فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال الخليل عليه السلام: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فهذه الوجوه هي المذكورة في هذا الباب.
واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة والأسئلة المذكورة واردة في جميع أنواع العبادات، فإنه يقال إن كان هذا الإنسان سعيدًا في علم الله فلا حاجة إلى الطاعات والعبادات، وإن كان شقيًا في علمه فلا فائدة في تلك العبادات، وأيضًا يقال وجب أن لا يقدم الإنسان على أكل الخبز وشرب الماء لأنه إن كان هذا الإنسان شبعان في علم الله تعالى فلا حاجة إلى أكل الخبز، وإن كان جائعًا فلا فائدة في أكل الخبز، وكما أن هذا الكلام باطل هاهنا، فكذا فيما ذكروه، بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجًا إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزًا عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه، ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة، وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفًا بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفًا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية، فإذا كان الدعاء مستجمعًا لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات.
وقوله تعالى: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل فما لم يعتقد العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع، فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه، فثبت أن لفظ القرآن دليل عليه والذي يقوي ما ذكرناه ما روي أنه عليه السلام قال: «ما من شيء أكرم على الله من الدعاء والدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} [غافر: 60] وتمام الكلام في حقائق الدعاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] والله أعلم.
المسألة الثانية: في تقرير شرائط الدعاء:
اعلم أن المقصود من الدعاء أن يصير العبد مشاهدًا لحاجة نفسه ولعجز نفسه ومشاهدًا لكون مولاه موصوفًا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فكل هذه المعاني دخلت تحت قوله: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} ثم إذا حصلت هذه الأحوال على سبيل الخلوص، فلابد من صونها عن الرياء المبطل لحقيقة الإخلاص، وهو المراد من قوله تعالى: {وَخُفْيَةً} والمقصود من ذكر التضرع تحقيق الحالة الأصلية المطلوبة من الدعاء والمقصود من ذكر الإخفاء صون ذلك الأخلاص عن شوائب الرياء، وإذا عرفت هذا المعنى ظهر لك أن قوله سبحانه: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} مشتمل على كل ما يراد تحقيقه وتحصيله في شرائط الدعاء، وأنه لا يزيد عليه ألبتة بوجه من الوجوه، وأما تفصيل الكلام في تلك الشرائط، فقد بالغ في شرحها الشيخ سليمان الحليمي رحمة الله عليه في كتاب المنهاج فليطلب من هناك.
المسألة الثالثة:
التضرع التذلل والتخشع، وهو إظهار ذل النفس من قولهم: ضرع فلان لفلان، وتضرع له إذا أظهر الذل له في معرض السؤال والخفية ضد العلانية.
يقال: أخفيت الشيء إذا سترته، ويقال: {خفية} أيضًا بالكسر، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر عنه {خفية} بكسر الخاء هاهنا وفي الأنعام، والباقون بالضم، وهما لغتان:
واعلم أن الإخفاء معتبر في الدعاء، ويدل على وجوه: الأول: هذه الآية فإنها تدل على أنه تعالى أمر بالدعاء مقرونًا باللإخفاء، وظاهر الأمر للوجوب، فإن لم يحصل الوجوب، فلا أقل من كونه ندبًا.
ثم قال تعالى بعده: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} والأظهر أن المراد أنه لا يحب المعتدين في ترك هذين الأمرين المذكورين، وهما التضرع والإخفاء، فإن الله لا يحبه ومحبة الله تعالى عبارة عن الثواب، فكان المعنى أن من ترك في الدعاء التضرع والإخفاء، فإن الله لا يثيبه ألبتة، ولا يحسن إليه، ومن كان كذلك كان من أهل العقاب لا محالة، فظهر أن قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء.
الحجة الثانية: أنه تعالى أثنى على زكريا فقال: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} [مريم: 3] أي أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطع به إليه.
الحجة الثالثة: ما روى أبو موسى الأشعري، أنهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبرون ويهللون رافعي أصواتهم فقال عليه السلام: «ارفقوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا وإنه لمعكم».
الحجة الرابعة: قوله عليه السلام: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية» وعنه عليه السلام: «خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي» وعن الحسن أنه كان يقول: إن الرجل كان يجمع القرآن وما يشعر به جاره، يفقه الكثير وما يشعر به الناس، ويصلي الصلاة الطويلة في ليله وعنده الزائرون وما يشعرون به ولقد أدركنا أقوامًا كانوا يبالغون في إخفاء الأعمال، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع صوتهم إلا همسًا، لأن الله تعالى قال: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وذكر الله عبده زكريا فقال: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} [مريم: 3].
الحجة الخامسة: المعقول وهو أن النفس شديدة الميل عظيمة الرغبة في الرياء والسمعة، فإذا رفع صوته في الدعاء امتزج الرياء بذلك الدعاء فلا يبقى فيه فائدة ألبتة فكان الأولى إخفاء الدعاء ليبقى مصونًا عن الرياء وهاهنا مسائل عظم اختلاف أرباب الطريقة فيها، وهي: أنه هل الأولى إخفاء العبادات أم إظهارها؟ فقال بعضهم الأولى إخفاؤها صونًا لها عن الرياء وقال أخرون: الأولى إظهارها ليرغب الغير في الاقتداء به في أداء تلك العبادات.
وتوسط الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي فقال: إن كان خائفًا على نفسه من الرياء الأولى الإخفاء صونًا لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنًا عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء.
المسألة الرابعة:
قال أبو حنيفة رحمه الله، إخفاء التأمين أفضل.
وقال الشافعي رحمه الله، إعلانه أفضل، واحتج أبو حنيفة على صحة قوله، قال: في قوله: آمين وجهان: أحدهما: أنه دعاء.
والثاني: أنه من أسماء الله، فإن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله تعالى: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وإن كان اسمًا من أسماء الله تعالى وجب إخفاؤه لقوله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ونحن بهذا القول نقول:
أما قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
أجمع المسلمون على أن المحبة صفة من صفات الله تعالى، لأن القرآن نطق بإثباتها في آيات كثيرة.
واتفقوا على أنه ليس معناها شهوة النفس وميل الطبع وطلب التلذذ بالشيء، لأن كل ذلك في حق الله تعالى محال بالاتفاق، واختلفوا في تفسير المحبة في حق الله تعالى على ثلاثة أقوال:
فالقول الأول: أنها عبارة عن أيصال الله الثواب والخير والرحمة إلى العبد.
والقول الثاني: أنها عبارة عن كونه تعالى مريدًا لإيصال الثواب والخير إلى العبد.
وهذا الاختلاف بناء على مسألة أخرى وهي: أنه تعالى هل هو موصوف بصفة الإرادة أم لا؟ قال الكعبي وأبو الحسين: إنه تعالى غير موصوف بالإرادة ألبتة، فكونه تعالى مريدًا لأفعال نفسه أنه موجد لها وفاعل لها، وكونه تعالى مريدًا لأفعال غيره كونه آمرًا بها ولا يجوز كونه تعالى موصوفًا بصفة الإرادة.
وأما أصحابنا ومعتزلة البصرة فقد أثبتوا كونه تعالى موصوفًا بصفة المريدية.
إذا عرفت هذا فمن نفي الإرادة في حق الله تعالى فسر محبة الله بمجرد إيصال الثواب إلى العبد ومن أثبت الإرادة لله تعالى فسر محبة الله بإرادته لإيصال الثواب إليه.
والقول الثالث: أنه لا يبعد أن تكون محبة الله تعالى للعبد صفة وراء كونه تعالى مريدًا لإيصال الثواب إليه، وذلك لأنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخير إلى ذلك الابن فكانت هذه الإرادة أثرًا من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها وفائدة من فوائدها.
أقصى ما في الباب أن يقال: إن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة النفس وذلك في حق الله تعالى محال، إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال محبة الله تعالى صفة أخرى، سوى الشهوة وميل الطبع يترتب عليها إرادة إيصال الخير والثواب إلى العبد؟ أقصى ما في الباب، أنا لا نعرف أن تلك المحبة ما هي وكيف هي؟ إلا أن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء ألا ترى أن أهل السنة يثبتون كونه تعالى مرئيًا، ثم يقولون إن تلك الرؤية مخالفة لرؤية الأجسام والألوان، بل هي رؤية بلا كيف، فلم لا يقولون هاهنا أيضًا أن محبة الله للعبد محبة منزهة عن ميل الطبع وشهوة النفس بل هي محبة بلا كيف؟ فثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع.
بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة فوجب نفيها، لكنا بينا في كتاب نهاية العقول أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة.
المسألة الثانية:
قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي المجاوزين ما أمروا به.
قال الكلبي وابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء.
المسألة الثالثة:
اعلم أن كل من خالف أمر الله تعالى ونهيه، فقد اعتدى وتعدى فيدخل تحت قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} وقد بينا أن من لا يحبه الله فإنه يعذبه، فظاهر هذه الآية يقتضي أن كل من خالف أمر الله ونهيه، فإنه يكون معاقبًا، والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق، وقالوا لا يجوز أن يقال المراد منه الاعتداء في رفع الصوت بالدعاء وبيانه من وجهين: الأول: أن لفظ {المعتدين} لفظ عام دخله الألف واللام، فيفيد الاستغراق غايته أنه إنما ورد في هذه الصورة لكنه ثبت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الثاني: أن رفع الصوت بالدعاء ليس من المحرمات بل غايته أن يقال الأولى تركه، وإذا لم يكن من المحرمات لم يدخل تحت هذا الوعيد.
والجواب المستقصى ما ذكرناه في سورة البقرة أن التمسك بهذه العمومات لا يفيد القطع بالوعيد. اهـ.

.قال السمرقندي:

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
فلما وصف وبالغ في ذلك وأعجزهم فأمرهم بأن يدعوه فقال: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} قال الكلبي: يعني في الأحوال كلها.
يعني: ادعوا الذي خلق هذه الأشياء في الأحوال كلها.
ويقال خفية يعني: اعتقدوا عبادته في أنفسكم لأن الدعاء معناه العبادة.
ثم قال: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يعني: أن يدعوا بما لا يحل أو يدعوا على أحد باللعن والخزي أو تدعوا عليه بالشر. اهـ.

.قال الثعلبي:

{ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} تذلّلا واستكانة {وَخُفْيَةً} سرًّا.
وروى عاصم الأحول عن ابن عثمان الهندي عن أبي موسى قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاء فأ شرفوا على واد فجعل ناس يكبّرون ويهلّلون ويرفعون أصواتهم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «أيُّها الناس أربعوا على أنفسكم إنّكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنّكم تدعون سميعًا قريبًا إنّه معكم».
وقال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفًا ثمّ قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وماشعر به جاره فالرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلّي الصلاة الطويلة في بيت وعنده الدور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدورن أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدًا.
ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوتًا كأن كان إلا همسًا بينهم وبين دينهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وإن الله ذكر عبدًا صالحًا ورضى فعله فقال عزّ مَنْ قائل: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3].
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} في الدعاء، قال أبو مجلن: هم الذين يسألون منازل الأنبياء، وقال عطيّة العوفي: هم الذين يدعونه فيما لا يحل على المؤمنين فيقولون: اللّهمّ أخزهم اللّهمّ ألعنهم، قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصفح وكانوا يؤمرون بالتضرّع والاستكانة. اهـ.