فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بِالرِّيَاحِ يَنْتَفِعُ جَوُّ كُلٍّ مِنَ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، مِنْ جَوِّ الْآخَرِ بِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا، فَبِارْتِفَاعِ هَوَاءِ الْمِنْطَقَةِ الِاسْتِوَائِيَّةِ الْحَارِّ لِخِفَّتِهِ وَانْخِفَاضِ هَوَاءِ الْقُطْبَيْنِ لِثِقْلِهِ يَحْدُثُ فِي كُلٍّ مِنْ نِصْفَيْ كُرَةِ الْأَرْضِ تَيَّارَانِ هَوَائِيَّانِ بَيْنَ وَسَطِ الْأَرْضِ وَطَرَفَيْهَا- كَمَا يَحْدُثُ فِي جَوِّ كُلِّ قُطْرٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِنَّ الْحَرَّ يَشْتَدُّ عِنْدَنَا بِمِصْرَ فِي الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ مِنَ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى إِلَى وَقْتِ الْأَصِيلِ أَوْ إِلَى اللَّيْلِ فَيَرْتَفِعُ وَيَأْتِي بَدَلَهُ هَوَاءٌ مُعْتَدِلٌ لَطِيفٌ مِنْ جَوِّنَا نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ- وَإِذَا اسْتَمَرَّ الْحَرُّ الشَّدِيدُ عِدَّةَ أَيَّامٍ يَخْلُفُهُ هَوَاءٌ بَارِدٌ مُعْتَدِلٌ أَيَّامًا أُخْرَى. وَهُوَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ مِنَ الْأَقْطَارِ الْمُجَاوِرَةِ لَنَا- فَكُلَّمَا كَانَتْ حَرَكَةُ الرِّيحِ شَدِيدَةً كَانَ مَدَاهَا أَبْعَدَ، وَأَقَلُّ حَرَكَةٍ فِي الْهَوَاءِ تُرِيكَ كَيْفَ يُعْدَلُ الْجَوُّ مَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَخْتَبِرَهُ فِي حُجْرَتِكَ إِذَا فَتَحْتَ نَافِذَةً فِيهَا وَأَخَذْتَ شَمْعَةً أَوْ ذُبَالَةً- فَتِيلَةً- مُوقَدَةً فَوَضَعْتَهَا فِي أَعْلَى النَّافِذَةِ مَرَّةً وَفِي أَسْفَلِهَا أُخْرَى، فَإِنَّكَ تَرَى النُّورَ فِي أَسْفَلِهَا مَائِلًا نَحْوَكَ وَفِي أَعْلَاهَا مَائِلًا عَنْكَ إِلَى خَارِجِ الْحُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ الْحَارَّ الَّذِي فِي الْحُجْرَةِ هُوَ الْخَفِيفُ فَيَخْرُجُ مِنْ أَعْلَاهَا وَيَدْخُلُ بَدَلَهُ هَوَاءُ الْجَوِّ الَّذِي هُوَ أَبْرَدُ مِنْ هَوَاءِ الْحُجْرَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْهَوَاءُ الْخَارِجِيُّ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْ هَوَاءِ الْبُيُوتِ فِي أَوْقَاتِ هُبُوبِ الرِّيحِ السَّمُومِ وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُعْرَفُ سَبَبُ اخْتِلَافِ النَّسِيمِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ فِي سَوَاحِلِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ تَارَةً مِنَ الْبَرِّ كَوَقْتِ اللَّيْلِ وَتَارَةً مِنَ الْبَحْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي النَّهَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ أَقَلُّ تَأَثُّرًا بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ وَلاسيما الرَّمْلِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ.
هَذَا وَإِنَّ لِلرِّيَاحِ فِي اتِّجَاهِهَا بَيْنَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُطْبِ جَنُوبًا وَشَمَالًا وَفِيمَا بَيْنَهُمَا شَرْقًا وَغَرْبًا أَسْبَابًا مَعْرُوفَةً، كَمَا أَنَّ لِقُوَّةِ الرِّيَاحِ فِي الْبِحَارِ وَالْأَقْطَارِ أَوْقَاتًا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مِنَ الْأَرْضِ، كَالرِّيَاحِ الْمَوْسِمِيَّةِ الَّتِي تَشْتَدُّ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ حَيْثُ تَكُونُ الْبِحَارُ الشَّمَالِيَّةُ وَكَذَا الْبَحْرُ الْمُتَوَسِّطُ رَهْوًا أَوْ مُعْتَدِلَةَ الِاضْطِرَابِ تَبَعًا لِسُكُونِ الرِّيحِ وَاعْتِدَالِهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ أَسْبَابَ حَرَكَةِ الْهَوَاءِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَكَوْنِ أَصْلِ الْمُنْتَظِمِ مِنْهَا أَرْبَعًا وَمِنْهُ مَا يُسَمُّونَهُ الرِّيَاحَ التِّجَارِيَّةَ الْمُوَاتِيَةَ وَالْمُضَادَّةَ أَوِ الْعَكْسِيَّةَ وَالرِّيَاحَ الْمَوْسِمِيَّةَ- كُلُّ تِلْكَ الْأَسْبَابِ- مَعْرُوفَةٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ تَبَعًا لِعِلْمِهِمْ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَبِهَيْئَةِ الْأَرْضِ وَحَرَكَتِهَا وَفُصُولِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِجْمَالِيٌّ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ مَتَى تَهِبُّ الرِّيحُ فِي بِلَادِهِ وَمَتَى تَسْكُنُ وَمَتَى يَشْتَدُّ الْحَرُّ فِي أَيَّامِ شُهُورِ الصَّيْفِ وَالْبَرْدُ فِي أَيَّامِ شُهُورِ الشِّتَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الرِّيَاحِ نَقْلُهَا لِمَادَّةِ اللَّقَاحِ مِنْ ذُكُورِ النَّبَاتِ إِلَى إِنَاثِهِ، فَإِنَّ مِنَ الشَّجَرِ مَا هُوَ ذَكَرٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أُنْثَى كَالنَّخْلِ، فَوَظِيفَةُ الْأَوَّلِ تَلْقِيحُ الْآخَرِ وَهَذَا إِنَّمَا يُثْمِرُ بِتَلْقِيحِ ذَاكَ لَهُ وَلَا يُثْمِرُ بِغَيْرِ تَلْقِيحٍ، وَإِذَا أُجِيدَ التَّلْقِيحُ كَانَ سَبَبًا لِجَوْدَةِ الثَّمَرِ وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهَا مَا تَشْتَمِلُ كُلُّ شَجَرَةٍ مِنْهُ عَلَى أَعْضَاءِ الذُّكُورَةِ الْمُلَقِّحَةِ وَأَعْضَاءِ الْأُنُوثَةِ الْمُثْمِرَةِ، وَالرِّيَاحُ تَنْقُلُ اللَّقَاحَ فِيمَا لَا تَتَّصِلُ ذُكُورُهُ بِإِنَاثِهِ نَقْلًا تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [15: 22] وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَعْلَمُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِيمَا يَظْهَرُ، حَتَّى الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ بِأَيْدِيهِمْ، إِذْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ اللَّقْحَ هُنَا مَجَازِيًّا بِتَشْبِيهِ تَأْثِيرِ الرِّيَاحِ فِي السَّحَابِ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْمَطَرُ بِتَأْثِيرِ اللَّقَاحِ فِي الْحَيَوَانِ وَكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَمْلِ وَالنِّتَاجِ.
وَأَمَّا مَنَافِعُ الرِّيَاحِ فِي إِحْدَاثِ الْمَطَرِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي جَعَلْنَا هَذَا الِاسْتِطْرَادَ مُتَمِّمًا لَهُ بِتَفْسِيرِهَا بِبَيَانِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ بِهَا، وَالْمَطَرُ هُوَ الْأَصْلُ لِمِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَالْيَنَابِيعِ وَالْآبَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [39: 21] وَالْمَاءُ مُرَكَّبٌ مِنْ عُنْصُرَيِ الْأُكْسُجِينِ وَالْأَيُدْرُوجِينِ، وَيُخَالِطُ مَاءَ الْمَطَرِ مِنْهُ وَهُوَ أَنْقَاهُ بَعْضُ مَا يَحْمِلُهُ الْهَوَاءُ مِنَ الْعَنَاصِرِ مِنَ الْمَوَادِّ الْمُنْفَصِلَةِ مِنَ الْهَوَاءِ وَعَوَالِمِهَا، وَمِيَاهُ الْأَرْضِ يُخَالِطُهَا كَثِيرٌ مِنْ مَوَارِدِهَا وَبَعْضُهَا ضَارٌّ فِي الشُّرْبِ وَبَعْضُهَا نَافِعٌ وَلِذَلِكَ يَفْضُلُ بَعْضُ الْمِيَاهِ بَعْضًا حَتَّى إِنَّ بَعْضَهَا يُنْقَلُ فِي الْقَوَارِيرِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى أَقْطَارٍ أُخْرَى وَيُبَاعُ فِيهَا غَالِيَ الثَّمَنِ لِلشُّرْبِ وَمَا يَضُرُّ شُرْبُهُ لِلرَّيِّ وَالتَّحْلِيلِ قَدْ يَنْفَعُ لِغَيْرِ الشُّرْبِ، وَمِنْهَا الْمِيَاهُ الْمَعْدِنِيَّةُ الْمُسَهِّلَةُ وَالنَّافِعَةُ لِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ دُونَ بَعْضٍ.
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْهَوَاءَ وَالْمَاءَ، هُمَا الْأَصْلَانِ لِحَيَاةِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ وَلِلْحَرَارَةِ وَالنُّورِ فِيهِمَا، وَسُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي حَرَكَتِهِمَا وَانْتِقَالِهِمَا مَا عَلِمْتَ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْهَوَاءُ وَالْمَاءُ وَالنُّورُ وَالْحَرَارَةُ أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ الْكَرِيمَةِ كُلِّهَا، وَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَهَا عَامَّةً مَبْذُولَةً لَا يُمْكِنُ احْتِكَارُهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَنَافِعِهَا مَا يُسَهِّلُ عَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِلْمَنَارِ أَنْ يَفْهَمَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ لَهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَسَاطِينُ عُلَمَاءِ الْكِيمْيَاءِ وَالطَّبِيعَةِ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَزْدَادُونَ بِهَا عِلْمًا، وَهَذَا مِصْدَاقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [17: 85]. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} إلى قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}.
بعد تلك الرحلة الواسعة الآماد، من المنشأ إلى المعاد، يأخذ السياق بأيدي البشر إلى رحلة أخرى في ضمير الكون، وفي صفحته المعروضة للأنظار. فيعرض قصة خلق السماوات والأرض بعد قصة خلق الإنسان. ويوجه الأبصار والبصائر إلى مكنونات هذا الكون وأسراره، وإلى ظواهره وأحواله- إلى الليل الذي يطلب النهار في ذلك الفلك الدوار. وإلى الشمس والقمر والنجوم وهن مسخرات بأمر الله. وإلى الرياح الدائرة في الجواء، تقل السحاب إلى البلد الميت- بإذن الله- فإذا هو حي، وإذا الموات يؤتي من كل الثمرات.
هذه السبحات في ملكوت الله، يرتادها السياق بعد قصة النشأة الإنسانية؛ وبعد تصوير طرفي الرحلة؛ وبعد الحديث عن اتباع الشيطان والاستكبار عن اتباع رسل الله؛ وبعد عرض التصورات الجاهلية والتقاليد التي يشرعها البشر لأنفسهم بلا إذن من الله ولا شرع.. يرتاد السياق هذه السبحات ليرد البشر إلى ربهم، الذي خلق هذا الوجود وسخره، والذي يحكمه وبنواميسه ويصرفه بقدره، والذي له الخلق والأمر وحده..
إنه الإيقاع القوي العميق بعبودية الوجود كلها لبارئه، والذي يبدو استكبار الإنسان فيه عن هذه العبودية نشازًا في الوجود، يجعل الناشز غريبًا شائهًا في الوجود.
وفي ظل تلك المشاهد؛ وفي مواجهة هذا الإيقاع يدعوهم: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين}..
إن إخلاص الدين لله، وتقرير عبودية البشر له، إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله، وعبودية الوجود كله لسلطانه.. وهذا هو الإيحاء الذي يستهدف المنهج القرآني تقريره وتعميقه في القلب البشري.. وأيما قلب أو عقل يتجه بوعي ويقظة إلى هذا الكون ونواميسه المستسرة، وظواهره الناطقة بتلك النواميس المستسرة.. لابد يستشعر تأثيرًا لا يرد سلطانه؛ ولابد يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود المدبر المقدر صاحب الخلق والأمر.. وهذه هي الخطوة الأولى لدفع هذا القلب إلى الاستجابة لداعي الله؛ والاستسلام لسلطانه الذي يستسلم له هذا الوجود كله ولا يتخطاه.
ومن ثم يتخذ المنهج القرآني من هذا الوجود مجاله الأول لتجلية حقيقة الألوهية؛ وتعبيد البشر لربهم وحده، وإشعار قلوبهم وكيانهم كله حقيقة العبودية، وتذوق طعمها الحقيقي في استسلام الواثق المطمئن؛ الذي يستشعر أن كل ما حوله وكل من حوله من خلق الله، يتجاوب وإياه!
إنه ليس البرهان العقلي وحده هو الذي يستهدفه المنهج القرآني باستعراض عبودية الوجود لله، وتسخيره بأمره، واستسلام هذا الوجود في طواعية ويسر ودقة وعمق لأمره وحكمه.. إنما هو مذاق آخر- وراء البرهان العقلي ومع هذا البرهان العقلي- مذاق المشاركة مع الوجود والتجاوب. ومذاق الطمأنينة واليسر؛ والانسياق مع موكب الإيمان الشامل.
إنه مذاق العبودية الراضية، التي لا يسوقها القسر، ولا يحركها القهر.. إنما تحركها- قبل الأمر والتكليف- عاطفة الود والطمأنينة والتناسق مع الوجود كله.. فلا تفكر في التهرب من الأمر، ولا التفلت من القهر؛ لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام الجميل المريح.. الاستسلام لله الذي يرفع الجباه عن الدينونة لغيره أو العبودية لسواه. الاستسلام الرفيع الكريم لرب العالمين..
هذا الاستسلام هو الذي يمثل معنى الإيمان، ويعطيه طعمه ومذاقه.. وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام، وتعطيه حيويته وروحه.. وهي هي القاعدة التي لابد أن تقام وتستقر، قبل التكليف والأمر؛ وقبل الشعائر والشرائع.. ومن ثم هذه العناية الكبرى بإنشائها وتقريرها وتعميقها وتثبيتها في المنهج القرآني الحكيم..
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}..
إن عقيدة التوحيد الإسلامية، لا تدع مجالًا لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه؛ ولا عن كيفيات أفعاله.. فالله سبحانه ليس كمثله شيء.. ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشئ صورة عن ذات الله. فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء. فإذا كان الله سبحانه ليس كمثله شيء، توقف التصور البشري إطلاقًا عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى. ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعًا لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعًا. ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله.. وهذا هو مجاله..
ومن ثم تصبح أسئلة كهذه: كيف خلق الله السماوات والأرض؟ كيف استوى على العرش؟ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه؟... تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي. أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء! ولقد خاضت الطوائف- مع الأسف- في هذه المسائل خوضًا شديدًا في تاريخ الفكر الإسلامي، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية!
فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعًا: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن.
إنها قد تكون ست مراحل. وقد تكون ستة أطوار. وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لا تقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام- إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان!.. وقد تكون شيئًا آخر.. فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد.
وكل حمل لهذا النص ومثله على تخمينات البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن- باسم العلم!- هو محاولة تحكمية، منشؤها الهزيمة الروحية أمام العلم الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض!
ونخلص نحن من هذه المباحث التي لا تضيف شيئًا إلى هدف النص ووجهته. لنرتاد مع النصوص الجميلة تلك الرحلة الموحية في أقطار الكون المنظور، وفي أسراره المكنونة: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}..
إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته. والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره. يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا.. في هذه الدورة الدائبة: دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار. والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره.. إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر، هو {ربكم}.. هو الذي يستحق أن يكون ربًا لكم. يربيكم بمنهجه، ويجمعكم بنظامه، ويشرع لكم بإذنه، ويقضي بينكم بحكمه.. إنه هو صاحب الخلق والأمر.. وكما أنه لا خالق معه. فكذلك لا آمر معه.. هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض.. قضية الألوهية والربوبية والحاكمية، وإفراد الله سبحانه بها.. وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم. فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلًا في مسائل اللباس والطعام. كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور.