فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح}
عطف على الجملة السابقة أو على حديث خلق السموات والأرض.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {الريح} على الوحدة وهو متحمل لمعنى الجنسية فيطلق على الكثير.
وخبر «اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا» مخرج على قراءة الأكثرين {بَشَرًا} بضم الموحدة وسكون الشين مخفف بشرًا بضمتين جمع بشير كنذر ونذير أي مبشرات وهي قراءة عاصم.
وروي عنه أيضًا {بَشَرًا} على الأصل.
وقرئ بفتح الباء على أنه مصدر بشره بالتخفيف بمعنى بشره المشدد.
والمراد باشرات أو للبشارة.
وقرئ {بُشْرىً} كحبلى وهو مصدر أيضًا من البشارة.
وقرأ أهل المدينة والبصرة {نَشْرًا} بضم النون والشين جمع نشور بفتح النون بمعنى ناشر، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه كذلك كصبور وصبر، ولم يجعل جمع ناشر كبازل وبزل لأن جمع فاعل على فعل شاذ.
واختلف في معنى ناشر ففي الحواشي الشهابية قيل: هو على النسب إما إلى النشر ضد الطي وإما إلى النشور بمعنى الإحياء لأن الريح توصف بالموت والحياة كقوله:
إني لأرجو أن تموت الريح ** فاقعد اليوم واستريح

كما يصفها المتأخرون بالعلة والمرض.
ومما يحكى النسيم من ذلك قول بعضهم في شدة الحر:
أظن نسيم الروض مات لأنه ** له زمن في الروض وهو عليل

وقيل: هو فاعل من نشر مطاوع أنشر الله تعالى الميت فنشر وهو ناشر كقوله:
حتى يقول الناس مما رأوا ** يا عجبًا للميت الناشر

قيل: ناشر بمعنى منشر أي محيي، وقيل: فعول هنا بمعنى مفعول كرسول ورسل وقد جوز ذلك أبو البقاء إلا أنه نادر مفرده وجمعه.
وقرأ ابن عامر {نَشْرًا} بضم النون وسكون الشين حيث وقع، والتخفيف في فعل مطرد، وقرأ حمزة والكسائي {نَشْرًا} بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان.
{بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} أي قدام رحمته وهو من المجاز كما نقل عن أبي بكر الأنباري، والمراد بالرحمة كما ذهب إليه غالب المفسرين المطر، وسمي رحمة لما يترتب عليه بحسب جري العادة من المنافع.
ولا يخفى أن الرحمة في المشهور عامة فإطلاقها على ذلك إن كان من حيث خصوصه مجاز لكونه استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذ اللفظ لم يوضع لذلك الخاص بخصوصه وإن كان إطلاقها عليه لا بخصوصه بل باعتبار عمومه.
وكونه فردًا من أفراد ذلك العام فهو حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له على ما بين في شرح التلخيص وغيره.
وادعى الشهاب إثبات بعض أهل اللغة كون المطر من معاني الرحمة، وقول ابن هشام في رسالته التي ألفها في بيان وجه تذكير {قَرِيبٌ} المار عن قريب: إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون: ومن معانيها المطر فلو كانت موضوعة له لذكروه، قصارى ما فيه عدم الوجدان وهو لا يستدعي عدم الوجود، ومما اشتهر أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمقام ظاهر في إرادة هذا المعنى، وبيان كون الرياح مرسلة أمام ذلك ما قيل: إن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه وهذه أحد أنواع الريح المشهورة عند العرب، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمانية أربع منها عذاب وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات.
والريح من أعظم منن الله تعالى على عباده، وعن كعب الأحبار لو حبس الله تعالى الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض، وفي بعض الآثار أن الله تعالى خلق العالم وملأه هواء ولو أمسك الهواء ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض، وذكر غير واحد من العلماء أنه يكره سب الريح، فقد روى الشافعي عن أبي هريرة قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر رضي الله تعالى عنه حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله: ما بلغكم في الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئًا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت مؤخر الناس فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله تعالى من خيرها واستعيذوا بالله سبحانه من شرها» ولا منافاة بين الآية وهذا الخبر إذ ليس فيها أنه سبحانه لا يرسلها إلا بين يدي الرحمة ولئن سلم فهو خارج مجرى الغالب فإن العذاب بالريح نادر، وقيل: ما في الخبر إنما هو الإيتاء بالرحمة والإيتاء بالعذاب لا الإرسال بين يدي كل.
{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} غاية لقوله سبحانه: {يُرْسِلُ} والإقلال كما في مجمع البيان حمل الشيء بأسره واشتقاقه من القلة وحقيقة أقله كما قال بعض المحققين جعله قليلًا أو وجده قليلًا، والمراد ظنه كذلك كأكذبه إذا جعله كاذبًا في زعمه ثم استعمل بمعنى حمله لأن الحامل يستقل ما يحمله أي يعده قليلًا، ومن ذلك قولهم: جهد المقل أي الحامل {سَحَابًا} أي غيمًا سمي بذلك لانسحابه في الهواء وهو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع.
وأهل اللغة كالجوهري وغيره تسميه جمعًا فلذا روعي فيه الوجهان في وصفه وضميره، وجاء في الجمع سحب وسحائب {ثِقَالًا} من الثقل كعنب ضد الخفة يقال: ثقل ككرم ثقلًا وثقالة فهو ثقيل، وثقل السحاب بما فيه من الماء {سقناه لِبَلَدٍ مَّيّتٍ} أي لأجله ومنفعته أو لإحيائه أو لسقيه كما قيل.
وفي البحر أن اللام للتبليغ كما في قلت لك، وفرق بين سقت لك مالًا وسقت لأجلك مالًا بأن الأول: معناه أوصلت لك ذلك وأبلغتكه.
والثاني: لا يلزم منه وصوله إليه، والبلد كما قال الليث كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منه بلدة والجمع بلاد، وتطلق البلدة على المفازة ومنه قول الأعشى:
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة ** للجن بالليل في حافاتها زجل

{فَأَنزَلْنَا بِهِ الماء} أي بالبلد أو السحاب كما قال الزجاج وابن الأنباري أو بالسوق أو الرياح كما قيل، والتذكير بتأويل المذكور وكذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ويحتمل أن يعود الضمير إلى الماء وهو الظاهر لقربه لفظًا ومعنى، ومطابقة النظائر وانفكاك الضمائر لا بأس به إذا قام الدليل عليه وحسن الملاءمة.
وإذا كان للبلد فالباء للظرفية في الثاني وللإلصاق في الأول لأن الإنزال ليس في البلد بل المنزل، وجوز الظرفية أيضًا كما في رميت الصيد في الحرم على ما علمت فيما مر، وإذا كان لغيره فهي للسببية وتشمل القريبة والبعيدة.
{مِن كُلّ الثمرات} أي من كل أنواعها لأن الاستغراق غير مراد ولا واقع، وهذا أبلغ في إظهار القدرة المراد، وقيل: إن الاستغراق عرفي والظاهر أن المراد التكثير، وجوز بعضهم أن تكون {مِنْ} للتبعيض وأن تكون لتبيين الجنس.
{كذلك نُخْرِجُ الموتى} إشارة إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوى النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأرض ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس كذا قالوا، وهو إشارة كما قيل إلى طريقي القائلين بالمعاد الجسماني وهما إيجاد البدن بعد عدمه ثم إحياؤه وضم بعض أجزائه إلى بعض على النمط السابق بعد تفرقها ثم إحياؤه.
واستظهر الأول بأن المتبادر من الآية كون التشبيه بين الإخراجين من كتم العدم، والثاني يحتاج إلى تمحل تقدير الإحياء واعتبار جمع الأجزاء مع أنه غير معتبر في جانب المشبه به، وجوز أن يرجع ما في الشق الثاني من الإحياء برد النفوس إلخ إلى الأول، وأنت تعلم أنه لا مانع من الإخراج من كتم العدم، وأدلة استحالة ذلك مما لا تقوم على ساق وقدم إلا أن الأدلة النقلية على كل من الطريقين متجاذبة، وإذا صح القول بالمعاد الجسماني فلا بأس بالقول بأي كان منهما، وكون إخراج الثمرات من كتم العدم قد لا يسلم فإن لها أصلًا في الجملة على أن إخراج الموتى عند القائلين بالطريق الأول إعادة وليس إخراج الثمرات كذلك إذ لم يكن لها وجود قبل، نعم كون الأظهر أن التشبيه بين الإخراجين مما لا مرية فيه، وفي الخازن اختلفوا في وجه التشبيه فقيل: إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضًا، فقد روي عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء.
وفي رواية أربعين يومًا فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم تنفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون من قبورهم ويجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون: {قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟ فيناديهم المنادي {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} [يس: 52].
وأخرج غير واحد عن مجاهد أنه إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تشقق عنهم الأرض ثم يرسل سبحانه الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها، فكذلك يحيي الله تعالى الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.
وقيل: إنما وقع التشبيه بأصل الإحياء من غير اعتبار كيفية فيجب الإيمان به ولا يلزمنا البحث عن الكيفية ويفعل الله سبحانه ما يشاء {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أن من قدر على ذلك فهو قادر على هذا من غير شبهة.
والأصل تتذكرون فطرحت إحدى التاءين، والخطاب قيل: للنظار مطلقًا، وقيل: لمنكري البعث. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: قدام رحمته التي هي المطر، فإن الصبا تثير السحاب، والشمال تجمعه والجنوب تدره، والدبور تفرقه. وهذا كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} وقوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}.
قال الثعالبي: المبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.
تنبيه:
قال أبو البقاء: يقرأ: {نُشُرًا} بالنون والشين مضمومتين، وهو جمع، في واحده وجهان:
أحدهما: {نَشُور} مثل صبور وصبر، فعلى هذه يجوز أن يكون فعول بمعنى فاعل، أي: ينشر الأرض، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول، كركوب بمعنى مركوب، أي: منشورة بعد الطي، أو منشرة أي: مُحياة، من قولك أنشر الله الميت فهو مُنشر، ويجوز أن يكون جمع ناشر، مثل بازل وبُزل. ويقرأ بضم النون وإسكان الشين، على تخفيف المضموم. ويقرأ نشرًا بفتح النون وإسكان الشين، وهو مصدر نشر بعد الطي، أو من قولك أنشر الله الميت فنشر أي: عاش.
ونصبه على الحال، أي: ناشرة، أو ذات نشر، كما تقول: جاء ركضًا أي: راكضًا.
ويقرأ: بُشرًا بالباء وضمتين، وهو جمع بشير، مثل قليب وقُلب، ويقرأ كذلك إلا أنه بسكون الشين على التخفيف. ويقرأ بشرى مثل حُبلى، أي: ذات بشارة ويقرأ بَشر بفتح الباء وسكون الشين، وهو مصدر بشرته- أي: بالتخفيف- إذا بشرته. انتهى.
{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} أي: حملت: {سَحَابًا ثِقَالًا} أي: من كثرة ما فيها من الماء: {سُقْنَاهُ} أي: السحاب.
قال الشهاب: السحاب إسم جنس جمعي، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، كتمر وتمرة، وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه، ويجمع، وأهل اللغة تسميه جمعًا، فلذا روعي فيه الوجهان، في وصفه وضميره. انتهى.
أي: أرسلناه مع أن طبعه الهبوط: {لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} أي: لأجله ولمنفعته، أو لإحيائه أو لسقيه. وميت، قرئ مشددًا ومخففًا {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء} أي: الضمير. والضمير في به للبلد: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي: المختلفة الأنواع، مع أن ماءها واحد. والمراد بكل الثمرات، المعادة في كل بلد تخرج به على الوجه الذي أجرى الله العادة بها ودبرها.
والضمير في به، للماء أو لبلد {كَذَلِكَ} أي: مثل ذلك الإخراج {نُخْرِجُ الْموْتَى} أي: نحييها بعد صيرورتها رميمًا يوم القيامة، ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء، فتمطر الأرض أربعين يومًا، فتنبت منه الأجساد في قبورها، كما ينبت الحب في الأرض: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: إنما وصفنا من هذا التمثيل لكي تتذكروا، من أحوال الثمرات التي أعيدت إلى حالها بعد تلفها، أحوال الآخرة، فتعلموا أن من قدر على ذلك، قدر على هذا بلا ريب.
تنبيه:
من أحكام الآية كما قال الجشمي: أنها تدل على عظم نعمه تعالى علينا بالمطر، وتدل على الحجاج في إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات، وتدل على أنه أراد من الجميع التذكر، وتدل على أنه أجرى العادة بإخراج النبات بالماء. وإلا فهو قادر على إخراجه من غير ماء، فأجرى العادة على وجوه دبرها عليها على ما نشاهده، لضرب من المصلحة دينًا ودنيا.
ومنها إذا رأى الأرض الطيبة تزرع دون الأرض السبخة، وأنها قطع متجاورات، علم فساد التقليد، وأنه يجب أن يتفحص عن الحق حتى يعتقده.
ومنها أنه إذا زرع وعلم وجوب حفظه من المبطلات، علم وجوب حفظ الأعمال الصالحة من المحبطات. اهـ.