فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

و{أبلغكم} استئناف على سبيل البيان بكونه رسولًا أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظًا فيه كونه خبرًا لضمير متكلم كما تقول أنه رجل آمر معروف فتراعي لفظ أنا ويجوز يأمر بالمعروف فيراعى لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب قال تعالى: {بل أنتم قوم تفتنون} بالتاء ولو قرئ بالياء لكان عربيًّا مراعاة للفظ {قوم} لأنه غائب، وقرأ أبو عمرو {أبلغكم} هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف وباقي السبعة بالتشديد والهمزة والتضعيف للتعدية فيه وجمع {رسالات} باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزّجر والوعظ والتبشير والإنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله، قيل: في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة وتقدم الكلام في نصح وتعديتها، وقال الزمخشري: وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت للمنصوح له مقصودًا به جانبه لا غير فربّ نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعًا ولا نصيحة أنفع من نصيحة الله تعالى ورسله، وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك، وقال النابغة:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا

وفي قوله: {ما لا تعلمون} إبهام عليهم وهو عامّ ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قطّ بأمه عُذِّبت فتضمّن التهديد والوعيد فيحتمل أن {يرِيد ما لا تعلمون} من صفات الله وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلهًا معه أو {يريد ما لا تعلمون} مما أوحي إلي، قال ابن عطية: ولابد أنّ نوحًا عليه السلام وكل نبيّ مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم يعرف وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولًا {أبلغكم رسالات ربي} وهذا مبدأ أمره معهم وهو التبليغ، كما قال: إنْ عليك إلا البلاغ ثم قال: {وأنصح لكم} أي أخلص لكم في تبيين الرّشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده ثم قال وأعلم من الله: {ما لا تعلمون} من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى}.
استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير رسالتِه وتفصيلِ أحكامِها وأحوالِها وقيل: صفة أخرى لرسولٌ على طريقة:
أنا الذي سمّتني أمي حيدَره

وقرئ {أبْلِغُكم} من الإبلاغ، وجمعُ الرسالاتِ لاختلاف أوقاتِها أو لتنوّع معانيها، أو لأن المرادَ بها ما أوحيَ إليه وإلى النبيين من قبله، وتخصيصُ ربوبيتِه تعالى به عليه الصلاة والسلام بعد بيانِ عمومِها للعالمين للإشعار بعلة الحُكمِ الذي هو تبليغُ رسالتِه تعالى إليهم فإن ربوبيتَه تعالى به عليه الصلاة والسلام من موجبات امتثالِه بأمره تعالى بتبليغ رسالتِه تعالى إليهم {وَأَنصَحُ لَكُمْ} عطفٌ على {أبلّغُكم} مبينٌ لكيفية أداءِ الرسالةِ، وزيادةُ اللامِ مع تعدّي النُصحِ بنفسه للدلالة على إمحاض النصيحةِ لهم وأنها لمنفعتهم ومصلحتِهم خاصةً، وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على تجدد نصيحتِه لهم كما يعرف عنه قوله تعالى: {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا ونَهَارًا} وقولُه تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عطفٌ على ما قبله وتقريرٌ لرسالته عليه الصلاة والسلام، أي أعلم من جهة الله تعالى بالوحي ما لا تعلمونه من الأمور الآتيةِ، أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرتِه القاهرةِ وبطشِه الشديدِ على أعدائه وأن بأسَه يُردّ عن القوم المجرمين ما لا تعلمون. قيل: كانوا لا يسمعون بقوم حل بهم العذابُ قبلَهم فكانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علِمه نوحٌ عليه السلام بالوحي. اهـ.

.قال الألوسي:

{أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى}.
استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها.
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون صفة أخرى لرسول على المعنى لأنه عبارة عن الضمير في إني وهذا كقول علي كرم الله تعالى وجهه حين بارز مرحبًا اليهودي يوم خيبر:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ** كليث غابات كريه المنظره

أو فيهم بالصاع كيل السندره

حيث لم يقل سمته حملًا له على المعنى لأمن اللبس، وأوجب بعضهم الحمل على الاستئناف زعمًا منه أن ما ذكر قبيح حتى قال المازني: لولا شهرته لرددته، وتعقب ذلك الشهاب بأن ما ذكره المازني في صلة الموصول لا في وصف النكرة فإنه وارد في القرآن مثل {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وقد صرح بحسنه في كتب النحو والمعاني، على أن ما ذكره في الصلة أيضًا مردود عند المحققين وإن تبعه فيه ابن جني حتى استرذل قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وفي الانتصاف أنه حسن في الاستعمال وكلام أبي الحسن أصدق شاهد على ما قال وعلى حسن كلام ابن الحسين، وهذا كما قال الشهاب إذا لم يكن الضمير مؤخرًا نحو الذي قرى الضيوف أنا أو كان للتشبيه نحو أنا في الشجاعة الذي قتل مرحبًا.
وقرأ أبو عمرو {أُبَلّغُكُمْ} بتسكين الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ، وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة وهو مصدر والأصل فيه أن لا يجمع رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معاني ما أرسل عليه السلام به أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس عليه السلام وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وشيث عليه السلام وقد أنزل عليه خمسون صحيفة، ووضع الظاهر موضع الضمير وتخصيص ربوبيته تعالى له عليه السلام بعد بيان عمومها للعالمين للإشعار بعلة الحكم الذي هو تبليغ رسالته تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له من موجبات امتثاله بأمره تعالى بتبليغ رسالته.
{وَأَنصَحُ لَكُمْ} أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناءً على أن النصح تحري ذلك قولًا أو فعلًا، وقيل: هو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى هنا أبلغكم أوامر الله تعالى ونواهيه وأرغبكم في قبولها وأحذركم عقابه إن عصيتموه، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع، ويقال: هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمنصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه، وعلى ذلك حمل ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ويقال: نصحته ونصحت له كما يقال: شكرته وشكرت له، قيل: وجىء باللام هنا ليدل الكلام على أن الغرض ليس غير النصح وليس النصح لغيرهم بمعنى أن نفعه يعود عليهم لا عليه عليه السلام كقوله: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] وهذا مبني على أن اللام للاختصاص لا زائدة، وظاهر كلام البعض يشعر بأنها مع ذلك زائدة وفيه خفاء.
وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصحه عليه السلام لهم كما يفصح عنه قوله: {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5].
وقوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه السلام أي أعلم من قبله تعالى بالوحي أشياء لا علم لكم بها من الأمور الآتية.
فمن لابتداء الغاية مجازًا أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على من لم يؤمن به ويصدق برسله ما لا تعلمونه.
فمن إما للتبعيض أو بيانية لما، ولابد في الوجهين من تقدير المضاف، قيل: كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين غافلين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام فهم أول قوم عذبوا على كفرهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {أبلغكم رسالات ربي}.
صفة لرسول، أو مستأنفة، والمقصود منها إفادة التّجدّد، وأنّه غير تارككٍ التّبليغَ من أجل تكذيبهم تأييسًا لهم من متابعته إياهم، ولولا هذا المقصد لكان معنى هذه الجملة حاصلًا من معنى قوله: {ولكني رسول}، ولذلك جمع الرّسالات لأنّ كلّ تبليغ يتضمّن رسالة بما بلَّغَه، ثمّ إن اعتُبرت جملة: {أبلغكم} صفة، يكُن العدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير التّكلّم في قوله: {أبلغكم} وقولِه: {ربي} التفاتًا، باعتبار كون الموصوف خبرًا عن ضمير المتكلّم، وإن اعتُبرت استينافًا، فلا التفات.
والتّبليغ والإبلاغ: جعل الشّيء بالغًا، أي واصلًا إلى المكان المقصود، وهو هنا استعارة للإعلام بالأمر المقصود علمُه، فكأنّه ينقله من مكان إلى مكان.
وقرأ الجمهور: {أُبَلِّغكم} بفتح الموحّدة وتشديد اللاّم وقرأه أبو عَمرو، ويعقوب: بسكون الموحدة وتخفيف اللاّم من الإبلاغ والمعنى واحد.
ووجه العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {رسالات ربي} هو ما تؤذن به إضافة الرّب إلى ضمير المتكلّم من لزوم طاعته، وأنّه لا يسعه إلاّ تبليغُ ما أمره بتبليغه، وإن كَرِه قومه.
والنّصح والنّصيحة كلمة جامعة، يعبّر بها عن حسن النّيّة وإرادة الخير من قولٍ أو عملٍ، وفي الحديث: «الدّين النّصحية» وأن تُناصحوا من ولاّه الله أمركم.
ويكثر إطلاق النّصح على القول الذي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضّر.
وضدّه الغشّ.
وأصل معناه أن يتعدّى إلى المفعول بنفسه، ويكثر أن يُعدّى إلى المفعول بلام زائدة دالة على معنى الاختصاص للدّلالة على أنّ النّاصح أراد من نصحه ذات المنصوح، لا جلب خير لنفس النّاصح، ففي ذلك مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة، وأنّها وقعت خالصة للمنصوح، مقصودًا بها جانبه لا غير، فربّ نصيحة ينتَفع بها النّاصح فيقصد النّفعين جميعًا، وربّما يقع تفاوت بين النّفعين فيكون ترجيح نفع النّاصح تقصيرًا أو إجحافًا بنفع المنصوح.
وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النّصح لهم، وإنّه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم.
وعقب ذلك بقوله: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} جمعًا لمعان كثيرة ممّا تتضمّنه الرّسالة وتأييدًا لثباته على دوام التّبليغ والنّصح لهم، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم، لأنّه يعلم ما لا يعلمونه ممّا يحمله على الاسترسال في عمله ذلك، فجاء بهذا الكلام الجامع، ويتضمّن هذا الإجمالُ البديعُ تهديدًا لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل، وتنبيهًا للتّأمّل فيما أتاهم به، وفتحًا لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبوللِ ما جاءهم به.
و{من} ابتدائية أي: صار لي علم وارد من الله تعالى، وهذه المعاني التي تضمّنها هذا الاستدراك هي ما يُسلِّم كلّ عاقل أنّها من الهدى والصّلاح، وتلك هي أحواله، وهم وصفوا حاله بأنّه في ضلال مبين، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم.
وانتقَل إلى كشف الخطأ في شبهتهم فعطف على كلامه. اهـ.