فصل: من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتي إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتي لعلكم تذكرون} (الأعراف: 57).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكما بدأت السورة بخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم تختتم بالخطاب إليه، وإلي أمته المؤمنة إلي يوم الدين بالحض علي مكارم الأخلاق، والأخذ بضوابط السلوك، والاستماع بإنصات إلي القرآن الكريم حين يقرأ طلبا لعفو الله ورحمته، والأمر بذكر الله في النفس تضرعا وخيفة، ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، والتحذير من الغفلة عن ذلك، والتذكير بأن الملائكة تسبح بحمد الله وتسجد له تعالى دون توقف ودون فتور...!!
ومن الحقائق الكونية والتاريخية التي استشهدت بها سورة الأعراف للدلالة علي صدق ما جاء بها ما يلي:
(1) خلق السماوات والأرض في ست مراحل متتالية.
(2) إغشاء الليل بالنهار في سرعة عالية عند بدء الخلق بمعني سرعة دوران الأرض حول محورها عند أول خلقها، وهي حقيقة لم يدركها العلماء إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
(3) تسخير كل من الشمس والقمر والنجوم بأمر الله لحفظ السماء الدنيا، ولمصلحة الأرض ومن عليها.
(4) إرسال الرياح بشرا بين يدي رحمة الله لتقل السحاب الثقال بقطيرات الماء، وتسوقه بإرادة الله تعالى إلي بلد ميت، فينزل الله به الماء ثم يخرج بهذا الماء من كل الثمرات، ويضرب الله تعالي المثل بإخراج النبات من الأرض بعد إنزال ماء المطر، بإخراج الموتي بعد إنزال مطر خاص فينبت كل كائن حي من عجب ذنبه مثلما تنبت البقلة من حبتها، كما جاء في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد من أحاديثه الشريفة.
(5) انفجار اثنتي عشرة عينا من الماء إلي الشرق من خليج السويس بضرب موسي الحجر بعصاه كما أخبر القرآن الكريم، والمنطقة تعرف اليوم باسم عيون موسي.
(6) إخبار القرآن الكريم من قبل ألف وأربعمائة سنة بأن الله تعالى سوف يسلط علي اليهود من يسومهم سوء العذاب إلي يوم القيامة، وقد تحقق ذلك بالفعل وندعو الله تعالي لهم بالمزيد من العذاب في الدنيا قبل الآخرة اللهم آمين آمين آمين فقد فجروا في الزمن الحاضر وبالغوا في فجورهم إلي الحد الذي يفوق كل تصور بدعم من الأمريكان المتجبرين، والذين سيقلبهم الله عليهم ثم يعاقبهم أجمعين عقابا يفوق كل وصف، وكل خيال إن شاء الله رب العالمين.
(7) التنبؤ بأن اليهود الكافرين سوف يحرفون دينهم، ويتقولون علي الله تعالى بغير الحق، وسوف يسعون في الأرض فسادا {والله لا يحب المفسدين}، وأن الله تعالي سوف يشردهم ويقطعهم في الأرض أمما، وقد تحقق ذلك، وندعوه تعالي بالمزيد من تشريدهم وتقطيعهم جزاء إفسادهم في الأرض، واستعلائهم الكاذب علي الخلق في أيامنا الراهنة.
(8) إثبات حقيقة وجود للإنسان في عالم الذر، وهي حقيقة لم يدركها العلماء إلا بعد اكتشاف قوانين الوراثة.
(9) عظمة ملكوت السماوات والأرض.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي مجلدات في شرحها ولذلك سوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الرابعة وهي إرسال الرياح، وقبل الخوض في ذلك أعرض لأقوال عدد من المفسرين في شرح الآية التي نحن بصددها، وهي الآية رقم (57) من سورة الأعراف.

.من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتي إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتي لعلكم تذكرون} (الأعراف: 57).

ذكر ابن كثير يرحمه الله ما نصه: لما ذكر تعالي أنه خالق السماوات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم، المدبر المسخر، وأرشد إلي دعائه لأنه علي ما يشاء قدير، نبه تعالي علي أنه الرزاق، وأنه يعيد الموتي يوم القيامة فقال: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا} أي مبشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر، ومنهم من قرأ بشرا، لقوله: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات}، وقوله: {بين يدي رحمته} أي بين يدي المطر، كما قال: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد}، وقال: فانظر إلي آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتي، وهو علي كل شيء قدير، وقوله: {حتى إذا أقلت سحابا ثقالا} أي حملت الرياح سحابا ثقالا أي من كثرة ما فيها من الماء تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة...، وقوله تعالي: {سقناه لبلد ميت} أي إلي أرض ميتة مجدبة لانبات فيها، كقوله: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} الآية، ولهذا قال: {فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتي} أي كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها، كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رميما يوم القيامة...، وهذا المعني كثير في القرآن، يضرب الله مثلا ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها، ولهذا قال: {لعلكم تذكرون}.
وجاء في الظلال رحم الله كاتبها رحمة واسعة ما نصه:
إنها آثار الربوبية في الكون، آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير، وكلها من صنع الله، الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه، وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد.
وفي كل لحظة تهب ريح، وفي كل وقت تحمل الريح سحابا، وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء، ولكن ربط هذا كله بفعل الله- كما هو في الحقيقة- هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة كأن العين تراه.
انه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته، والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون.. وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضا، ولكنه يقع بقدر خاص، ثم يسوق الله السحاب- بقدر خاص منه- إلي {بلد ميت}.. صحراء أو جدبا.. فينزل منه الماء- بقدر كذلك خاص- فيخرج من كل الثمرات- بقدر منه خاص- يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة.
إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون.. كما ينفي الجبرية الآلية، التي تتصور الكون كأنه آلة، فرغ صانعها منها، وأودعها القوانين التي تتحرك بها، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين...!
إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر، ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية، ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس، ولكل مرة تتحقق فيها السنة، القدر الذي ينشئ الحركة ويحقق السنة، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة. إنه تصور حي، ينفي عن القلب البلادة، بلادة الآلية والجبرية، ويدعها ابدا في يقظة وفي رقابة.. كلما حدث حدث وفق سنة الله، وكلما تمت حركة وفق ناموس الله، انتفض هذا القلب، يري قدر الله المنفذ، ويري يد الله الفاعلة، فيسبح الله ويذكره ويراقبه، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه!.
هذا تصور يستحيي القلوب، ويستجيش العقول، ويعلقها جميعا بفاعلية الخالق المتجددة، وبتسبيح البارئ الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة، وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار.
كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض، وبين النشأة الآخرة، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره، علي المنهج الذي يراه الاحياء في نشأة هذه الحياة: {كذلك نخرج الموتي لعلكم تذكرون}
إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها.. هذا ما يوحي به هذا التعقيب... وكما يخرج الله الحياة من الموت في هذه الأرض، فكذلك يخرج الحياة من الموتي في نهاية المطاف... إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة، وأشكالها في هذه الأرض، هي المشيئة التي ترد الحياة في الاموات، وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتي مرة أخري {لعلكم تذكرون} فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة، ويغرقون في الضلالات والأوهام!.
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن علي كاتبه من الله الرضوان ما نصه: {بشرا} بضم فسكون الشين، مخفف بشرا بضمتين جمع بشير، كنذر ونذر، أي مبشرات بنزول الغيث المستتبع لمنفعة الخلق، {أقلت سحابا ثقالا} بما فيه من الماء، وحقيقة اقله: وجده قليلا ثم استعمل بمعني حمله، لأن الحامل يستقل ما يحمله بزعم أن ما يرفعه قليل، و{سحابا} اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء، روعي معناه في قوله: {ثقالا} ولفظه في قوله: {سقناه} و{ثقالا} جمع ثقيلة من الثقل- كعنب- ضد الخفة- قال: ثقل- ككرم- ثقلا وثقالة، فهو ثقيل وهي ثقيلة، {لبلد ميت} مجدب لا ماء فيه ولا نبات، {كذلك نخرج الموتي} أي كما احيينا الأرض بعد موتها بإحداث القوي النامية فيها، وإنزال الماء عليها، وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتي من الأرض ونبعثهم أحياء في اليوم الآخر.
وذكر بقية المفسرين كلاما مشابها لا أري ضرورة لإعادته هنا.

.إرسال الرياح في القرآن الكريم:

جاء ذكر الريح بالإفراد والجمع في 29 موضعا من القرآن الكريم، منها 19 مرة بالإفراد وعشر مرات بالجمع، والريح هو الهواء المتحرك، واغلب المواضع التي ذكر الله تعالي فيها ارسال الريح بلفظ الواحد كانت متعلقة بالعذاب، واغلب المواضع التي جاء فيها ذكر الرياح بصيغة الجمع هي متعلقة بالرحمة، وإن كانت هناك بعض الاستثناءات، وذلك من مثل قوله تعالي:
1- {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتي إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان} (يونس: 22).
2- {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلي الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين} (الأنبياء: 81).
3- {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر} (سبأ: 12).
4- {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} (ص: 36).
5- {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد علي ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (الشوري: 32: 33).
6- {وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض آيات لقوم يعقلون} (البقرة: 164).
7- {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} (الأعراف: 57).
8- {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} (الحجر: 22).
9- {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فتري الودق يخرج من خلاله} (الروم: 48).
وتصف الآيات القرآنية حركة الرياح دوما بالتصريف والارسال، وذلك لأنها حركة منتظمة السلوك، ومحكمة التوزيع بدقة فائقة حول الكرة الأرضية علي الرغم من ظاهرها الذي يصفها بالهياج، وعلي الرغم من تعدد وتشابك القوي المحركة، لها، فذلك كله لا يخرجها عن كونها جندا من جند الله يرسلها بالرحمة والعذاب كيفما يشاء.

.إرسال الرياح في منظور العلوم المكتسبة:

تعرف الرياح بأنها أجزاء من الغلاف الغازي للأرض تتحرك حركة مستقلة عن الأرض- علي الرغم من ارتباطها بها- في عدد من الاتجاهات المختلفة، التي يمكن إدراكها إلي أرتفاع يصل إلي 65 كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر.
والغلاف الغازي للأرض يقدر سمكه بعدة آلاف من الكيلو مترات، وتقدر كتلته بنحو الستة آلاف مليون مليون طن (6120*1210 طن)، ويقع اغلب هذه الكتلة (99%) من كتلة الغلاف الغازي للأرض دون ارتفاع 50 كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر أي دون مستوي نطاق الركود الطبقي The Stratopause وعلي ذلك فإن حركة الرياح تكاد تتركز اساسا في هذا الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض، وأعلي سرعة للرياح تقع فوق نطاق الرجع مباشرة، والذي يتراوح سمكه بين ستة عشر (16) كيلو مترا فوق خط الاستواء، وعشرة كيلو مترات فوق القطبين، وبين سبعة (7) وثمانية (8) كيلو مترات فوق خطوط العرض الوسطي، ولذلك فإن الرياح حينما تتحرك من خط الاستواء في اتجاه القطبين فإنها تهبط فوق هذا المنحني الوسطي، فتزداد سرعتها، هذا بالإضافة إلي أن دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق يجبر كتل الهواء علي التحرك في اتجاه الشرق بسرعات فائقة تعرف باسم التيارات النفاثة The Jet Streams وتنخفض درجة الحرارة في نطاق التغيرات الجوية نطاق الرجع باستمرار مع الارتفاع حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر في قمته فوق خط الاستواء، وذلك للتباعد عن مصدر الدفء، وهو سطح الأرض الذي يمتص 47% من أشعة الشمس أثناء شروقها فترتفع درجة حرارته، ويعيد إشعاع تلك الحرارة علي هيئة أشعة تحت حمراء إلي الغلاف الغازي للأرض بمجرد غياب الشمس فيدفئه.
كذلك ينتاقص الضغط كلما ارتفعنا في الغلاف الغازي للأرض لتناقص كثافة الهواء حتي يصل إلي واحد من ألف من الضغط الجوي فوق مستوي سطح البحر بالارتفاع إلي 48 كيلو مترا فوق هذا المستوي.
ويقدر ما يقع من وزن كتلة الغلاف الغازي المحيط بالأرض علي كل فرد من بني الإنسان بنحو الطن، ومن رحمة الله بنا أننا لا نشعر بثقله لأن الضغط الداخلي في جسد كل منا يقاوم هذا الوزن الذي يعرف باسم الضغط الجوي، فنحن نعيش ومعنا بقية الكائنات الأرضية الحية وسط الغلاف الغازي للأرض، كما تعيش الأحياء المائية في داخل وسطها المائي، ويوثر في هذا الضغط الجوي كل من الجاذبية الأرضية، ودرجة حرارة الجو، وتضاريس سطح الأرض، بين عدد من العوامل الأخري.