فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد دلّت الآثار الصّحيحة من أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على وجود هذا المخلوق العظيم المسمّى بالعرش كما سنبيّنه.
فأمّا إذا عُدّي فعل الاستواء بحرف اللاّم فهو مستعار من معنى القصد والتّوجّه إلى معنى تعلّق الإرادة، كما في قوله: {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29].
وقد نحا صاحب الكشاف نحوًا من هذا المعنى، إلاّ أنّه سلك به طريقة الكناية عن المُلك: يقولون استوى فلان على العرش يريدون مُلك.
والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليْه المَلِك، قال تعالى: {ولها عرش عظيم} [النما: 23] وقال: {ورفع أبويه على العرش} [يوسف: 100]، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التّشبيه المركّب، ومن بداعة هذا التّشبيه أن كان كلّ جزء من أجزاءِ الهيئة المشبهة مماثلًا لجزءٍ من أجزاء الهيئة المشبَّه بها، وذلك أكمل التّمثيل في البلاغة العربيّة، كما قدّمتُه آنفًا.
وإذ قد كان هذا التّمثيل مقصودًا لتقريب شأن من شؤون عظمة مُلك الله بحال هيئةٍ من الهيئات المتعارفة، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبّرين للأمور المتعارفة أعني الملوك، وذلك شعارُ العرش الذي من حَوْله تصدر تصرّفات الملك، فإنّ تدبير الله لمخلوقاته بأمر التّكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة، وقد بيّن القرآن عَمَل بعضهم مثل جبريل عليه السّلام وملَككِ الموت، وبيَّنت السنة بعضها: فذكرت ملك الجبال، وملك الرّياح، والملك الذي يباشر تكوين الجنين، ويكتُب رزقَه وأجلَه وعاقبتَه، وكذلك أشار القرآن إلى أن من الموجودات العلويّة موجودًا منوّها به سمّاه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة.
ولمّا ذكر خلق السّماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنّه موجود قبل هذا الخلق.
وبيّنت السنّة أنّ العرش أعظم من السماوات وما فيهن، من ذلك حديث عمران بن حصين أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان الله ولم يكن شيء قبلَه وكان عرشه على الماء ثمّ خلق السّماوات والأرض» وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال في حديث طويل: «فإذا سألتم الله فاسألُوه الفِردوس فإنّه أوسط الجنّة، وأعلَى الجنّة وفوقَه عرش الرّحمن ومنه تفجَّر أنهار الجنّة» وقد قيل إنّ العرشِ هو الكرسي وأنّه المراد في قوله تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} كما تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة (255).
وقد دلّت {ثُمّ} في قوله: {ثم استوى على العرش} على التّراخي الرّتبي أي وأعظم من خلق السّماوات والأرض استواءه على العرش، تنبيهًا على أنّ خلق السّماوات والأرض لم يحدث تغييرًا في تصرّفات الله بزيادة ولا نقصان، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السّماوات والأرض في آيات كثيرة، ولعلّ المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود: إنّ الله استراح في اليوم السّابع فهو كالمقصد من قوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38].
وجملة {يغشى الليل النهار} في موضع الحال من اسم الجلالة، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرّفه المضمّن في الاستواء على العرش، وتنبيه على المقصود من الاستواء، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس (3) وسورة الرّعد (2) بقوله: {يدبر الأمر} وخصّ هذا التّصرف بالذّكر لما يدلّ عليه من عظيم المقدرة، وما فيه من عبرة التّغيّر ودليللِ الحدوث، ولكونه متكرّرًا حدوثه في مشاهدة النّاس كلّهم.
والإغشاء والتّغشية: جعل الشّيء غاشيًا، والغَشْي والغشيان حقيقته التّغطيّة والغمّ.
فمعنى: {يغشى الليل النهار} أنّ الله يجعل أحدهما غاشيًا الآخر.
والغشي مستعار للإخفاء، لأنّ النّهار يزيل أثر اللّيل واللّيل يزيل أثر النّهار، ومن بديع الإيجاز ورشاقة التّركيب: جعل الليل والنّهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي، ولهذا استغنى بقوله: {يغشى الليل النهار} عن ذكر عكسه ولم يقل: والنّهار اللّيل، كما في آية {يكور الليل على النهار} [الزمر: 5] لكن الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّلُ هو الفاعل في المعنى، ويجوز العكس إذا أمِن اللّبس، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص {يُغْشِي} بضمّ الياء وسكون الغين وتخفيف الشّين.
وقرأه حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر، ويعقوب، وخلَف بضمّ الياء وفتح الغين وتشديد الشّين وهما بمعنى واحد في التّعدية.
وجملة: {يطلبه} إن جعلت استينافًا أو بدلَ اشتمال من جملة {يغشي} فأمرها واضح، واحتمل الضّمير المنصوب في {يطلبه} أن يعود إلى اللّيل وإلى النّهار، وإن جعلت حالا تعين أن تعتبر حالًا من أحد المفعولين على السَّواء فإنّ كلًا اللّيل والنّهار يعتبر طالبًا ومطلوبًا، تبعًا لاعتبار أحدهما مفعولًا أوّل أو ثانيًا.
وشُبّه ظهور ظلام اللّيل في الأفق ممتدًا من المشرق إلى المغرب عند الغروب واختفاء نور النّهار في الأفق ساقطًا من المشرق إلى المغرب حتّى يعمّ الظّلامُ الأفقَ بطلب اللّيل النّهارَ، على طريقة التّمثيل، وكذلك يفهم تشبيه امتداد ضوء الفجر في الأفق من المشرق إلى المغرب واختفاءُ ظلام اللّيل في الأفق ساقطًا في المغرب حتّى يعمّ الضياء الأفقَ: بطلب النّهار اللّيلَ على وجه التّمثيل، ولا مانع من اعتبار التّنازع للمفعولين في جملة الحال كما في قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} [مريم: 27] وقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}.
والحثيث: المسرع، وهو فعيل بمعنى مفعول، من حثَه إذا أعجله وكَرّر إعجاله ليبادر بالعجلة، وقريب من هذا قول سلامة من جَنْدَل يذكر انتهاء شبابه وابتداء عصر شيْبه:
أوْدَى الشّبابُ الذي مَجْدٌ عواقِبه ** فيهِ نَلَذَّ ولا لَذّاتتِ للشّيب

ولَّى حثيثًا وهذا الشّيبُ يَتَبَعُه ** لو كان يُدْرِكه ركْضُ اليَعاقيبِ

فالمعنى يطلبه سريعًا مُجدًّا في السّرعة لأنّه لا يلبث أن يعفى أثره.
{والشمس والقمر والنجوم} بالنّصب في قراءة الجمهور معطوفات على السّماوات والأرض، أي وخلق الشّمسَ والقمر والنّجوم، وهي من أعظم المخلوقات التي اشتملت عليها السّماوات.
و{مسخرات} حال من المذكورات.
وقرأ ابن عامر برفع {الشمس} وما عطف عليه ورفْععِ {مسخرات}، فتكون الجملة حالا من ضمير اسم الجلاله كقوله: {يغشى الليل النهار}.
وتقدّم الكلام على اللّيل والنّهار عند قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} في سورة البقرة (164) ويأتي في سورة الشّمس.
والتّسخير حقيقته تذلِيل ذي عمل شاققٍ أو شاغلٍ بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض، فمنه تسخير العبيد والأسرى، ومنه تسخير الأفراس والرّواحل، ومنه تسخير البقر للحلب، والغنم للجزّ.
ويستعمل مجازًا في تصريف الشّيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه، بحيلة أو إلهام تصريفًا يصيّره من خصائصه وشؤونه، كتسخير الفُلك للمخر في البحر بالرّيح أو بالجذف، وتسخير السّحاب للأمطار، وتسخير النّهار للعمل، واللّيل للسّكون، وتسخير اللّيل للسّير في الصّيف، والشّمس للدّفء في الشّتاء، والظلّ للتبرد في الصّيف، وتسخير الشّجر للأكل من ثماره حيث خلق مجرّدًا عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشّوك الشّديد، فالأسد غير مسخّر بهذا المعنى ولكنّه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزُبية أو نحوها، ولذلك قال الله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه} [الجاثية: 13] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوّة العلاقة.
فقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} أطلق التّسخير فيه مجازًا على جعلها خاضعة للنّظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير، مع أنّ شأن عظمها أن لا يستطيعَ غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط.
ولفظ الأمر في قوله: {بأمره} مستعمل مجازًا في التّصريف بحسب القدرة الجارية على وفق الإرادة.
ومنه أمر التّكوين المعبّر عنه في القرآن بقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] لأن {كن} تقريب لنفاذ القدرة المسمّى بالتّعلّق التّسخيري عند تعلّق الإرادة التّنجيزي أيضًا فالأمر هنا من ذلك، وهو تصريف نظام الموجودات كلّها.
وجملة: {ألا له الخلق والأمر} مستأنفة استئناف التّذييل للكلام السّابق من قوله: {الذي خلق السموات والأرض} لإفادة تعميم الخَلْق.
والتّقدير: لما ذُكر آنفًا ولِغيره.
فالخلق: إيجاد الموجودات، والأمر تسخيرها للعمل الذي خلقت لأجله.
وافتتحت الجملة بحرف التّنبيه لتَعِي نفوسُ السّامعين هذا الكلام الجامع.
واللام الجارة لضمير الجلالة لام المِلك.
وتقديم المسند هنا لتخصيصه بالمسند إليه.
والتّعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في مِلك الله تعالى، فليس لغيره شيء من هدا الجنس، وهو قصر إضافي معناه: ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر، وأمّا قصر الجنس في الواقع على الكون في مِلك الله تعالى فذلك يرجع فيه إلى القرائن، فالخلق مقصور حقيقة على الكون في ملكه تعالى، وأمّا الأمر فهو مقصور على الكون في ملك الله قصرًا ادعائيًا لأنّ لكثيرٍ من الموجودات تدبيرَ أمور كثيرة، ولكن لما كان المدبِّر مخلوقًا لله تعالى كان تدبيره راجعًا إلى تدبير الله كما قيل في قصر جنس الحمْد في قوله: {الحمد لله} [الفاتحة: 2].
وجملة {تبارك الله رب العالمين} تذييل معترضة بين جملة {إن ربكم الله} وجملة {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [الأعراف: 55] إذ قد تهيّأ المقام للتّذكير بفضل الله على النّاس، وبنافع تصرّفاته، عقب ما أجرى من إخبار عن عظيم قدرته وسعة علمه وإتقاننِ صنعه.
وفعل {تبارك} في صورة اشتقاقه يؤذن بإظهار الوصف على صاحبه المتّصف به مثل: تثاقل، أظهر الثّقل في العمل، وتعالل، أي أظهر العلّة، وتعاظم: أظهر العظمة، وقد يستعمل بمعنى ظهور الفعل على المتّصف به ظهورًا بيِّنًا حتى كأنّ صاحبه يُظهره، ومنه: {تعالى الله} [النمل: 63] أي ظَهر علوّه، أي شرفه على الموجودات كلّها، ومنه {تبارك} أي ظَهرت بركته.
والبركة: شدّة الخير، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا} في سورة آل عمران (96)، وقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} في سورة الأنعام (92).
فبركة الله الموصوفُ بها هي مجده ونزاهته وقدسه، وذلك جامع صفات الكمال، ومن ذلك أنّ له الخلق والأمر.
وإتْباع اسم الجلالة بالوصف وهو رب العالمين في معنى البيان لاستحقاقه البركة والمجد، لأنّه مفيض خيرات الإيجاد والإمداد، ومدبّر أحوال الموجودات، بوصف كونه ربّ أنواع المخلوقات، ومضى الكلام على {العالمين} في سورة الفاتحة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
هنا ربوبية، وهنا ألوهية: {رَبَّكُمُ الله} ولا أحد يختلف في مسألة الربوبية لأن الحق يقول على ألسنة الكافرين والمشركين: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله...} [الزمر: 38] وكذلك إن سألتهم من خلقهم؟ سيقولون: الله، ولم يدّع أحد نفسه مسألة الربوبية، لأن الربوبية جاءت بنفع لهم، لكن الألوهية دخلت بمنهج هو: افعل ولا تفعل؛ لأن التكليف من الإله الرب، والتكليف نعمة منه وهو لمصلحتكم أنتم، فلا شيء في التكليف يعود على الله. وفعلكم الحسن أو السيء لن يعطي لله صفة لم تكن له؛ لأن صفات الكمال أوجدكم. وإن كنتم أنتم في شك في هذه الربوبية فربكم هو الله- ولله المثل الأعلى- منزه عن التشبيه، كأن تقول الأم للولد: قال لك أبوك لا تسهر خارج المنزل ليلًا، فيتأبى الولد. وتنبه الأم ولدها: إن أباك هو الذي يأتي لك بالأكل والشرب، والملابس ويعطيك مصروف اليد.. إلخ.