فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}.
يعطينا الحق سبحانه وتعالى صفة أخرى من صفات المنافقين، فيصفهم بأنهم الذين اشتروا الضلالة بالهدى. ومادام هناك شراء، فهناك صفقة، تتطلب مشتريا وبائعا، وقد كانت السلعة في الماضي تشترى بسلعة أخرى، أما الآن فإن كل شيء يشترى بالمال، ماذا اشتروا؟
إن هؤلاء المنافقين اشتروا الضلالة، واشتروها بأي ثمن؟!.. اشتروها بالهدى! الباء في اللغة تدخل على المتروك، عندما تشتري شيئا تترك ثمنه، إذن كأن هؤلاء قد تركوا الهدى واشتروا الضلالة، ولكن هل كان معهم هدى ساعة الصفقة؟
إن الحال يقتضي أن يكون معهم هدى، كأن يهتدي إنسان ثم يجد أن الهدى لا يحقق له النفع الدنيوي الذي يطلبه فيتركه ليشتري به الضلال ليحقق به ما يريد، والهدى الذي كان معهم، قد يكون هدى الفطرة، فكأن هؤلاء كان يمكنهم أن يختاروا الهدى فاختاروا الضلالة.
والله سبحانه وتعالى يهدي كل الناس، هدى دلالة، فمن اختار الهدى يزده. واقرأ قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وقول الحق {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} التجارة بيع وشراء، الشاري مستهلك، والبائع قد يكون منتجا، أو وسيطا بين المنتج والمستهلك. ما حظ البائع من البيع والشراء؟ أن يكسب فإذا ما كسب قيل ربحت تجارته. وإذا لم يكسب ولم يخسر، أو إذا خسر ولم يكسب، ففي الحالين لا يحقق ربحا، ونقول ما ربحت تجارته.
فقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} يدل على أنهم خسروا كل شيء لأنهم لم يربحوا، فكأنهم لم يحققوا شيئا له فائدة، وخسروا الهدى، أي خسروا الربح ورأس المال. ما ربحت تجارتهم ربما يكونون لم يكسبوا ولم يخسروا، ولكن هم قدموا الهدى ثمنا للضلال فلم يربحوا وضاع منهم الهدى، أي رأس مالهم.
ونفسية المنافق إذا أردت أن تحددها، فهو إنسان بلا كرامة، بلا رجولة لا يستطيع المواجهة، بلا قوة، يحاول أن يمكر في الخفاء، ولذلك تكون صورته حقيرة أمام نفسه، حتى لو استطاع أن يخفي عيوبه عن الناس، فيكفي أنه كاذب أمام نفسه لتكون صورته حقيرة أمام نفسه، وفي ذلك يقول الشاعر:
إذا أنا لم آت الدنية خشية ** من الناس كان الناس أكرم من نفسي

كفى المرء عارا أن يرى عيب نفسه ** وإن كان في كُنٍّ عن الجن والإنس

فالمهم رأيك في نفسك.. والتمزق الذي عند المنافق أنه يريد أن يخفي عيوبه عن الناس. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}.
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} قال: الكفر بالإِيمان.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {اشتروا الضلالة بالهدى} قال: أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} قال: آمنوا ثم كفروا.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} قال: استحبوا الضلال على الهدى {فما ربحت تجارتهم} قال: قد والله رأيتهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{أولئك} رفع بالابتداء و{الذين} وصلته خبره.
وقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} هذه الجملة عطف على الجملة الواقعة صلة، وهي: {اشتروا}.
وزعم بعضهم أنها خبر المُبْتَدَأ، وأنَّ الفاء دخلت في الخَبَرِ لما تضّمنه الموصول من معنى الشَّرْط، فيصير قوله تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [البقرة: 274]، ثم قال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 274] وهذا وهم؛ لأن {الذين} ليس مبتدأ حتى يدّعي دخول الفاء في خبره، بل هو خَبَرٌ عن {أولئك} كما تقدّم.
فإن قيل: يكون الموصول مبتدأ ثانيًا، فتكون الفاء دخلت في خبره.
قلنا: يلزم من ذلك عدم الربط بين المبتدأ والجملة الواقعة خبرً عنه، وأيضًا فإنَّ الصّلة ماضية معنى.
فإن قيل: يكون {الَّذين} بدلًا من {أولئك} فالجَوابَ يصير الموصول مخصوصًا لإبداله من مخصوص، والصّلة أيضًا ماضية.
فإن قيل: {الذين} صفة ل {أولئك} ويصير نظير قولك: الرجل الذي يأتيني فله درهم.
قلنا: يرد بما رد به السؤال الثَّاني، وبأنه لا يجوز أن يكون وصفًا له؛ لأنه أعرف منه، ففسد هذا القَوْلُ.
والمشهور ضمّ واو {اشتروا} لالتقاء الساكنين، وإنما ضممت تشبيهًا بتاء الفاعل.
وقيل: للفرق بين واو الجِمْعِ والواو الأصلية نحو: {لَوِ استطعنا} [التوبة: 42].
وقيل: لأن الضمة- هنا- أخفّ من الكسرة؛ لأنّها من جنس الواو.
وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة، فإن الأصل: اشتريوا كما سيأتي.
وقيل: هي للجمع فهي مثل: {نحن}.
وقرئ بكسرها على أصل التقاء الساكنين، وبفتحها؛ لأنها أخف.
وأجاز الكسائي همزها تشبيهًا لها بأَدْؤُر وأَثْؤب وهو ضعيف؛ لأن ضمها غير لازم.
وقال أبو البَقَاءِ: ومنهم من يَخْتَلِسُهَا، فيحذفها لالتقاء السَّاكنين؛ وهو ضعيف جدًا، لأن فيحذفها لالتقاء السَّاكنين؛ وهو ضعيف جدًا، لأن قبلها فتحة، والفتحة لا تدلّ عليها.
وأصل اشتروا: اشتريوا: فتحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقبلت أفلًا، قم حذفت لالتقاء السَّاكنين، وبقيت الفتحة دالّة عليها.
وقيل: بل حذفت الضَّمَّة من الياء فسكنت، فالتقى سَاكِنَانِ، فحذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع الواو.
فإن قيل: واو الجمع قد حركت، فينبغي أن يعود السَّاكن المحذوف؟
فالجواب: أنَّ هذه الحركة عارضةٌ فهي في حكم السَّاكن، ولم يجئ ذلك إلاَّ في ضرورة الشعر؛ وأنشد الكِسَائيُّ:
يَا صَيَاحِ لَمْ تَنَامِ العَشِيَّا

فأعاد الألف لما حركت الميم حركةٌ عارضةٌ.
و{الضَّلالة} مفعولة، وهي: الجور عن القَصْدِ، وفقد الاهتداء، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين.
و{بالهدى} متعلّق ب {اشتروا} والباء هنا للعوض، وهي تدخل على المتروك أبدًا.
فأما قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة} [النساء: 74]، فإنَّ ظاهره أن الآخرة هي المأخوذة لا المتروكة.
فالجواب ما قاله الزَّمَخْشَرِيَ: أن المراد بالمشترين المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النِّفَاق، ويخلصوا الإيمان بالله- تعالى- ورسوله، ويجاهدوا في الله حَقّ الجهاد، فحينئذ دخلت الباء على المتروك.
والشِّراء- هاهنا- مَجَاز عن الاستبدال بمعنى أنهم لما تركوا الهدى، وآثروا الضلالة، جُعِلُوا بمنزلة لها بالهُدَى، ثم رشح هذا المجاز بقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} فأسند الرِّبْحِ إلى التِّجارة، والمعنى: فما ربحوا في تِجارتِهم؛ ونظير خذا التَّرْشيح قول الآخر: الطويل:
بَكَى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ** وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ

لما أسند البكاء إلى الخَزّ من أجل هذا الرجل- وهو رَوْح- وإنكاره لجلده مجازًا رَشّحه بقوله: وَعَجّت المَطَارف من جُذام أي: استغاثت الثياب من هذه القبيلة.
وقول الآخر: الطويل:
وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَ ابْنُ دَايةٍ ** وَعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي

لما جعل النَّسْرَ عبارة عن الشَّيب، وابن داية وهو الغُرَاب عبارة عن الشباب، مجازًا رَشّحه بذكر التعشُّش في الوَكْرِ، وقول الآخر: الوافر:
فَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإنْ أَدَلَّتْ ** بِعَالِمَةٍ بأَخلاقِ الكِرامِ

إِذا الشَّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاهَا ** تَنَفَّقْنَاهُ بِالحبْلِ التُّؤَامِ

لما قال: قَصّع في ثقاها أي: دخل من القاصعاء، وهي: جُحر من جِحَرَة اليَرْبُوعِ هنا لما ذكر سبحانه الشِّر، أتبعه بما يُشاكله، وهو الربح تمثيلًا لخسارتهم.
والربح: الزيادة على رأس المال.
وقوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} هذه الجملة معطوفةٌ على قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ}.
والمهتدي: اسم فاعل من اهتدى، وافتعل عنا للمُطَاوعة، ولا يكون افتعل للمطاوعة إلا من فعل نتعدٍّ.
وزعم بعضهم أنه يجيء من اللاَّزم، واستدل على ذلك بقول الشاعر: الزجر.
حَتَّى إذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ في السَّحَرْ ** كَشُعْلَةِ القَابِسِ تَرْمِي بالشَّرَرْ

قال: فاشْتال افتعل لمُطاوعة شال، وهو لازم، وهذا وهم؛ لأن افتعل هنا ليس للمطاوعة، بل بمعنى فَعَلَ المجرد. اهـ. باختصار يسير.

.فوائد بلاغية:

قال في إشارات الإعجاز:
{أولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ}.
اعلم! أن وجه نظمها بسابقتها هو:
أن هذه الآية فذلكة وإجمال للتفاصيل السابقة، وتصوير لها بصورة عالية مؤثرة. وتخصيص أسلوب التجارة للتمثيل، لأجل أن المخاطبين في الصف الأول قد ذاقوا حلو التجارة ومرّها برحلتي الصيف والشتاء.
ووجه المناسبة هو أن نوع البشر اُرسل إلى الدنيا لا للتوطن فيها، بل ليتّجروا في رأس مالهم من الاستعدادات والقابليات ليزرعوا ثم يتصرفوا في غلاّتها.
ثم أن وجه النظم بين جمل هذه الآية هو:
انها ترتبت ترتبا فطريًّا سلسًا على نسق أسلوب التمثيل وهو هذا: أن تاجرًا مغبونا مخذولًا أعطي له رأسُ مالٍ غالٍ فاشترى به السموم وما يضره، فتصرف فيه، فلم يربح ولم يفد؛ بل ألقاه في خسارة على خسارة، فأضاع رأس ماله، ثم أضل الطريق؛ بحيث لا يستطيع أن يرجع.
أما نظم هيئات جملة جملة:
فلفظ {اولئك} موضوع لاحضار المحسوس البعيد: أما الإحضار فإشارة إلى أن من شأن كل سامع إذا سمع تلك الجنايات المذكورة أن يحصل شيئًا فشيئًا في قلبه نفرة وغيظ يتشدد تدريجًا بحيث يريد أن يراهم ليتشفّى الغيظ منهم، ويقابلهم بالنفرة والتحقير.. وأما المحسوسية فرمز إلى أن الاتصاف بهذه الأوصاف العجيبة يجسّمهم في الذهن حتى صاروا محسوسين نصب الخيال. ومن المحسوسية رمز إلى علة الحكم بسر إنجرار المعصية إلى المعصية.. وأما البُعدية فإشارة إلى شدة بُعدهم عن الطريق الحق، ذهبوا إلى حيث لايرجعون، فالذهاب في أيديهم دون الإياب.
ولفظ {الذين} إشارة إلى أن هذا نوع من التجارة عجيب خبيث تحدَّثَ وطَفِقَ أن يصير أساسًا ومسلكا يمر عليه ناس؛ إذ قد مر أن الموصول إشارة إلى الحقائق الجديدة التي اخذت في الانعقاد.
ولفظ {اشتروا} إشارة إلى رد اعتذارهم بإن فطرتنا هكذا.
فكأن القرآن الكريم يقول لهم: لا!. ولقد أعطاكم الله أنفاسَ العمر رأسَ مالٍ، وأودع في روحكم استعداد الكمال، وغرس في وجدانكم نواة الحقيقة وهي الهداية الفطرية لتشتروا السعادة فاشتريتم بدلها- بل بتركها- اللذائذ العاجلة والمنافع الدنيوية فاخترتم بسوء اختياركم مسلك الضلالة على منهج الهداية، فافسدتم الهداية الفطرية، وضيعتم رأس مالكم.
ولفظ {الضلالة بالهدى} فيه إشارة إلى أنهم خسروا خسارة على خسارة. إذ كما خسروا بالضلالة؛ كذلك خسروا بترك النعمة العظيمة التي هي الهداية.
أما جملة {فما ربحت تجارتهم} فاعلم! أن في تخصيص نفي الربح- مع أنهم كما قد خسروا فقد أضاعوا رأس المال أيضًا- إشارة إلى من شأن العاقل أن لايقدم على تجارة لاربح فيها، فضلًا عما فيها خسارة واضاعة رأس المال.. ثم في اسناد الفعل إلى التجارة مع أن الأصل فما ربحوا في تجارتهم إشارة إلى أن تجارتهم هذه بجميع أجزائها وكل أحوالها وقاطبة وسائطها لا فائدة فيها لا جزئيًا ولا كليا؛ لا كبعض التجارات التي لايكون في محصلها وفذلكتها ربح، ولكن في أجزائها فوائد، ولوسائط خدمتها استفادات.. أما هذه فشرّ محض وضرر بحت. ونظير هذا الاسناد نامَ لَيْلُهُ بدل نام في الليل؛ إذ الأول يفيد أن ليله أيضا ساكن وساكت كالنائم لا يحرِّك ليلته شيء ولا يموِّجه طارق.
وأما جملة {وما كانوا مهتدين} أي كما خسروا وأضاعوا المال؛ كذلك قد اضلوا الطريق، فترشيح وتزيين كسابقتها لأسلوب {اشتروا}. وأيضًا فيها رمز خفيّ إلى {هدى للمتقين} في رأس السورة. كأنه يقول: أعطى القرآن الكريم الهداية فما قبل هؤلاء. اهـ.

.تفسير الآية رقم (17):

قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}.