله من الجنة بابًا على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحًا أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] إلى قوله: {فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُون} [المطففين: 34] فهذا هو الاستهزاء بهم.
السؤال الثاني: كيف ابتدأ قوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} ولم يعطف على الكلام الذي قبله؟ الجواب: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة.
وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم، وفيه أيضًا أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقامًا للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله.
السؤال الثالث: هل قيل: إن الله مستهزئ بهم ليكون مطابقًا لقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ}.
الجواب: لأن {يستهزئ} يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتًا بعد وقت، وهذا كانت نكايات الله فيهم: {أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ في كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] وأيضًا فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا قُلُوبِهِم في قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64] الجواب الثاني: قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ في طغيانهم يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15].
قال صاحب الكشاف إنه من مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره، وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها؛ ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد، ومده الشيطان في الغي، وأمده إذا واصله بالوسواس، ومد وأمد بمعنى واحد.
وقال بعضهم: مد يستعمل في الشر، وأمد في الخير قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنين: 55] ومن الناس من زعم أنه من المد في العمر والإملاء والإمهال وهذا خطأ لوجهين:
الأول: أن قراءة ابن كثير، وابن محيصن {ونمدهم} وقراءة نافع {وإخوانهم يمدونهم في الغي} يدل على أنه من المدد دون المد.
الثاني: أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له، كأملي له. اهـ.

.قال الزمخشري:

فإن قلت: لا يجوز الاستهزاء على الله تعالى، لأنه متعال عن القبيح، والسخرية من باب العيب والجهل.
ألا ترى إلى قوله: {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} [البقرة: 67]، فما معنى استهزائه بهم؟
قلت: معناه إنزال الهوان والحقارة بهم، لأنّ المستهزئ غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به، وإدخال الهوان والحقارة عليه، والاشتقاق كما ذكرنا شاهد لذلك.
وقد كثر التهكم في كلام الله تعالى بالكفرة.
والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم، والدلالة على أن مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون ويضحك الضاحكون.
ويجوز أن يراد به ما مر في {يخادعون} من أنه يجري عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، وهو مبطن بادخار ما يراد بهم، وقيل: سمي جزاء الاستهزاء باسمه كقوله: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40]، {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194].
فإن قلت: كيف ابتدئ قوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} ولم يعطف على الكلام قبله.
قلت: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة.
وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ، الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء ولا يؤبه له في مقابلته، لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل.
وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقامًا للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله.
فإن قلت: فهلا قيل الله مستهزئ بهم ليكون طبقًا لقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} قلت: لأن {يَسْتَهْزِئ} يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتًا بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة بهم {أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ في كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قُلْ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64]. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم}:
اختلف العلماء في المراد، باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال:
أحدها: أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون.
روي عن ابن عباس.
والثاني: أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النَّار لهم كما تجمد الإِهالة في القدر، فيمشون فتنخسف بهم.
روي عن الحسن البصري.
والثالث: أن الاستهزاء بهم: إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم: {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا} [الحديد: 13] قاله مقاتل.
والرابع: أن المراد به: يجازيهم على استهزائهم، فقوبل اللفظ بمثله لفظًا وإن خالفه معنى، فهو كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] وقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ** فنجهلَ فوق جهل الجاهلينَا

أراد: فنعاقبه بأغلط من عقوبته.
والخامس: أن الاستهزاء من الله التخطئة لهم، والتجهيل، فمعناه: الله يخطئ فعلهم، ويجهلهم في الإقامة على كفرهم.
والسادس: أن استهزاءه: استدراجه إياهم.
والسابع: أنه إيقاع استهزائهم بهم، وردّ خداعهم ومكرهم عليهم.
ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم الأنباري.
والثامن: أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل: {ذق إِنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49] ذكره شيخنا في كتابه.
والتاسع: أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة، كان كالاستهزاء بهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} أي ينتقم منهم ويعاقبهم، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم؛ فسمى العقوبة باسم الذنب.
هذا قول الجمهور من العلماء؛ والعرب تستعمل ذلك كثيرًا في كلامهم؛ من ذلك قول عمرو بن كُلثوم:
ألاَ لا يَجهلَنْ أحدٌ علينا ** فنَجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا

فسمى انتصاره جهلًا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل؛ وإنما قاله ليَزْدَوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما.
وكانت العرب إذا وضعوا لفظًا بإزاء لفظ جوابًا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفًا له في معناه؛ وعلى ذلك جاء القرآن والسنة.
وقال الله عزّ وجلّ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].
وقال: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
والجزاء لا يكون سيئة.
والقصاص لا يكون اعتداء؛ لأنه حق وجب؛ ومثله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54].
و{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15- 16] و{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} وليس منه سبحانه مَكْرٌ ولا هزء ولا كَيْد، إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم؛ وكذلك {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة: 79].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يَمَلّ حتى تَمَلّوا ولا يسأم حتى تسأموا» قيل: حتى بمعنى الواو أي وتملوا.
وقيل المعنى وأنتم تملون.
وقيل: المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل.
وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هُزْءٌ وخَدْعٌ ومَكْرٌ، حسب ما روي: «إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم».
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا} هم منافقو أهل الكتاب؛
فذكرهم وذكر استهزاءهم، وأنهم إذا خلْوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر على ما تقدّم قالوا: إنَّا معكم على دينكم {إنما نحن مستهزئون} بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
{الله يستهزئ بهم} في الآخرة، يفتح لهم باب جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يَسْبَحون في النار، والمؤمنون على الأرائك وهي السرر في الحِجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سُدّ عنهم، فيضحك المؤمنون منهم؛ فذلك قول الله عزّ وجل: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} أي في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غُلِّقت دونهم الأبواب؛ فذلك قوله تعالى: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ} [المطففين: 34- 35] إلى أهل النار {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36].
وقال قوم: الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم؛ فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم، ويستر عنهم من عذاب الآخرة، فيظنون أنه راضٍ عنهم، وهو تعالى قد حتّم عذابهم.
فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع؛ ودلّ على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحبّ وهو مقِيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج» ثم نزع بهذه الآية: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الأنعام: 44- 45].
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [القلم: 44]: كلما أحدثوا ذنبًا أحدث لهم نعمة. اهـ.

.قال الألوسي:

{الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته وإن لم يكن المستهزئ من أسمائه سبحانه، وقالوا: إنه التحقير على وجه من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا استحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد، وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به جل وعلا حقيقة لما فيه من تقرير المستهزأ به على الجهل الذي فيه، ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفًا بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى، فالآية على هذا مؤولة إما بأن يراد بالاستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة هاهنا، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل، وإما بأن يراد به إنزال الحقارة والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرًا إلى التصور وبالعكس نظرًا إلى الوجود، وإما بأن يجعل الله تعالى وتقدس كالمستهزئ بهم على سبيل الاستعارة المكنية وإثبات الاستهزاء له تخييلًا، ورب شيء يصح تبعًا ولا يصح قصدًا وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيمًا للعباد، وقد يقال: إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزئ؛ أما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وأما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال: هلم هلم فيجئ بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال: هلم هلم فيجئ بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له باب فيقال: هلم هلم فما يأتيه، وقد روي ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في المستهزئين بالناس، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدرًا الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيمًا لشأنهم لأنهم ما استهزئ بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله سبحانه، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد، وقيل: ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابًا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين، وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} [البقرة: 14] إشعار بأن ما حكي من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم، ويشعر كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام كهم مستهزءون بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقًا وأنه تولى مجازاتهم مطلقًا بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة، وأيضًا لكون استهزاء الله تعالى بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيًا أنه لو عطف ولو بحسب التوهم على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤون بهم والله يستهزئ بهم لفاتت الفائدتان هذا، ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر، وعدل سبحانه عن الله مستهزئ بهم المطابق لقولهم إلى قوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ من الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل:
خلقت ألوفًا ولو رجعت إلى الصبا ** لفارقت شيبي موجع القلب باكيًا

وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرًا متجددًا مستمرًا {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ في كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} وهذا نوع من العذاب الأدنى {وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 6 2] وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصًا وإنما تركه المنافقون فيما حكى عنهم خوفًا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملًا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا. اهـ.