فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}.
التفسير:
وفيه مباحث:

.المبحث الأول: في قوله تعالى: {ومن الناس من يقول} الآية:

وفيه مسائل:
الأولى: عن مجاهد قال: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين. فأقول: أحوال القلب أربع: الاعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل، وخلو القلب عن كل ذلك. وأحوال اللسان ثلاث: الإقرار والإنكار والسكوت. كل منها بالاختيار أو بالاضطرار، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسمًا فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعًا لها في الذكر.
النوع الأول: العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختيارًا فصاحبه مؤمن حقًا بالاتفاق، أو اضطرارًا فهو منافق، لأنه لولا الخوف لما أقرّ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار. وإن انضم إليه الإنكار اضطرارًا فهو مسلم لقوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106] أو اختيارًا فهو كافر معاند. وإن انضم إليه السكوت اضطرارًا فمسلم حقًا لأنه خاف، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذورًا أو اختيارًا فمسلم أيضًا عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان».
النوع الثاني الاعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختيارًا فهو المسألة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا، والأكثرون على إيمانه. أو اضطرارًا فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول. وإن وجد معه الإنكار اختيارًا فلا شك في كفره، أو اضطرارًا فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد. وإن وجد معه السكوت اضطرارًا فمسلم بناء على إسلام المقلد، أو اختيارًا فكافر معاند.
النوع الثالث: الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطرارًا نفاق، وكذا اختيارًا لأنه أظهر خلاف ما أضمر. ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان، وكذا مع السكوت.
النوع الرابع: القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختيارًا، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا. وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر، أما إذا كان اضطراريًا فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحًا. والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب، وإن كان خارجًا عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا نفاق. فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خاليًا عما يشعر به ظاهره، ومنه النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج.
الثانية: زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان. وقال الآخرون: المنافق أيضًا كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه. قال عز من قائل: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1] وأيضًا إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك. وأيضًا الكافر الأصلي على طبع الرجال، والمنافق على طبيعة الخنائي. وأيضًا الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه، والمنافق رضي بالكذب. وأيضًا المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صمًا بكمًا عميًا وضرب لهم الأمثال الشنيعة.
الثالثة: قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي. حذفت الهمزة تخفيفًا، مع لام التعريف كاللازم.
وقوله:
إن المنايا يطلعن ** على الإناس الآمنينا

قليل.
ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان. سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن. وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء.
و{من} في {من يقول} موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله: {من المؤمنين رجال} [الأحزاب: 23] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف. وإن لم يكن مفيدًا من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس، ولا يجوز أن تكون {من} موصولة حينئذ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف، فيبقى الكلام غير مفيد رأسًا. وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو {ومنهم الذين يؤذون النبي} [التوبة: 61] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم، ولا يجوز أن تكون {من} موصوفة إذ ذاك، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضًا، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين.
ومن البين أن مدلول قوله: {وما هم بمؤمنين} معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعًا، والضمير العائد إلى {من} يكون موحدًا تارة باعتبار اللفظ نحو {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة} [الأنعام: 25] ومجموعًا أخرى باعتبار المعنى مثل {ومنهم من يستمعون إليك} [يونس: 42] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في {يقول} و{آمنا}.
وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره. وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت: إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك؟ قلت: إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم: {عزير ابن الله} وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته. فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلًا للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثًا إلى خبث وكفرًا إلى كفر. والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده. فإن قلت: كيف طابق قوله: {وما هم بمؤمنين} قولهم: {آمنا} والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني بالعكس؟ قلت: لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة، جيء بالجملة الأسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال: إنهم لم يؤمنوا. ونظير الآية قوله تعالى: {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها} [البقرة: 167]. ثم إن قوله: {وما هم بمؤمنين} يحتمل أن يكون مقيدًا وترك لدلالة التقييد في {آمنا}.
ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما.

.المبحث الثاني: في قوله: {يخادعون الله} إلى {يكذبون}:

أعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء: أحدها المخادعة وأصلها الإخفاء، ومنه سميت الخزانة المخدع. والأخدعان عرفان في العنق خفيان. وخدع الضب خدعًا إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلًا. والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية.
فإن قيل: مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة:
تلك الفتاة التي علقتها عرضًا ** إن الحليم ذا الإسلام يختلب

لم يجز أن يخدعوا. قلنا: كانت صورة صنعهم مع الله- حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون- صورة صنع الخادعين، وصورة صنع الله معهم- حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار- صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم- حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم. ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقًا لم يكن عارفًا بالله ولا بصفاته، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعًا ومصابًا بالمكروه من وجه خفي، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 10]. ويحتمل أن يكون من قولهم أعجبني زيد وكرمه فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص. ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة: 62] {إن الذين يؤذون الله ورسوله} [الأحزاب: 57] وقولهم علمت زيدًا فاضلًا الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد، لأن زيدًا كان معلومًا له قديمًا كأنه قيل: علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيدًا. ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال: عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة فاعلت لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه.
و{يخادعون} بيان ليقول، ويجوز أن يكون مستأنفًا كأن قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين؟ فقيل: يخادعون. وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم واطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم. والسؤال الذي يذكر هاهنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولاسيما في تفسير قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} [البقرة: 7] وقراءة من قرأ: {وما يخادعون إلا أنفسهم} [البقرة: 9] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأن مكرهًا يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء: 142] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل، وأنفسهم أيضًا تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب. وأن يراد {وما يخدعون} فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة. والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى: {تعلم ما في نفسي} [المائدة: 116] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه.
والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمرض حالة توجب وقوع الخلل في الأفعال الصادرة عن موضوعها، واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة بأن يراد الألم كما تقول: في جوفه مرض. ومجازًا بأن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد والغل والحسد والميل إلى المعاصي، فإن صدورهم كانت تغلي على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلًا وحنقًا {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} [آل عمران: 119] وناهيك بما كان من ابن أبي، وقول سعد بن عبادة لرسول له صلى الله عليه وسلم اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة- وذلك شيء منظوم بالجواهر شبه التاج- أي يجعلوه ملكًا، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك. أو يراد ما يداخل قلوبهم من الضعف والخور لأنهم كانوا يطمعون أن ريح الإسلام تهب حينًا ثم تركد، فكانت تقوى قلوبهم بذلك الطمع. فلما شاهدوا شوكة المسلمين وإعلاء كلمة الحق وما قذف الله في قلوبهم من الرعب ضعفت جبنًا وخورًا. ومعنى زيادة الله إياهم مرضًا أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فكفروا به ازدادوا كفرًا إلى كفرهم، فأسند الفعل إلى المسبب له كما أسند إلى السورة في قوله: {فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 125] وهذا كما قال الحكيم: البدن الغير النقي كلما فدوته زدته شرًا. وكلما زاد رسوله نصرة وتبسطًا ازدادوا حسدًا وبغضًا. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع، ويحتمل أن يقال: الغل والحسد قد يفضي إلى تغير مزاج القلب ويؤدي إلى تلف صاحبه كقوله:
اصبر على مضض الحسو ** د فإن صبرك قاتله

النار تأكل نفسها ** إن لم تجد ما تأكله

فإفضاء صاحبه إلى الهلاك هو المعني بالزيادة. والأليم الوجيع. ووصف العذاب به على طريقة قولهم جد جده والألم بالحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد. والمراد بكذبهم قولهم: {آمنا بالله وباليوم الآخر}. وفي ترتب الوعيد على الكذب دليل على قبح الكذب وسماجته. وما يروى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه كذب ثلاث كذبات أحدها قوله: {إني سقيم} [الصافات: 89] وثانيها قوله لسارة حين أراد أن يغصبها ظالم إنها أختي وثالثها قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63] فالمراد التعريض «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. والكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وقد يعتبر فيه علم المخبر بكون المخبر عنه مخالفًا للخبر، والصدق نقيضه. وقراءة من قرأ: {يكذبون} بالتشديد إما من كذبه الذي هو نقيض صدقه، وإما من كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق نحو: بان الشيء وبين الشيء ومنه قوله:
قد بين الصبح لذي عينين

أو بمعنى الكثرة نحو موتت البهائم، أو من قولهم كذب الوحشي إذا جرى شوطًا ثم وقف لينظر ما وراءه لأن المنافق متوقف متردد في أمره مذبذب بين ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» وما في قوله: {بما كانوا} مصدرية أي بكذبهم، وكان مقحمة لتفيد الثبوت والدوام أي بسبب أن هذا شأنهم وهجيراهم.