فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قيل: وكان اسمه قبل السكن لسكون الناس إليه بعد آدم عليه السلام.
وقيل: عبد الجبار.
وأنا لا أعول على شيء من هذه الأخبار والمعول عليه عندي ما هو الظاهر من أنه اسم وضع له حين ولد، وليس مشتقًا من النايحة.
وأنه كما قال صاحب القاموس.
{فَقَالَ يا قوم قَوْمٌ اعبدوا الله} أي وحده، وترك التقييد به للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة مع الإشراك فكلا عبادة ولدلالة قوله سبحانه وتعالى: {مَا لَكُم مّنْ إله} أي مستحق للعبادة {غَيْرُهُ} عليه، وهو استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها و{مِنْ} صلة و{غَيْرُهُ} بالرفع وهي قراءة الجمهور صفة {إِلَهٍ} أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية.
وقرأ الكسائي بالجر باعتبار لفظه، وقرئ شاذًا بالنصب على الاستثناء، وحكم غير كما في المفصل حكم الاسم الواقع بعد إلا وهو المشهور أي مالكم إله إلا إياه كقولك: ما في الدار من أحد إلا زيدًا أو غير زيد، و{إِلَهٍ} إن جعل مبتدأ فلكم خبره أو خبره محذوف و{لَكُمْ} للتخصيص والتبيين أي مالكم في الوجود أو في العالم إله غير الله تعالى.
{إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تعبدوا حسبما أمرت به.
وتقدير إن لم تؤمنوا لما أن عبادته سبحانه وتعالى تستلزم الإيمان به وهو أهم أنواعها وإنما قال عليه السلام: {أَخَافُ} ولم يقطع حنوا عليهم واستجلابًا لهم بلطف.
{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة أو يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه إن لم يمتثلوا، والجملة كما قال شيخ الإسلام تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعي إليها، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
استئناف انتقل به الغرض من إقامة الحجّة والمنّةِ المبتدئة بقوله تعالى: {ولقد مكناكم في الأرض} [الأعراف: 10]، وتنبيه أهل الضّلالة أنّهم غارقون في كيد الشّيطان، الذي هو عدوّ نوعهم، من قوله: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صِراطك المستقيم} إلى قوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 16 33]، ثمّ بالتّهديد بوصف عذاب الآخرة وأحوال النّاس فيه، وما تخلّل ذلك من الأمثال والتّعريض؛ إلى غرض الاعتبار والموعظة بما حلّ بالأمم الماضية.
فهذا الاستئناف له مزيد اتّصال بقوله في أوائل السّورة [4]: {وكم من قرية أهلكناها} الآية، وقد أفيض القول فيه في معظم السّورة وتَتْبَعُ هذا الاعتبار أغراضٌ أخرى: وهي تسلية الرّسول، وتعليم أمّته بتاريخ الأمم التي قبلها من الأمم المرسل إليهم، ليعلم المكذّبون من العرب أنّ لا غضاضة على محمّد ولا على رسالته من تكذيبهم، ولا يجعله ذلك دون غيره من الرّسل، بله أن يؤيّد زعمهم أنّه لو كان صادقًا في رسالته لأيَّده الله بعقاب مكذّيبه لما قالوا على سبيل التّهكّم أو الحجاج: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم}.
وليعلَمَ أهل الكتاب وغيرهم أنّ ما لقيه محمّد من قومه هو شنشنة أهل الشّقاوة تلقاء دعوة رسل الله.
وأكّد هذا الخبر بلام القسم وحرف التّحقيق لأنّ الغرض من هذه الأخبار تنظير أحوال الأمم المكذّبة رسلَها بحال مشركي العرب في تكذيبهم رسالة محمّد.
وكثُر في الكلام اقترانُ جملة جواب القسم: بقَدْ لأنّ القسم يُهيئ نفس السّامع لتوقع خبر مهم فيؤتى بقَد لأنّها تدلّ على تحقيق أمر متوقّع، كما أثبته الخليل والزّمخشري، والتّوقّع قد يكون توقعًا للمخبَر به، وقد يكون توقعًا للخبر كما هنا.
وتقدّم التّعريف بنوح عند قوله تعالى: {إنّ الله اصطفى آدم ونوحا} في سورة [آل عمران: 33].
وكان قوم نوح يسكنون الجزيرة والعراق، حسب ظن المؤرّخين.
وعبر عنهم القرآن بطريق القومية المضافة إلى نوح إذ لم يكن لهم اسْم خاص من أسماء الأمم يعرفون به، فالتّعريف بالإضافة هنا لأنّها أخصر طريق.
وعطف جملة فقال يا قوم على جملة {أرسلنا} بالفاء إشعارًا بأنّ ذلك القول صدر منه بفور إرساله، فهي مضمون ما أرسل به.
وخاطب نوح قومه كلّهم لأنّ الدّعوة لا تكون إلاّ عامة لهم، وعبّر في ندائهم بوصف القوم لتذكيرهم بآصرة القرابة، ليتحقّقوا أنّه ناصح ومريد خيرهم ومشفق عليهم، وأضاف القوم إلى ضميره للتحبيب والتّرقيق لاستجلاب اهتدائهم.
وقوله لهم: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} إبطال للحالة التي كانوا عليها، وهي تحتمل أن تكون حالة شرك كحالة العرب، وتحتمل أن تكون حالة وثنيّة باقتصارهم على عبادة لأصنام دون الله تعالى، كحالة الصّابئه وقدماء اليونان، وآيات القرآن صالحة للحالين، والمنقول في القصص: أنّ قوم نوح كانوا مشركين، وهو الذي يقتضيه ما في صحيح البخاري عن ابن عبّاس أنّ آلهة قوم نوح أسماء جماعة من صالحيهم فلمّا ماتُوا قال قومهم: لو اتَّخذنا في مجالسهم أنصابًا فاتّخَذوها وسمَّوْها بأسمائهم حتّى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت.
وظاهر ما في سورة نوح أنّهم كانوا لا يعبدون الله لقوله: {أن اعبدوا الله واتَّقُوه} [نوح: 3] وظاهر ما في سورة فُصِّلت أنّهم يعترفون بالله لقولهم: {لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة} [فصلت: 14] مع احتمال أنّه خرج مخرج التّسليم الجدلي فإن كانوا مشركين كان أمرُه إياهم بعبادة الله مقيَّدًا بمدلول قوله: {ما لكم من إله غيره} أي أفردوه بالعبادة ولا تشركوا معه الأصنام، وإن كانوا مقتصرين على عبادة الأوثان كان قوله: {ما لكم من إله غيره} تعليلًا للاقبال على عبادة الله، أي هو الإله لا أوثانُكم.
وجملة: {ما لكم من إله غيره} على الوجه الأوّل بيان للعبادة التي أمَرَهم بها، أي أفردوه بالعبادة دون غيره، إذ ليس غيره لكم بالإله.
وعلى الوجه الثّاني يكون استئنافًا بيانيًا للأمر بالإقلاع عن عبادة غيره.
وقرأ الجمهور {غيرهُ} بالرّفع على الصّفة لإله باعتبار محلّه لأنّه في محلّ رفع إذ هو مبتدأ وإنّما جرّ لدخول حرف الجرّ الزائد ولا يُعتد بجرّه، وقرأه الكسائي، وأبو جعفر: بجرّ {غير} على النّعت للّفظ إلاه نظرًا لحرف الجر الزّائد.
وجملة: {إني أخاف عليكم عذاب يوم} يجوز أن تكون في موقع التّعليل، كما في الكشاف: أي لمضمون قوله: {ما لكم من إله غيره} كأنّه قيل: اتركوا عبادة غير الله خوفًا من عذاب يوم عظيم، وبُني نظم الكلام على خوففِ المتكلّم عليهم، دلالة على إمحاضه النّصح لهم وحرصه على سلامتهم، حتّى جعل ما يُضر بهم كأنّه يُضِرّ به، فهو يخافه كما يخافون على أنفسهم، وذلك لأنّ قوله هذا كان في مبدأ خطابهم بما أرسل به، ويحتمل أنّه قاله بعد أن ظَهر منهم التّكذيب: أي إن كنتم لا تخافون عذابًا فإنّي أخافه عليكم، وهذا من رحمة الرّسل بقومهم.
وفعل الخوف يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المخوف منه، ويتعدّى إلى مفعول ثان بحرف على إذا كان الخوف من ضر يلحقُ غيرَ الخائف، كما قال الأحوص:
فإذا تزول تزول على مُتَخَمِّطٍ ** تُخْشَى بوادِرُهُ على الأقران

ويجوز أن تكون مستأنفة ثانية بعد جملة {اعبدوا الله} لقصد الإرهاب والإنذار، ونكتة بناءِ نظم الكلام على خوف المتكلّم عليهم هي هي.
والعذاب المخوف ويومه يحتمل أنّهما في الآخرة أو في الدّنيا، والأظهر الأوّل لأنّ جوابهم بأنّه في ضلال مبين يشعر بأنّهم أحالوا الوحدانية وأحالوا البعث كما يدلّ عليه قوله في سورة [نوح: 17، 18]: {والله أنبتكم من الأرض نباتا ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجًا} فحالهم كحال مشركي العرب لأنّ عبادة الأصنام تمحّض أهلها للاقتصار على أغراض الدّنيا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطائعين وعن العاصين في الدنيا، وتكلم عن مواقف الآخرة الجزائية في أصحاب الجنة، وأصحاب النار والأعراف أراد أن يبين بعد ذلك أن كل دعوة من دعوات الله سبحانه أهل الأرض لابد أن تلقي عنتا وتضييقا، وتلقى إعراضًا، وتلقى إيذاء، إنه سبحانه يريد أن يعطي المناعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فيوضح له: لست أنت بادعًا من الرسل؛ لأن كل رسول جاء إلى قومه قوبل بالاضطهاد، وقوبل بالتكذيب، وقوبل بالنكرات، وقوبل بالإيذاء، وإذا كان كان كل رسول قد أخذ من هذا على قدر مهمته الرسالية زمانًا محدوأ، ومكانًا محصورًا فأنت يا رسول الله أخذت الدنيا كلها زمانًا ومكانًا، فلابد أن تكون مواجهًا لمصاعب تناسب مهمتك ورسالتك؛ فأنت في قمة الرسل، وستكون الإيذاءات التي تنالك وتصيبك قمة في الإيذاء، فلست بدعًا من الرسل، فوطّن نفسك على ذلك. وحين توطن نفسك على ذلك ستلقى كل إيذاء وكل اضطهاد بصبر واحتمال في الله، وقص الحق قصص الرسل على رسول الله، وعبر الله بالهدف من قص القصص بقول: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...} [هود: 120].
فكأنا القصص تثبيت لفؤاده صلى الله عليه وسلم، فكلما أهاجه نكران، أو كلما أهاجه جحود، قص عليه الحق سبحانه قصة رسول قوبل بالنكران وقوبل بالجحود ليثبت به فؤاده صلى الله عليه وسلم وفؤاد أتباعه لعلهم يعرفون كل شيء ويوطنون أنفسهم على هذا العنت؛ فلم يقل الحق لأتباع محمد: إنكم مقبلون على أمر والأرض مفروشة لكم بالورود، لا. إنما هي متاعب لتجابهوا شر الشيطان في الأرض. والقصص له أكثر من هدى يثبت به فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين له أنه ليس بدعًا من الرسل، ويقوي نفوس أتباعه، لأنهم حينما يرون أن أهل الحق مع الأنبياء انتصروا، وهزم الجميع ووليّ الدبر، وأنهم منصورون دائما فهذا يقوي يقين المؤمنين، ويكسر من جهة أخرى نفوس الكافرين مثلما قال الحق عن واحد من أكابر قريش. {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}.
قال الحق لهم ذلك عن واحد من أكابر قريش وهم لا يقدرون حينئذ أن يدافعوا أو يذودوا عن أنفسهم، وذهبوا وهاجروا إلى الحبشة حماية لأنفسهم من بطش هؤلاء الأكابر، وكل مؤمن يبحث له عمن يحميه، وينزل قوله الحق بعد ذلك في الوليد بن المغيرة {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}، والوليد بن المغيرة سيد قومه، ويأتي يوم بدر فيوجد أنفه وقد ضرب وخطم ويتحقق قول الله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16].
فمن- إذن- يحدد ضربة قتال بسيف في يد مقاتل قبل أن يبدأ القتال؟ لقد حددها الأعلم بما يكون عليه الأمر.
وأيضا فقصص الرسل إنما جيء بها ليثبت للمعاصرين له أنه تلقى القرآن من الله؛ لأنه رسول أميّ؛ الأمة أمية، ولم يدّع أحد من خصومه أنه جلس إلى معلم، أو قرأ كتابًا، فمن أين جاءته هذه الأخبار إذن؟
واسمع قول الحق سبحانه وتعالى في الآيات التي يأتي فيها: ما كنت مثل قوله الحق: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر...} [القصص: 44].
ومثل قوله الحق: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48].
ومثل قوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ...} [آل عمران: 44].
فمن أين جاءت هذه الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه لم يجلس إلى معلم ولم يقرأ كتابًا؟ لقد جاءت كلها من الحق سبحانه وتعالى، وهذا دليل آخر على صدق رسالته.
وقصة سيدنا نوح من القصص التي وردت كثيرًا في القرآن الكريم مثل قصة موسى عليه السلام، ومن العجيب أن لقطات القصة تنتشر في بعض السور، لكن السورة التي سميت بسورة نوح ليس فيها من المواقف التي تعتبر من عيون القصة، إنها تعالج لقطات أخرى؛ تعالج إلحاحه في دعوة قومه، وأنه ما قصّر في دعوتهم ليلًا ونهارًا، وسرًّا وعلانية، كلما دعاهم ابتعدوا، ولم تأت قصة المركب في سورة نوح، ولا قصة الطوفان، وهذه لقطات من عيون القصة، وكذلك لم تأت فيها قصته مع ابنه، بل جاء بها في سورة هود.