فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعترض بأن الفلك الأعظم إن كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الأفلاك أيضًا وهو الكرسي والسموات السبع بل ادعوا أن النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى وكيف شاء، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إنها تجري في ثخن الأفلاك جري السمك في الماء كل في فلك يسبحون، وفسر فيما نقل عنه قوله سبحانه: {وَهُوَ الذي مَدَّ} بيجعله غاشيًا له غشيان الرجل المرأة وقال: ذكر سبحانه الغشيان هنا والإيلاج في آية أخرى وهذا هو التناكح المعنوي وجعله ساريًا في جميع الموجودات، وإن صح هذا فما أصح قولهم: الليل حبلى وما ألطفه، وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح.
والحاصل من هذا الغشيان عند من يقول به ما في هذا العالم من معدن ونبات وحيوان وهي المواليد الثلاث أو من الحوادث مطلقًا، ويقرب من هذا قوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ** كر الغداة ومر العشي

وأنت تعلم أن لا مؤثر في الوجود على الحقيقة إلا الله تعالى، ووجه ذكره سبحانه هذا بعد ذكره الاستواء على ما نقل عن القفال أنه جل شأنه لما أخبر العباد باستوائه أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات، ولا يخفى أن هذا قد يحسن وجهًا لذكر ذلك وما بعده بعد ذكر الاستواء وأما لذكره بخصوصه هناك دون تسخير الشمس والقمر فلا، وذكر صاحب الكشف في توجيه اختيار صاحب الكشاف هنا أن الغاشي هو النهار وفي الرعد (3) هو الليل، وتفسيره التغشية هناك بالإلباس وهنا بالإلحاق نظرًا إلى الخلاصة ما يفهم منه وجه تقديم التغشية على التسخير الآتي في هذه الآية وعكسه في آية الرعد حيث قال: والنكتة في ذلك أن تسخر الشمس والقمر ذكر هنالك من قبل في تعديد الآيات فلما فرغ ذكر إدخال الليل على النهار ليطابقه ولأنه أظهر في الآية وأن الشمس مسخرة مأمورة وهاهنا جاء به على أسلوب آخر تمهيدًا لقوله سبحانه: {ادعوا رَبَّكُمْ} [الأعراف: 55] أي من هذه ألطافه وآياته في شأنكم فرجح جانب اللفظ على الأصل، وللجمع بين القراءتين أيضًا اه فتدبر ولا تغفل.
وقرئ {يُغْشِى} بالتشديد للدلالة على التكرار.
{والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ} أي خلقهن حال كونهن مذللات تابعات لتصرفه سبحانه فيهن بما يشاء غير ممتنعات عليه جل شأنه كأنهن مميزات أمرن فانقدن فتسمية ذلك أمرًا على سبيل التشبيه والاستعارة، ويصح حمل الأمر على الإرادة كما قيل أي هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته.
ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامي وقال: إنه سبحانه أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصوص إلى حيث شاء.
ولا مانع من أن يعطيها الله تعالى إدراكًا وفهمًا لذلك بل ادعى بعضهم أنها مدركة مطلقًا، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن لبعضها إدراكًا لغير ما ذكر، وإفراد الشمس والقمر بالذكر مع دخولهما في النجوم لإظهار شرفهما عليها لما فيهما من مزيد الإشراق والنور وبسيرهما في المنازل تعرف الأوقات.
وقدم الشمس على القمر رعاية للمطابقة مع ما تقدم وهي من البديع ولأنها أسنى من القمر وأسمى مكانة ومكانًا بناء على ما قيل من أنها في السماء الرابعة وأنه في السماء الأولى، وليس بمسلم عند المحدثين كالقول بأن نوره مستفاد من نورها لاختلاف تشكلاته على انحاء متفاوتة بحسب وضعه من الشمس في القرب والبعد عنها مع ما يلحقه من الخسوف لا لاختلاف التشكلات وحده فإنه لا يوجب الحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس قطعًا لجواز أن يكون نصفه مضيئًا من ذاته ونصفه مظلمًا ويدور على نفسه بحركة مساوية لحركة فلكه فإذا تحرك بعد المحاق يسيرا رأيناه هلالا ويزداد فنراه بدرًا ثم يميل نصفه المظلم شيئًا فشيئًا إلى أن يؤول إلى المحاق.
وفي كونها مسخرات دلالة على أنها لا تأثير لها بنفسها في شيء أصلًا.
وقرأ جميعها ابن عامر بالرفع على الابتداء والخبر.
والنصب بالعطف على {السموات} والحالية كما أشرنا إليه، وجوز تقدير جعل وجعل الشمس مفعولًا أولًا و{مسخرات} مفعولًا ثانيًا.
{أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} كالتذييل للكلام السابق أي أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ويدخل في ذلك السموات والأرض دخولًا أوليًا وهو الذي دبرها وصرفها على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشير إليه بقوله سبحانه: {مسخرات بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] لا أحد غيره كما يؤذن به تقديم الظرف.
وفسر بعضهم الأمر هنا بالإرادة أيضًا، وفسر آخرون الأمر بما هو مقابل النهي والخلق بالمخلوق أي له تعالى المخلوقون لأنه خلقهم وله أن يأمرهم بما أراد، واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله تعالى شأنه ليس بمخلوق فقال: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني من جعل الأمر الذي هو كلامه سبحانه من جملة ما خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق مثله كذا في تفسير الخازن وليس بشيء كما لا يخفى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك، وشاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجردات.
{تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} أي تقدس وتنزه عن كل نقص ويدخل في ذلك تنزهه تعالى عن نقص في الخلق أو في الأمر دخولًا أوليًا.
ففي ذلك إشارة إلى أنهما طبق الحكمة وفي غاية الكمال ولا يقال ذلك في غيره تعالى بل هو صفة خاصة به سبحانه كما في القاموس.
وقال الإمام: إن البركة لها تفسيران أحدهما البقاء والثبات والثاني كثرة الآثار الفاضلة فإن حملته على الأول فالثابت الدائم هو الله تعالى، وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله تعالى فهذا الثناء لا يليق إلا بحضرته جل وعلا.
واختار الزجاج أنه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ولم يجيء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل مثلا، وقال البيضاوي: المعنى: تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد بالربوبية، وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه ثم حقق الآية بما لا يخلو عن دغدغة ومخالفة لما عليه سلف الأمة. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي: إن سيدكم ومالككم ومدبركم الذي يجب أن تعبدوه أيها الناس، الذي أنشأ أعيان السموات والأرض في مقدار ستة أيام.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى: قال الشهاب: اليوم في اللغة مطلق الوقت، فإن أريد هذا، فالمعنى في ستة أوقات، كقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَه}.
وإن أريد المتعارف، وهو زمان طلوع الشمس إلى غروبها، فالمعنى في مقدار ستة أيام، لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسموات، فيقدر فيه مضاف. انتهى.
وفي شرح القاموس: إن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، أو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، وإن الثاني تعريف شرعي عند الأكثر.
ونقل عن الفاسي شارحه: أن اليوم عند المنجمين من الطلوع إلى الطلوع، أو من الغروب إلى الغروب.
ثم قال الزبيدي: ويستعمل بمعنى مطلق الزمان، نقله عن ابن هشام، وحكاه عن سيبويه في قولهم: أنا، اليوم، أفعل كذا، فإنهم لا يريدون يومًا بعينه، ولكنهم يريدون الوقت الحاضر.
قال: وبه فسروا قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
ثم قال: وقد يراد باليوم الوقت مطلقًا، ومنه والحديث: تلك أيام الهرج، أي: وقته ولا يختص بالنهار دون الليل. انتهى.
وإرادة الوقت مطلقًا منه، عين إرادة مطلق الزمان قبله، كما يتبادر.
والظاهر أن إطلاقه على المتعارف والوقت مطلقًا، لغوي فيهما- كما نقلهما شارح القاموس- خلافًا لظاهر كلام الشهاب السابق، فتثبتْ هذا.
الثانية: قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خلق العالم، سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم عليه السلام.
واختلفوا في هذه الأيام: هل كل يوم منها كهذه الأيام، كما هو المتبادر إلى الأذهان، أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل؟ ويروى من رواية الضحاك عن ابن عباس.
فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق، لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجلال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة، آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل» فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي، من غير وجه، وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار، ليس مرفوعًا- والله أعلم- انتهى.
وقد بسطت الكلام فيه في شرحي على الأربعين العجلونية.
الثالثة: قال القاضي: في خلق الأشياء مدرجًا، مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للإختيار، أي: لأنه لو كان بالإيجاب، لصدر دفعة واحدة، وفيه حث على التأني في الأمور.
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} اعلم أن الاستواء ورد على معان اشترك لفظه فيها، فجاء بمعنى الإستقرار ومنه: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِي}، وبمعنى القصد ومنه:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}، وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له، وإليه قال الفراء: تقول العرب: استوى إليّ يخاصمني، أي: أقبل عليّ، ويأتي بمعنى الاستيلاء، قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق

وقال آخر:
فلما علونا واستوينا عليهم ** تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ويأتي بمعنى العلو، ومنه آية: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْك} ومنه هذه الآية.
قال البخاري في آخر صحيحه، في كتاب الرد على الجهمية، في باب قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} قال مجاهد: استوى، علا على العرش. انتهى.
وفي كتاب العلو للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: ارتفع.
ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع، وقال: إنه في كل مواضعه بمعنى علا وارتفع، وأقول: لا حجة إلى الإستكثار من ذلك، فإن الاستواء غير مجهول، وإن كان الكيف مجهولًا.
روى الإمام أحمد بن حنبل في كتابه الرد على الجهمية عن شريح بن النعمان، عن عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء.
وروى البيهقي عن ابن وهب قال: كنت عند مالك، فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله!: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق مالك، وأخذته الرُّحَضَاء، ثم رفع رأسه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة.
وفي رواية قال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.