فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والفائدة الثانية: في الآية أن قوله: {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال: إن الفتن تحدث بين يدي الساعة، يريدون قبيلها، والسبب في حسن هذا المجاز، أن يدي الإنسان متقدماته فكل ما كان يتقدم شيئًا يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة فلما كانت الرياح تتقدم المطر، لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ.
فإن قيل: فقد نجد المطر ولا تتقدمه الرياح فنقول: ليس في الآية ان هذا التقدم حاصل في كل الأحوال، فلم يتوجه السؤال، وأيضًا فيجوز أن تتقدمه هذه الرياح وإن كنا لا نشعر بها.
ثم قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} يقال: أقل فلان الشيء إذا حمله قال صاحب الكشاف: واشتقاق الإقلال من القلة، لأن من يرفع شيئًا فإنه يرى ما يرفعه قليلًا، وقوله: {سَحَابًا ثِقَالًا} أي بالماء جمع سحابة، والمعنى حتى إذا حملت هذه الرياح سحابًا ثقالًا بما فيها من الماء والمعنى أن السحاب الكثيف المستطير للمياه العظيمة إنما يبقى معلقًا في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكًا شديدًا، فلأجل الحركات الشديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد: إحداها: أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى البعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر.
وثانيها: أن بسبب تلك الحركات الشديدة التي في تلك الرياح يمنة ويسرة يمتنع على تلك الأجزاء المائية النزول، فلا جرم يبقى متعلقًا في الهواء.
وثالثها: أن بسبب حركات تلك الرياح ينساق السحاب من موضع إلى موضع آخر وهو الموضع الذي علم الله تعالى احتياجهم إلى نزول الأمطار وانتفاعهم بها.
ورابعها: أن حركات الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب موجبة لانضمام بعضها إلى البعض حتى ينعقد السحاب الغليظ، وتارة تكون مفرقة لأجزاء السحاب مبطلة لها.
وخامسها: أن هذه الرياح تارة تكون مقوية للزروع والأشجار مكملة لما فيها من النشو والنماء وهي الرياح اللواقح، وتارة تكون مبطلة لها كما تكون في الخريف.
وسادسها: أن هذه الرياح تارة تكون طيبة لذيذة موافقة للأبدان، وتارة تكون مهلكة إما بسبب ما فيها من الحر الشديد كما في السموم أو بسبب ما فيها من البرد الشديد كما في الرياح الباردة المهلكة جدًّا.
وسابعها: أن هذه الرياح تارة تكون شرقية، وتارة تكون غربية وشمالية وجنوبية.
وهذا ضبط ذكره بعض الناس وإلا فالرياح تهب من كل جانب من جوانب العالم ولا ضبط لها، ولا اختصاص لجانب من جوانب العالم بها.
وثامنها: أن هذه الرياح تارة تصعد من قعر الأرض فإن من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل غليان شديد فيه بسبب تولد الرياح في قعر البحر إلى ما فوق البحر، وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر، وتارة ينزل الريح من جهة فوق فاختلاف الرياح بسبب هذه المعاني أيضًا عجيب، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: الرياح ثمان: أربع منها عذاب، وهو القاصف، والعاصف، والصرصر، والعقيم، وأربعة منها رحمة: الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذاريات، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» والجنوب من ريح الجنة، وعن كعب: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض، وعن السدي: أنه تعالى يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك، ورحمته هو المطر.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلاف الرياح في الصفات المذكورة، مع أن طبيعة الهواء واحدة، وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة، يدل على أن هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى: {سقناه لِبَلَدٍ مَّيّتٍ} والمعنى أنا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة.
فإن قيل: السحاب إن كان مذكرًا يجب أن يقول: حتى إذا أقلت سحابًا ثقيلًا، وإن كان مؤنثًا يجب أن يقول سقناه فكيف التوفيق؟!
والجواب: أن السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزًا، نظرًا إلى اللفظ، وعلى سبيل التأنيث أيضًا جائزًا، نظرًا إلى كونه جمعًا، أما اللام في قوله: {سقناه لِبَلَدٍ} ففيه قولان: قال بعضهم هذه اللام بمعنى إلى يقال هديته للدين وإلى الدين.
وقال آخرون: هذه اللام بمعنى من أجل، والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حيًا يسقيه.
وأما البلد فكل موضع من الأرض عامر أو غير عامر، خال أو مسكون فهو بلد والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة قال الأعشى:
وبلدة مثل ظهر الترس موحشةٌ ** للجن بالليل في حافاتها زجلُ

ثم قال تعالى: {فَأَنزَلْنَا بِهِ الماء} اختلفوا في أن الضمير في قوله: {بِهِ} إلى ماذا يعود؟ قال الزجاج وابن الأنباري: جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء، وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء، لأن السحاب آلة لإنزال الماء.
ثم قال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثمرات} الكناية عائدة إلى الماء، لأن إخراج الثمرات كان بالماء.
قال الزجاج: وجائز أن يكون التقدير فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات، لأن البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد، وعلى القول الأول، فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء.
وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار غير متولدة من الماء، بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب، وقال جمهور الحكماء: لا يمتنع أن يقال إنه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية، ثم إن تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة.
والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول، بأن طبيعة الماء والتراب واحدة.
ثم إنا نرى أنه يتولد في النبات الواحد أحوال مختلفة مثل العنب فإن قشره بارد يابس، ولحمه وماؤه حار رطب، وعجمه بارد يابس، فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب، يدل على أنها إنما حدثت بإحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة.
ثم قال تعالى: {كذلك نُخْرِجُ الموتى} وفيه قولان: الأول: أن المراد هو أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار، فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة.
وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطرًا كالمني أربعين يومًا، وإنهم ينبتون عند ذلك ويصيرون أحياء.
قال مجاهد: إذا أراد الله أن يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها.
والقول الثاني: أن التشبيه إنما وقع بأصل الأحياء بعد أن كان ميتًا، والمعنى: أنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه، فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر، فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتًا، لأن من يقدر على إحداث الجسم، وخلق الرطوبة والطعم فيه، فهو أيضًا يكون قادرًا على إحداث الحياة في بدن الميت، والمقصود منه إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق.
واعلم أن الذاهبين إلى القول الأول إن اعتقدوا أنه لا يمكن بعث الأجساد إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطرًا على صفة المني، فقد أبعد، ولأن الذي يقدر على أن يحدث في ماء المطر الصفات التي باعتبارها صار المني منيًا ابتداء، فلم لا يقدر على خلق الحياة والجسم ابتداء؟ وأيضًا فهب أن ذلك المطر ينزل إلا أن أجزاء الأموات غير مختلطة، فبعضها يكون بالمشرق، وبعضها يكون بالمغرب، فمن أين ينفع إنزال ذلك المطر في توليد تلك الأجساد؟
فإن قالوا: إنه تعالى بقدرته وبحكمته يخرج تلك الأجزاء المتفرقة فلم لم يقولوا إنه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء ابتداء من غير واسطة ذلك المطر؟ وإن اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء، إلا أنه تعالى إنما يحييهم على هذا الوجه كما أنه قادر على خلق الأشخاص في الدنيا ابتداء، إلا أنه أجرى عادته بأنه لا يخلقهم إلا من الأبوين فهذا جائز.
ثم قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والمعنى: أنكم لما شاهدتم أن هذه الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف بالأزهار والثمار، ثم صارت عند الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة، ثم إنه تعالى أحياها مرة أخرى، فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب كونه أيضًا قادرًا على إحياء الأجساد بعد موتها، فقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} المراد منه تذكر أنه لما لم يمتنع هذا المعنى في إحدى الصورتين وجب أن لا يمتنع في الصورة الأخرى. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم قال: {وهو الذي يرسل الرياح بُشْرًا بَيْن يَدَي رحْمَتِهِ} أي قدام المطر.
قرأ حمزة والكسائي الريح بلفظ الوحدان.
وقرأ الباقون {الرياح} بلفظ الجماعة.
واختار أبو عبيد أن كل ما ذكر في القرآن من ذكر الرحمة فهو رياح وكل ما كان فيه ذكر العذاب فهو ريح.
واحتج بما روي عن النبيِّ عليه السلام: أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذا هَبَّتِ الرِّيحُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِياحًا وَلا تَجْعَلْها رِيحًا».
وقرأ ابن عامر {نُشْرًا} بضم النون وجزم الشين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع {نُشُرًا} بضمتين.
وقرأ حمزة والكسائي {نشرًا} بنصب النون وجزم الشين.
وقرأ عاصم {بشرًا} بالباء ويكون من البشارة كما قال في آية أخرى {وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الفلك بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46].
ومن قرأ {نَشْرًا} بالنون والنصب فيكون معناه {يرسل الرياح} تَنْشُر السحاب نَشْرًا، ومن قرأ بالضمتين يكون جمع نشور، يقال: ريح نشور، أي تنشر السحاب ورياح نُشُر، ومن قرأ بضمة واحدة لأنه لما اجتمعت الضمتان حذفت إحداهما للتخفيف.
ثم قال: {حَتَّى إذا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} من الماء، والسحاب جمع السحابة يعني الريح حملت سحابًا ثقالًا {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} يعني: السحاب تمر بأمر الله تعالى إلى أرض ليس فيها نبات {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} يعني: بالمكان.
ويقال: بالسَّحاب {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي نخرج بالماء من الأرض الثمرات {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} أي يقول: هكذا نحيي الموتى بالمطر كما أحييت الأرض الميتة بالمطر.
وذكر في الخبر أنه إذا كان قبل النفخة الأخيرة أمطرت السماء أربعين يومًا مثل مَني الرجال فتشرب الأرض، فتنبت الأجساد بذلك الماء، ثم ينفخ في الصور، فإذا هم قيام ينظرون.
وفي هذه الآية إثبات القياس وهو ردّ المختلف إلى المتفق، لأنهم كانوا متفقين أن الله تعالى هو الذي ينزل المطر ويخرج النبات من الأرض.
فاحتج عليهم لإحيائهم بعد الموت بإحياء الأرض بعد موتها.
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: لكي تتعظوا وتعتبروا في البعث أنه كائن. اهـ.