فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (61):

قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قذفوه بضلال مقيد بالوضوح، نفى الضلال المطلق الذي هو الأعم، وبنفيه ينتفي كل أخصيّاته بل نفي أقل شيء من الضلال، فقال تعالى مخبرًا عنه: {قال يا قوم} مجددًا لا ستعطافهم {ليس بي ضلالة} فنفى وحدة غير معينة، ولا يصدق ذلك إلا بنفي لكل فرد، فهو أنص من نفي المصدر، ولم يصف الملأ من قومه هنا بالذين كفروا ووصفهم بذلك في سورة هود، إما لأنها صفة ذم لم يقصد بها التقييد فلا يختل المعنى بإثباتها ولا نفيها، أو لأنهم أجابوه بذلك مرتين: إحداهما قبل أن يسلم أحد من أشرافهم، والثانية بعد أن أسلم بعضهم.
ولما نفى ما رموه به على هذا الوجه البليغ، أثبت له ضده بأشرف ما يكون من صفات الخلق، فقال مستدركًا- بعد نفي الضلال- إثبات ملزوم ضده: {ولكني رسول} أي إليكم بما أمرتكم به فأنا على أقوم طريق {من رب العالمين} أي المحسن إليهم بإرسال الرسل لهدايتهم بإنقاذهم من الضلال، فرد الأمر عليهم بألطف إشارة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ولما ذكروا هذا الكلام. أجاب نوح عليه السلام بقوله: {يا قوم لَيْسَ بِى ضلالة}.
فإن قالوا: إن القوم قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ}.
فجوابه أن يقال: ليس بي ضلال، فلم ترك هذا الكلام، وقال: ليس بي ضلالة؟
قلت: لأن قوله: {لَيْسَ بِى ضلالة} أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة، فكان هذا أبلغ في عموم السلب، ثم إنه عليه السلام لما نفى عن نفسه العيب الذي وصفوه به، ووصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها، وهو كونه رسولًا إلى الخلق من رب العالمين.
ذكر ما هو المقصود من الرسالة، وهو أمران:
الأول: تبليغ الرسالة.
والثاني: تقرير النصيحة.
فقال: {أُبَلِغُكُمْ رسالات رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ}. اهـ.

.قال السمرقندي:

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وفي الآية بيان أدب الخلق في حسن الجواب والمخاطبة.
لأنه ردّ جهلهم بأحسن الجواب، وهذا كما قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63] يعني: السداد من القول. اهـ.

.قال الثعلبي:

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ}.
ولم يقل: ليست لأن معنى الضلالة الضال، وقد يكون على معنى تقديم الفعل {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله لهم جوابًا عن هذا {ليس بي ضلالة}.
مبالغة في حسن الأدب والإعراض عن الجفاء منهم وتناول رفيق وسعة صدر حسبما يقتضيه خلق النبوة، وقوله: {ولكني رسول} تعرض لمن يريد النظر والبحث والتأمل في المعجزة.
قال القاضي أبو محمد: ونقدر ولابد أن نوحًا عليه السلام وكل نبي مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة تخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم نعرف. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قال يا قوم ليس بي ظلالة ولكني رسول من رب العالمين}.
لم يرد النفي منه على لفظ ما قالوه فلم يأتِ التركيب لست في ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانيًا والإعراض عن جفائهم ما يدلّ على سعة صدره والتلطّف بهم.
ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دلّ على أنه على الصراط المستقيم فصحّ أن يستدرك كما تقول ما زيد بضالّ ولكنه مهتد فلكن واقعة بين نقيضين لأنّ الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين: الضّلال والهدى ولا تجامع ضلالة الرسالة وفي قوله: {من رب العالمين} تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربّكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولًا يدعوكم إلى إفراده بالعبادة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ} استئناف كما سبق {يَا قَوْمِ} ناداهم بإضافتهم إليه استمالةً لقلوبهم نحو الحق {لَيْسَ بِى ضلالة} أيُّ شيءٍ ما من الضلال، قصد عليه الصلاة والسلام تحقيقَ الحق في نفي الضلالِ عن نفسه ردًا على الكفرة حيث بالغوا في إثباته له عليه الصلاة والسلام حيث جعلوه مستقرًا في الضلال الواضِحِ كونُه ضلالًا، وقوله تعالى: {وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين} استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزِمه من كونه في أقصى مراتبِ الهداية، فإن رسالةَ ربِّ العالمين مستلزِمةٌ لا محالة، كأنه قيل: ليس بي شيءٌ من الضلال ولكني في الغاية القاصيةِ من الهداية. ومن لابتداء الغايةِ مجازًا متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرسولٌ مؤكدةٌ لما يفيده التنوينُ من الفخامة الذاتي بالفخامة الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ من رب العالمين. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
{قَالَ} استئناف على طرز سابقه {عَلَيْهِ قَوْمٌ} ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لهم نحو الحق {لَيْسَ بِى ضلالة} نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فإن التاء للمرة لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الأحمق يقتضي ذلك والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى ليس بي أقل قليل من الضلال فضلًا عن الضلال المبين، وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ فإن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع، وكفاك لا رجل شاهدًا فإنه موضوع للواحد من الجنس وبذلك فرق بينه وبين أسامة فإذا وقع عامًا لا يلحظ ذلك.
ولو سلم جواز أن يقال ليس به ضلالة أي ضلالة واحدة بل ضلالات متنوعة ابتداء لكن لا يجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في الكشف وبه يندفع ما أورد على الكشاف في هذا المقام.
وفي المثل السائر الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك: ضل يضل ضلالًا وضلالة كان القولان سواء لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر بل عن المرة والنفي كما علمت، وإنما بالغ عليه السلام في النفي لمبالغتهم في الإثبات حيث جعلوه وحاشاه مستقرًا في الضلال الواضح كونه ضلالًا.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين} استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه، وذلك على ما قيل أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكًا لذلك، وقيل: هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة كأنه قيل وليس بي شيء من الضلالة لكني في الغاية القاصية من الهداية، وحاصل ذلك على ما قرره الطيبي أن لكن حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفيًا وإثباتًا والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك: جاءني زيد لكن عمرًا غاب، وفائدة العدول عن الظاهر إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفى الضلالة كذلك، وسلك طريق الإطناب لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله: {لَيْسَ بِى ضلالة} كان كافيًا فيه فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ} فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين ألا ترى أن صالحًا عليه السلام لما لم يعترضوا عليه عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد؛ ففي هذه الآية خمسة من أنواع البديع فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيرًا انتهى.
ولا يخفى أن هذا الاستدراك غير الاستدراك بالمعنى المشهور.
وقد ذكر غير واحد من علماء العربية أن الاستدراك في لكن أن تنسب لما بعدها حكمًا مخالفًا لما قبلها سواء تغايرا إثباتًا ونفيًا أو لا، وفسره صاحب البسيط وجماعة برفع ما توهم ثبوته، وتمام الكلام فيه في المغني، واعتبار اللازم لتحصيل الاستدراك بالمعنى الثاني مما لا يكاد يقبل لأنه لا يذهب وهم واهم من نفي الضلالة إلى نفي الهداية حتى يحتاج إلى تداركه، ووجهه بعضهم من دون اعتبار اللازم بأنه عليه السلام لما نفى الضلالة عن نفسه فربما يتوهم المخاطب انتفاء الرسالة أيضًا كما انتفى الضلالة فاستدركه بلكن كما في قولك زيد ليس بفقيه لكنه طبيب، وأنت تعلم أن هذا إن لم يرجع إلى ما قرر أولًا فليس بشيء، وقيل: إنه إذا انتفى أحد المتقابلين يسبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به، ولهذا يؤول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلًا يقال: زيد ليس بقائم لكنه قاعد ولا يقال: لكنه شارب إلا بعد التأويل بأن الشارب يكون قاعدًا، وقال بعض فضلاء الروم: النظر الصائب في هذا الاستدراك أن يكون مثل قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وقوله:
هو البدر إلا أنه البحر زاخرا ** سوى أنه الضرغام لكنه الوبل

كأنه قيل: ليس بي ضلالة وعيب سوى أني رسول من رب العالمين، وأنت تعلم أن هذا النوع يقال له عندهم تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو قسمان ما يستثنى فيه من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية.
وما يثبت فيه لشيء صفة مدح ويتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك، والظاهر أن ما في الآية من القسم الأول إلا أنه غير غني عن التأويل فتأمل.
و{مِنْ} فيها لابتداء الغاية مجازًا متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة ما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية كأنه قيل: إني رسول وأي رسول كائن من رب العالمين. اهـ.