فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

ثم أمر بأن يدعوُه مخلِصين متذلِّلين فقال: {ادعوا رَبَّكُمْ} الذي قد عَرَفتم شؤونَه الجليلة {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي ذوي تضرّعٍ وخُفية فإن الإخفاءَ دليلُ الإخلاص {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي لا يحب دعاءَ المجاوزين لما أُمروا به في كل شيء، فيدخُل فيه الاعتداءُ في الدعاء دخولًا أوليًا، وقد نُبِّه به على أن الداعيَ يجب أن لا يطلُب ما لا يليق به كرتبة الأنبياءِ والصعودِ إلى السماء، وقيل: هو الصياحُ في الدعاء والإسهابُ فيه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «سيكونُ قومٌ يعتدون في الدعاء وحسْبُ المرءِ أن يقول: اللهم إني أسألُك الجنةَ وما قرَّب إليها من قول وعملٍ، وأعوذُ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل» ثم قرأ: {إنَّهُ لا يحبُّ المعتدين}. اهـ.

.قال الألوسي:

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عبادة أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عز من قائل: {ادعوا رَبَّكُمْ} الذي عرفتم شؤونه الجليلة، والمراد من الدعاء كما قال غير واحد السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه.
ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات.
وقيل: المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليه {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه وفيه نظر، أما أولًا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدًا وضربت عمرًا.
وأما ثانيًا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هناك أو هنا، وأما ثالثًا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى: {تَضَرُّعًا} أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل، وجوز نصبه على المصدرية وكذا الكلام فيما بعد.
وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان، وقال الزجاج التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا، وقيل: التضرع مقابل الخفية واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية.
{وَخُفْيَةً} أي سرًا.
أخرج ابن المبارك وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وأنه سبحانه ذكر عبدًا صالحًا فرضي له فعله فقال تعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} [مريم: 3] وفي رواية عنه أنه قال: «بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفًا».
وجاء من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال لقوم يجهرون: «أيها الناس إربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا بصيرًا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» والمعنى ارفقوا بأنفسكم واقصروا من الصياح في الدعاء.
ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به.
وفي الانتصاف حسبك في تعين الإسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله تعالى في الدعاء وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار يصحبه، وترى كثيرًا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصًا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد.
وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم.
وذهب بعضهم إلى أنه مما لا بأس به، ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي كرتبة الأنبياء عليهم السلام والصعود إلى السماء.
وإن منه ما ذهب جمع إلى أنه كفر كطلب دخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة وطلب نزول الوحي والتنبي ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب إكذاب الله تعالى نفسه.
وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسالك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين}» وفصل آخرون فقالوا: الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند عدم خوفه، وأولى منه القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل أو نائم أو قارئ أو مشتغل بعلم شرعي، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة عن مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك، ومنه الجهر بالترضي عن الصحابة والدعاء لإمام المسلمين في الخطبة.
وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء ويجهر بها الإمام والمأموم عندهم.
وفرق بعضهم بين رفع الصوت جدًّا كما يفعله المؤذنون في الدعاء بالفرج على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده فقال: لا بأس في الثاني غالبًا ولا كذلك الأول.
والظاهر أن المراد بالمعتدين المجاوزون ما أمروا به في كل شيء ويدخل فيهم المعتدون في الدعاء دخولًا أوليًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى في الآية أدعوا ربكم في كل حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ولا تعتدوا فتدعوا على مؤمن ومؤمنة بشر كالخزي واللعن.
وقد اختلف العلماء في كفر من دعا على آخر بسلب الإيمان أو الموت كافرًا وهو من أعظم أنواع الإعتداء والمفتى به عدم الكفر.
وذكروا للدعاء آدابًا كثيرة، منها الكون على طهارة واستقبال القبلة وتخلية القلب من الشواغل وافتتاحه واختتامه بالتصلية على النبي صلى الله عليه وسلم ورفع اليدين نحو السماء وإشراك المؤمنين فيه وتحري ساعات الإجابة، ومنها يوم الجمعة عند كثير ساعة الخطبة ويدعو فيها بقلبه كما نص عليه أفضل متأخرى مصره الفاضل الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي ووقت نزول الغيث والإفطار وثلث الليل الأخير وبعد ختم القرآن وغير ذلك مما هو مبسوط في محله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
استئناف جاء معترضًا بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها.
فالجملة معترضة بين جملة {يغشى الليل النهار} [الأعراف: 54] وجملة: {وهو الذي يرسل الرياح} [الأعراف: 57] جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فُرص تهنُّؤ القلوب للذّكرى.
والخطاب بـ {ادعوا} خاص بالمسلمين لأنّه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته، وليس المشركون بمتهيّئين لمثل هذا الخطاب، وهو تقريب للؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضي الله عنهم ومحبّته، وشاهدُه قوله بعده: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56].
والخطاب مُوَجَّه إلى المسلمين بقرينة السياق.
والدّعاء حقيقته النّداء، ويطلق أيضًا على النّداء لطلب مهمّ، واستعمل مجازًا في العبادة لاشتمالها على الدّعاء والطّلب بالقول أو بلسان الحال، كما في الرّكوع والسّجود، مع مقارنتها للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن.
والظاهر أنّ المراد منه هنا الطّلب والتّوجه، لأنّ المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة، وإنّما المهمّ إشعارهم بالقرب من رحمة ربّهم وإدناء مَقامهم منها.
وجيء لتعريف الرّب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب، مع وجود معاد قريب في قوله: {تبارك الله} [الأعراف: 54] ودون ضمير المتكلّم، لأنّ في لفظ الرّب إشعارًا بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية، وليتوسّل بإضافة الرّب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرّب بهم كقوله: {بل الله مولاكم} [آل عمران: 150].
والتّضرّع: إظهار التّذلل بهيئة خاصة، ويطلق التّضرع على الجهر بالدّعاء لأنّ الجهر من هيئة التّضرع، لأنّه تذلّل جهري، وقد فُسّر في هذه الآية وفي قوله في الأنعام (63): {تدعونه تضرعًا وخفية} بالجهر بالدّعاء، وهو الذي نختاره لأنّه أنسب بمقابلته بالخُفية، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله: {ادعوه خوفًا وطمعًا} [الأعراف: 56] وتكون، الواو للتقسيم بمنزلة أو وقد قالوا: إنّها فيه أجود من أو.
ومن المفسّرين من أبقى التّضرع على حقيقته وهو التّذلل، فيكون مصدرًا بمعنى الحال، أي متذلّلين، أو مفعولًا مطلقًا ل {ادعوا}، لأنّ التّذلّل بعض أحوال الدّعاء فكأنّه نوع منه، وجعلوا قوله: {وخفية} مأمورًا به مقصودًا بذاته، أي ادعوه مُخفين دعاءكم، حتّى أوهم كلام بعضهم أنّ الإعلان بالدّعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه، وهذا خطأ: فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم دعا علَنًا غير مرّة وعلى المنبر بمسمع من النّاس وقال: «اللّهمّ اسْقِنا» وقال: «اللّهمّ حَوالَيْنا ولا علينا» وقال: «اللّهمّ عليك بقريش» الحديث.
وما رويت أدعيته إلاّ لأنّه جهر بها يسمعها من رَوَاها، فالصّواب أنّ قوله: {تضرعًا} إذنٌ بالدّعاء بالجهر والإخفاء، وأمّا ما ورد من النّهي عن الجهر فإنّما هو عن الجهر الشّديد الخارج عن حدّ الخشوع.
وقرأ الجمهور {وخفية} بضمّ الخاء وقرأه أبو بكر بكسر الخاء وتقدّم في الأنعام.
وجملة {إنه لا يحب المعتدين} واقعة موقع التّعليل للأمر بالّدعاء، إشارة إلى أنّه أمر تكريم للمسلمين يتضمّن رضي الله عنهم، ولكن سلك في التّعليل طريق إثبات الشّيء بإبطال ضدّه، تنبيهًا على قصد الأمرين وإيجازًا في الكلام.
ولكون الجملة واقعَة موقع التّعليل افتتحت بإنّ المفيدة لمجرّد الاهتْمام، بقرينة خلو المخاطبين عن التّردد في هذا الخبر، ومن شأن إنّ إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل والرّبط، وتقوم مقام الفاء، كما نبّه عليه الشّيخ عبد القاهر.
وإطلاق المحبّة وصفًا لله تعالى، في هذه الآية ونحوها، إطلاقٌ مجازي مراد بها لازم معنى المحبّة، بناء على أنّ حقيقة المحبّة انفعال نفساني، وعندي فيه احتمال، فقالوا: أريد لازم المحبّة، أي في المحبوب والمحِب، فيلزمها اتّصاف المحبوب بما يرضي المحِب لتنشأ المحبّة التي أصلها الاستحسان، ويلزمها رضى المحِب عن محبوبه وإيصال النّفع له.
وهذان اللاّزِماننِ مُتَلازمان في أنفسهما.
فإطلاق المحبّة وصفًا لله مجاز بهذا اللاّزم المركب.
والمراد بـ {المعتدين}: المشركون، لأنّ يرادف الظّالمين.
والمعنى: ادعوا ربّكم لأنّه يحبّكم ولا يحبّ المعتدين، كقوله: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنّه لا يستجيب دعاءَ الكافرين، قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال} [الرعد: 14] على أحد تأويلين فيها.
وحمل بعض المُفسّرين التّضرّع على الخضوع، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدّعاء الخفي حتّى بَالغ بعضهم فجعل الجهر بالدّعاء منهيًا عنه، وتجاوز بعضهم فجعل قوله: {إنه لا يحب المعتدين} تأكيدًا لمعنى الأمر بإخفاء الدّعاء، وجعل الجهر بالدّعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يحبّهم الله.
ونقل ذلك عن ابن جريج، وأحسب أنّه نقلٌ عنه غير مضبوط العبارة، كيف وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جهرًا ودعا أصحابه. اهـ.