فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالعرش إذن هو سرير الملك؛ لأن الملك لا يجلس على العرش إلا بعد أن تستقر الأمور.
فكأن قوله: {استوى عَلَى العرش} كناية عن تمام الأمور؛ وخلقها وانتهت المسألة. لكن العلماء حين جاءوا في {استوى}، اختلفوا في فهمها؛ لأن العرش لو كان كرسيًا يجلس عليه الله، لكان في ذلك تحييز لله ووضعه وضمه في جرم ما. وسبحانه منزه عن أن يحيزه شيء. ولذلك أخذ العلماء يتلمسون معاني لكلمة {استوى} منهم من قال: إن معناها هو قصد إليها بخلقه واختراعه، ومنهم من قال: المقصود بها أنه استعلى وارتفع أمره، ومنهم من قال: صعد أمره إلى السماء واستند إلى قوله الحق: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ...} [فصلت: 11]
وكلها معانٍ متقاربة. وجماعة من العلماء أرادوا أن يخرجوا من التشبيهات؛ فقالوا: المقصود ب {استوى} أنه استوى على الوجود، ولذلك رأوا أن وجود العرش والجلوس عليه هو سمة لاستقرار الملك. وحتى لا ندخل في متاهات التشبيهات، أو متاهات التعطيل نقول: علينا أن نأخذ كل شيء منسوب إلى الله في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]
فحين يقول سبحانه: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ...} [الفتح: 10]
ونحن نفهم أن لليد مدلولًا، والقرآن لغة عربية يخاطبنا بها سبحانه، فالقول إن لله يدًا فهذا دليل على قدرته. واستخدام الحق كلمة اليد هنا كناية عن القدرة. والإِنسان عليه أن يأخذ كل شيء منسوب إلى الله مما يوجد مثله في البشر، في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فنقول: سبحانه له يد ليست كيد البشر، وله وجود لكنه ليس كوجود البشر، وله عين ليست كعيون البشر. وله وجه ليس كوجه أحد من البشر. ولذلك حينما سئل سيدنا الإِمام مالك عن هذه المسألة قال لمن سأله: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة وأراك رجل سَوْء! أخرجوه. نعم السؤال عنه بدعة لأنه يدخل بنا في متاهة التشبيه ومتاهة التعطيل، وهل سأل أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الاستواء؟.. لا؛ لأنهم فهموا المعنى، ولم يعلق شيء من معناها في أذهانهم حتى يسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنهم فهموها بفطرتهم التي فطرهم الله عليها في إطار ما يليق بجلال الله وكماله.
وإن قال قائل: أرسول الله كان يعلم المعنى أم لا يعلم؟.. إن كان يعلم لأخبرنا بها، وإن لم يخبرنا فقد أراد أن يكتمها. وإن لم يكن قد علم الأمر.. فهل تطلب لنفسك أن نعلم ما لم يعلمه صلى الله عليه وسلم؟
أو أنّه صلى الله عليه وسلم ترك لكل واحد أن يفهم ما يريد ولكن في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والذين يمنعون التأويل يقولون: إياك أن تؤول اليد بالقدرة؛ لأنه إن قال: إن له يدًا، فقل ليست كأيدينا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}؛ لأنه سبحانه له حياة، وأنت لك حياة، أحياته كحياتك؟. لا، فلماذا إذن تجعل يده مثل يدك؟.. إذن لابد أن ندخل على كل صفة لله فننفي عنها التعطيل وننفي عنها التشبيه. ثم إن من يمنعون التأويل نقول لكل منهم: أنت ستضطر أخيرًا إلى أن تؤول؛ لأن الحق يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ...} [القصص: 88]
ومادام {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فكل ما يطلق عليه شيء يهلك، ويبقى وجهه سبحانه فقط، فلو أنت قلت الوجه هو هذا الوجه، فكأن يده تهلك ورجله تهلك وصدره يهلك، وحاشا لله أن يحدث ذلك. وتكون قد دخلت في متاهة ما لها من آخر. لذلك نقول: لنأخذ النص وندخله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وآية الاستواء على العرش هذه، مذكورة في سور كثيرة، وهي تحديدًا في سبعة مواضع؛ في سورة الأعراف التي نحن بصددها، وسورة يونس، وسورة الرعد، وسورة طه، وسورة الفرقان، وسورة السجدة، وسورة الحديد.
وهنا يقول الحق بعد الحديث عن الاستواء على العرش: {يُغْشِي اليل النهار}.
الله سبحانه قد خلق السماء والأرض للخليفة في الأرض وهيأ له فيها أصول الحياة الضرورية ودلّه على ما يحتاج إليه، فماذا سيفعل هذا الخليفة؟.
لابد أن يقوم بكل مقومات الحياة، وإذا ما عمل فسيبذل جهدًا، والجهد يقتضي راحة. ومن يشتغل ساعة لابد أن يرتاح ساعة. وإن اشتغل ساعتين ولم يسترح ساعة غُلب على نفسه.
ونحن نرى في الالة التي تعمل ثلاث ورديات يوميًا أي التي تعمل لمدة الأربع والعشرين ساعة دون توقف أنها تُستهلك أكثر من الآلة التي تعمل ورديتين، والآلة التي تعمل وردية واحدة لمدة ثماني ساعات يطول عمرها أكثر. وكل إنسان يحتاج إلى الراحة. فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن الليل والنهار متعاقبان من أجل هذا الهدف: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ...} [القصص: 73]
أي لتسكنوا في الليل، وتبتغوا الفضل في النهار، فإن كنت لم تسترح بالليل فلن تقدر أن تعمل بالنهار، فمن ضروريات حركة الخلافة في الأرض أن يوجد وقت للراحة ووقت للعمل. لذلك أوضح سبحانه لنا: أنا خلقت الليل والنهار، وجعلت الليل سكنًا إلى للراحة والبعد عن الحركة، والحق يقول هنا: {يُغْشِي اليل النهار...} [الأعراف: 54]
ويكون المعنى هنا أن النهار يغشي الليل، ولذلك تحدثنا من قبل عن تتابع الليل والنهار لنستنبط منها الدليل على أن الأرض كرة. {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]
والليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، وفي مصر نكون في نهار مثلا، ويكون هذا الوقت في بلد آخر ليلًا، وإذا سلسلتها إلى أول ليل وإلى أول نهار، وأيهما الذي كان خلفه للثاني؟ فلن تجد؛ لأن كلا الاثنين خلقا معًا. ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة التسطيح وكانت الشمس قد خلقت مواجهة لسطح الأرض لكان النهار قد خلق أولًا ثم يعقبه الليل، ولو كانت الشمس قد خلقت غير مواجهة للسطح كان الليل سيأتي أولًا ثم تطلع الشمس على السطح ليوجد النهار. والحق سبحانه أراد من الليل والنهار أن يكون كلاهما خلفة للآخرة، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كان الله سبحانه خلق الليل والنهار دفعة واحدة. كان لابد أن تكون الأرض كرة؛ ليغشى النهار الجزء المواجه للشمس، وليغشى الليل الجزء غير المواجه للشمس، وحين تدور الأرض يأتي النهار خلفة لليل، ويكون الليل خلفه للنهار. {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]
{يُغْشِي اليل النهار} ويغشى النهار الليل وحذفت للاعتماد على الآيات السابقة التي منها قوله الحق سبحانه: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار...} [يس: 40]
أي أن الليل لا يسبق النهار وكذلك النهار لا يسبق الليل، وهذا دليل على أنهما خُلقًا دفعة واحدة.
والحق يقول هنا: {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر...}
فلا أحد من هذه الكائنات له اختيار أن يعمل أو لا يعمل، بل كلها مسخرة، ولذلك تجد النواميس الكونية التي لا دخل للإنسان فيها ولاختياراته دخل في أمورها تسير بنظام دقيق، ففي الوقت الفلاني ستأتي الأرض بين الشمس والقمر، وفي الوقت الفلاني سيقع القمر بين الأرض والشمس، وسيحدث للشمس خسوف، وكل أمر من هذا له حساب دقيق. {يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثًا والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر...} [الأعراف: 54]
والخلق إيجاد الأشياء من عدم، فبعد ان خلق الله الكون لم يترك شؤون الكون لأحد، بل سبحانه له الأمر بعد ذلك. وقيوميته؛ لأنه لم يزاول سلطانه في ملكه ساعة الخلق ثم ترك النواميس تعمل، لا، فبأمره يُعطل النواميس أحيانًا، ولذلك شاء الحق أن تكون معجزات الأنبياء لتعطيل النواميس؛ لنفهم أن الكون لا يسير بالطبع أو بالعلة. لذلك يقول: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر}.
وإذا نظرت إلى كلمة {الأمر} تجد الحق يقول: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ...} [آل عمران: 154]
والمقصود هو الأمر الكوني، أما الأمور الاختيارية فلله فيها أمر يتمثل في المنهج، وأنت لك فيها أمر إما أن تطيع وإما أن تعصي، وأنت حر. {... أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54]
وحين يقول سبحانه: {تَبَارَكَ الله} وقال من قبل: {أَحْسَنُ الخالقين}، فكل لفظ له معنى، ففي خلقه من البشر مواهب تَخْلق ولكن من موجود وأوضحنا ذلك.
وفي قول آخر يصف الحق نفسه: {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} [الأنعام: 62]
والناس تتعلم الحساب وخلقوا آلات حاسبة، وهي آلات تتم برمجتها وإعدادها وتهيئتها للجمع والطرح والضرب والقسمة، وكل حدث من الحساب يأخذ مدة. لكن الحق يحسب لكل البشر دفعة واحدة. لذلك فهو أسرع الحاسبين؛ لأنه ليس هناك حساب واحد، فأنت لك حساب مع الله، والآخر له حساب مع الله، والحساب مع الله متعدد بتعدد أفراد المحاسبين، وحساب الحق للخلق لا يحتاج إلى علاج، بل ينطبق عليها ما ينطبق على الرزق، ولذلك حينما سئل عليّ كرم الله وجهه:
- أيحاسب الله خلقه في وقت واحد؟
قال: وما العجب في ذلك ألم يرزقهم في وقت واحد؟
وانظر إلى القرآن تجد الحق {أَسْرَعُ الحاسبين} و{أَحْسَنُ الخالقين}، و{أَرْحَمُ الراحمين} و{خَيْرُ الوارثين}. وهذه هي الألفاظ التي وردت، ولله فيها مع خلقه صفة، لكن صفة الله دائما في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين}.
و{تَبَارَكَ الله} أي أنه تعالى تنزّه؛ لأن هناك فرقًا بين القدرة المطلقة- وهي قدرة الله- والانفعال للقدرة المطلقة بالإِرادة وب {كن} وهذا هو الانفعال والانقياد وللإِرادة والأمر. اهـ.

.قال الصابوني:

{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي إن معبودكم وخالقكم الذي تعبدونه هو المنفرد بقدرة الإِيجاد الذي خلق السماوات والأرض في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا قال القرطبي: لو أراد لخلقها في لحظة ولكنه أراد أن يعلِّم العبادَ التثبت في الأمور {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيلٍ ولا تحريف كما هو مذهب السلف وكما قال الإِمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وقال الإِمام أحمد رحمه الله: أخبارُ الصفات تُمرُّ كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل فلا يقال: كيف؟ ولِمَ؟ نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء بلا حدٍّ ولا صفةٍ يبلغها واصف أو يحدها حادُّ، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما ونكِلُ الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل وقال القرطبي: لم ينكر أحدٌ من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقةً وإِنما جهلوا كيفية الساتواء فإِنه لا تُعلم حقيقته {يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي يغطي الليل على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعًا حتى يدركه {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ} أي الجميع تحت قهره ومشيئته وتسخيره {بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} أي له الملك والتصرف التام في الكائنات {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} أي تعظّم وتمجّد الخالق المبدع رب العالمين. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)} إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}
قوله: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء} الإفاضة: التوسعة، يقال أفاض عليه نعمه، طلبوا منهم أن يواسوهم بشيء من الماء، أو بشيء مما رزقهم الله من غيره من الأشربة أو الأطعمة، فأجابوا بقولهم: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا} أي الماء وما رزقهم الله من غيره {عَلَى الكافرين} فلا نواسيكم بشيء مما حرّمه الله عليكم.
وقيل: إن هذا النداء من أهل النار كان بعد دخول أهل الأعراف الجنة، وجملة {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} في محل جر صفة الكافرين، وقد تقدّم تفسير اللهو واللعب والغرر.