فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذه قراءات من قرأ بالنون.
وقد قرأ آخرون بالباء، فقرأ عاصم إلا المفضل: {بُشْرى} بالباء المضمومة وسكون الشين مثل فُعْلى: قال ابن الأنباري: وهي جمع بشيرة، وهي التي تبشِّر بالمطر، والأصل ضم الشين، إلا أنهم استثقلوا الضمتين.
وقرأ ابن خثيم، وابن جذلم: مثله إلا أنهما نوَّنا الراء.
وقرأ ابو الجوزاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بضم الباء والشين، وهذا على أنها جمع بشيرة.
والرحمة هاهنا: المطر؛ سماه رحمة لأنه كان بالرحمة.
و{أقلّتِ} بمعنى: حملت.
قال الزجاج: السحاب: جمع سحابة.
قال ابن فارس: سمي السحابَ لانسحابه في الهواء.
قوله تعالى: {ثِقالًا} أي: الماء وقوله تعالى: {سقناه} ردَّ الكناية إلى لفظ السحاب، ولفظه لفظُ واحدٍ.
وفي قوله: {لبلد} قولان:
أحدهما: إلى بلد.
والثاني: لإحياء بلد.
والميْتُ: الذي لا يُنْبَتُ فيه، فهو محتاج إلى المطر.
وفي قوله: {فأنزلنا به} ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الكناية ترجع إلى السحاب.
والثاني: إلى المطر، ذكرهما الزجاج.
والثالث: إلى البلد، ذكره ابن الانباري.
فأما هاء {فأخرجنا به} فتحتمل الأقوال الثلاثة.
قوله تعالى: {كذلك نخرج الموتى} أي: كما أحيينا هذا البلد.
وقال مجاهد: نحيي الموتى بالمطر كما أحيينا البلد الميْت به.
قال ابن عباس: يرسل الله تعالى بين النفختين مطرًا كمني الرجال، فينبت الناس به في قبورهم كما نبتوا في بطون أُمهاتهم.
قوله تعالى: {لعلكم تذكَّرون} قال الزجاج: لعل: ترجٍ.
وإنما خوطب العباد على ما يرجوه بعضهم من بعض؛ والمعنى: لعلكم بما بيَّناه لكم تستدلُّون على توحيد الله، وأنه يبعث الموتى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}
عطف على قوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}.
ذكر شيئًا آخر من نعمه، ودل على وحدانيته وثبوت إلَهِيّتِه.
وقد مضى الكلام في الريح في البقرة.
ورياح جمع كثرة، وأرواح جمع قِلة.
وأصل ريح رِوح.
وقد خطئ من قال في جمع القلة أرياح.
{بُشْرًا} فيه سبع قراءات: قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو {نُشُرًا} بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب، أي ذات نشر؛ فهو مثلُ شاهد وشُهُد.
ويجوز أن يكون جمع نَشُور كرَسُول ورُسُل.
يقال: ريح النشور إذا أتت من هاهنا وهاهنا.
والنَّشُور بمعنى المنشور؛ كالرّكوب بمعنى المركوب.
أي وهو الذي يرسل الرياح منشرة.
وقرأ الحسن وقتادة {نُشْرًا} بضم النون وإسكان الشين مخفَّفًا من نُشُر؛ كما يقال: كُتْب ورُسْل.
وقرأ الأعمش وحمزة {نَشْرًا} بفتح النون وإسكان الشين على المصدر، أعمل فيه معنى ما قبله؛ كأنه قال: وهو الذي ينشر الرّياح نشْرًا.
نشرت الشيء فانتشر، فكأنها كانت مطوية فنُشرت عند الهُبُوب.
ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال من الرياح؛ كأنه قال يرسل الرياح مُنْشرة، أي مُحيية؛ من أنْشر الله الميتَ فنَشَر، كما تقول أتانا ركضًا، أي راكضًا.
وقد قيل: إن نَشْرًا بالفتح من النَّشْر الذي هو خلاف الطي على ما ذكرنا.
كأن الريح في سكونها كالمطوية ثم ترسل من طَيِّها ذلك فتصير كالمنفتحة.
وقد فسره أبو عبيد بمعنى متفرِّقة في وجوهها، على معنى ينشرها هاهنا وها هنا.
وقرأ عاصم: {بُشْرًا} بالباء وإسكان الشين والتنوين جمع بشير، أي الرياح تبشر بالمطر.
وشاهده قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46].
وأصل الشين الضم، لكن سكِّنت تخفيفًا كرسُل ورُسْل.
وروى عنه {بَشْرًا} بفتح الباء.
قال النحاس: ويقرأ {بُشُرًا} وبَشْر مصدر بَشَره يبشره بمعنى بشَّره فهذه خمس قراءات.
وقرأ محمد اليمانِي {بُشْرَى} على وزن حُبْلَى.
وقراءة سابعة {بُشُرَى} بضم الباء والشين.
قوله تعالى: {حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} السحاب يذكَّر ويؤنَّث.
وكذا كل جمع بينه وبين واحدته هاء.
ويجوز نعته بواحد فتقول: سحاب ثقيل وثقيلة.
والمعنى: حملت الريح سَحابًا ثِقَالًا بالماء، أي أثقلت بحمله.
يقال: أقلّ فلان الشيء أي حمله.
{سُقْنَاهُ} أي السحاب.
{لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} أي ليس فيه نبات.
يقال: سقته لبلد كذا وإلى بلد كذا.
وقيل: لأجل بلد ميت؛ فاللام لام أجل.
والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خالٍ أو مسكون.
والبلدة والبلد واحد البلاد والبُلدان.
والبَلَد الأثر وجمعه أبلاد.
قال الشاعر:
مِن بعد ما شَمل البِلَى أبلادَها ** والبلد أُدْحِيّ النَّعام

يقال: هو أذلّ من بَيْضَة البلد، أي من بيضة النعام التي يتركها.
والبلدة الأرض؛ يقال: هذه بلدتنا كما يقال بَحْرَتُنا.
والبَلْدَة من منازل القمر، وهي ستّة أنْجُم من القوس تنزلها الشمس في أقصر يوم في السنة.
والبلدة الصّدر؛ يقال: فلان واسع البلدة أي واسع الصدر.
قال الشاعر:
أُنِيخَتْ فألقتْ بَلْدَةً فوقَ بلدة ** قليلٍ بها الأصواتُ إلاّ بُغَامُها

يقول: بركت الناقة فألقت صدرها على الأرض.
والبُلدة بفتح الباء وضمها: نقاوة ما بين الحاجبين؛ فهما من الألفاظ المشتركة.
{فَأَنْزَلْنَا بِهِ الماء} أي بالبلد.
وقيل: أنزلنا بالسحاب الماء؛ لأن السحاب آلة لإنزال الماء.
ويحتمل أن يكون المعنى فأنزلنا منه الماء؛ كقوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] أي منها.
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الكاف في موضع نصب.
أي مثل ذلك الإخراج نحيي الموتى وخرج البيهقِيّ وغيره عن أبي رَزِين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يعيد الله الخلق، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «أمَا مَررت بوادِي قومك جَدْبًا ثم مَررت به يهتز خَضِرًا» قال: نعم، قال: «فتلك آية الله في خلقه». وقيل: وجه التشبيه أنّ إحياءهم من قبورهم يكون بمطر يبعثه الله على قبورهم، فتنشقّ عنهم القبور، ثم تعود إليهم الأرواح.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرًا كأنه الطَّلُّ فتنبت منه أجساد الناس ثم يقال يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وقِفوهم إنهم مسؤولون» وذكر الحديث.
وقد ذكرناه بكماله في كتاب التذكرة والحمد لله.
فدل على البعث والنشور؛ وإلى الله ترجع الأمور. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {وهو الذي يرسل الرياح}
هذا عطف على ما قبله.
والمعنى أن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح {بشرًا} قرئ {نشرًا} بالنون أراد جمع نشور وهي الريح الطيبة الهبوب التي تهب من كل ناحية، وقيل: هو جمع ناشر يقال أنشر الله الريح بمعنى أحياها.
وقال الفراء: النشر الريح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب.
وقال ابن الأنباري: النشر المنتشرة الواسعة الهبوب.
وقيل: النشر خلاف الطيّ فيحتمل أنها كانت بانقطاعها كالمطوية فانتشرت بمعنى أرسلت.
وقرئ {بشرًا} بالباء جمع بشيرة وهي التي تبشر بالمطر والريح هو الهواء المتحرك يمنة ويسرة والرياح أربعة الصبا وهي الشرقية والدبور وهي الغربية والشمال وهي التي تهب من تحت القطب الشمالي والجنوب وهي القبلية.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمان: أربع منها عذاب وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات {بين يدي رحمته} يعني أمام المطر الذي هو رحمته وإنما سماه رحمة لأنه سبب لحياة الأرض الميتة.
قال أبو بكر بن الأنباري رحمه الله تعالى: اليدان تستعملهما العرب في المجاز على معنى التقدمة تقول هذه تكون في الفتن بين يدي الساعة يريدون قبل أن تقوم الساعة تشبيهًا وتمثيلًا بما إذا كانت يد الإنسان تتقدمانه كذلك الرياح تتقدم المطر وتؤذن به.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئًا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت في مؤخر الناس فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله من خيرها واستعيذوا بالله من شرها» رواه الشافعي رضي الله عنه بطوله وأخرجه أبو داود في المسند عنه.
وقال كعب الأحبار: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض وقوله تعالى: {حتى إذا أقلّت سحابًا ثقالًا} يقال أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئًا يراه قليلًا والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحابًا لانسحابه في الهواء.
والمعنى: حتى إذا حملت هذه الرياح سحابًا ثقالًا بما فيه من الماء قال السدي: إن الله تبارك وتعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلقيان فتخرجه من ثم، ثم تنشره فتبسطه في السماء كيف يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك.
وقيل إن الله تعالى دبر بحكمته أن الرياح تتحرك تحريكًا شديدًا فتثير السحاب ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد ويحمل الماء ثم تسوقه إلى حيث يشاء الله عز وجل وهو قوله تعالى: {سقناه لبلد ميت} يعني إلى بلد فتكون اللام بمعنى إلى.
وقيل: معناه لأجل حياة بلد ميت وإنما قال سقنا، لأن لفظ السحاب مذكر وإن كان جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزًا نظرًا إلى اللفظ، قال الأزهري رحمه الله تعالى: قال الليث البلد كل موضع من الأرض عامرًا أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد.
زاد غيره والمفازة تسمى بلدة، لكونها مسكن الوحش والجن.
قال الأعشى:
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة ** للجن بالليل في حافاتها زجل

ومعنى الآية: إنا سقنا السحاب إلى بلد ميت محتاج لإنزال الماء لم ينزل فيه غيث ولم تنبت فيه خضرة {فأنزلنا به الماء} اختلفوا في الضمير في قوله تعالى: {به} إلى ماذا يعود؟ فقال الزجاج رحمه الله وابن الأنباري جائز أن يكون المعنى فأنزلنا بالبلد الميت الماء وجائز أن يكون المعنى وأنزلنا بالسحاب الماء لأن السحاب آلة لنزول الماء {فأخرجنا به} يعني بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سببًا لإخراج الثمرات، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى فأخرجنا بذلك الماء {من كل الثمرات} يعني وأخرجنا بذلك البلد بعد موته وجد به من أصناف الثمار والزورع {كذلك نخرج الموتى} يعني كما أحيينا البلد الميت كذلك نخرج الموتى أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودروس آثارهم واختلفوا في وجه التشبيه، فقيل: إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال امطر كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضًا.
قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما: إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر الله تعالى عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء.
وفي رواية: أربعين يومًا فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون من قبورهم وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون: قال مجاهد: إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تنشق الأرض ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض به وقيل إنما وقع التشبيه بأصل الأحياء والمعنى أنه تعالى كما أحياء هذا البلد الميت بعد خرابه وموته فأنبت فيه الزرع والشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيى الموتى ويخرجهم من قبورهم أحياء بعد أن كانوا أمواتًا ورممًا بالية لأن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس قادر على أن يحييهم ويخرجهم من قبورهم إلى حشرهم ونشرهم {لعلكم تذكرون} الخطاب لمنكري البعث، يقول: إنكم شاهدتم الأشجار وفي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأزهار والأوراق والثمار ثم إن الله تعالى أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها.
والمعنى: إنما وصفت ما وصفت من التشبيه والتمثيل لكي تعتبروا وتتذكروا وتعلموا أن من فعل ذلك كان هو الذي يعيد ويحيي. اهـ.