فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} جملة متضمنة لتعليل الأمر بالعبادة، أي إن لم تعبدوه، فإني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم الطوفان.
قوله: {قال الملأ من قومه} جملة استئنافية جواب سؤال مقدّر.
والملأ أشراف القوم ورؤساؤهم.
وقيل: هم الرجال، وقد تقدّم بيانه في البقرة.
والضلال: العدول عن طريق الحق والذهاب عنه، أي إنا لنراك في دعائك إلى عبادة الله وحده في ضلال عن طريق الحق.
وجملة {قال يا قوم} استئنافية أيضًا، جواب سؤال مقدّر.
{ليس بي ضلالة} كما تزعمون {ولكني رسول من رب العالمين} أرسلني إليكم لسوق الخير إليكم، ودفع الشرّ عنكم، نفي عن نفسه الضلالة، وأثبت لها ما هو أعلى منصبًا وأشرف رفعة، وهو أنه رسول الله إليهم.
وجملة {أبلغكم رسالات ربي} في محل رفع، على أنها صفة لرسول، أو هي مستأنفة مبينة لحال الرسول.
والرسالات: ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه {وأنصح لكم} عطف على {أبلغكم} يقال: نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام دلالة على المبالغة في إمحاض النصح.
قال الأصمعي: الناصح: الخالص من الغلّ، وكل شيء خلص فقد نصح، فمعنى أنصح هنا: أخلص النية لكم عن شوائب الفساد، والاسم النصيحة.
وجملة: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} معطوفة على الجملة التي قبلها، مقررة لرسالته، ومبينة لمزيد علمه، وأنه يختص بعلم الأشياء التي لا يعلمونها بإخبار الله له بذلك.
قوله: {أو عجبتم} فتحت الواو لكونها العاطفة، ودخلت عليها همزة الاستفهام للإنكار عليهم.
والمعطوف عليه مقدّر، كأنه قيل: استبعدتم وعجبتم، أو أكذبتم وعجبتم، أو أنكرتم وعجبتم {أن جاءكم ذكر من ربكم} أي وحي وموعظة {على رجل منكم} أي على لسان رجل منكم تعرفونه.
ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه، أو لا تعرفون لغته.
وقيل {على} بمعنى مع: أي مع رجل منكم لأجل ينذركم به.
{ولتتقوا} ما يخالفه {ولعلكم ترحمون} بسبب ما يفيده الإنذار لكم، والتقوى منكم من التعرّض لرحمة الله سبحانه لكم ورضوانه عنكم.
{فكذبوه} أي فبعد ذلك كذبوه، ولم يعملوا بما جاء به من الإنذار {فأنجيناه والذين معه} من المؤمنين به المستقرّين معه {في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا} واستمرّوا على ذلك، ولم يرجعوا إلى التوبة.
وجملة {إنهم كانوا قومًا عمين} علة لقوله: {وأغرقنا} أي أغرقنا المكذبين، لكونهم عمي القلوب، لا تنجع فيهم الموعظة، ولا يفيدهم التذكير.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول نبيّ أرسل نوح» وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وأبو نعيم، وابن عساكر، عن يزيد الرقاشي قال: إنما سمي نوح عليه السلام نوحًا لطول ما ناح على نفسه.
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك قال: الملأ يعني الأشراف من قومه.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ {أن جاءكم ذكر من ربكم} يقول: بيان من ربكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {إنهم كانوا قومًا عمين} قال: كفارًا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد {إنهم كانوا قومًا عمين} قال: عن الحق. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
قَصَصُ الرُّسُلِ الْمَشْهُورِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ:
هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمَشْهُورِ ذِكْرُهُمْ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشُّعُوبِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، قَدْ سَبَقَ التَّمْهِيدُ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ نِدَاءِ اللهِ تَعَالَى لِبَنِي آدَمَ بِقَوْلِهِ: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}- إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ 35 و36- وَمِنْهُ يُعْلَمُ وَجْهُ التَّنَاسُبِ وَاتِّصَالِ الْكَلَامِ.
قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} بَدَأَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بِالْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ خَبَرِهَا لِأَوَّلِ مَنْ وَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ بِهَا، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ إِذْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ وَالْوَحْيَ، عَلَى كَوْنِهِمْ أُمِّيِّينَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ عُلُومِ الْأُمَمِ وَقَصَصِ الرُّسُلِ شَيْءٌ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلِمَةً فِي بَيْتِ شِعْرٍ مَأْثُورٍ أَوْ عِبَارَةً نَاقِصَةً مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَيْثُ كَانُوا يَلْقَوْنَهُمْ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ أَوِ الشَّامِ أَوْ مِمَّنْ تَهَوَّدُ أَوْ تَنَصَّرَ مِنْهُمْ، وَكُلُّهُمْ أَوْ جُلُّهُمْ ظَلُّوا عَلَى أُمِّيَّتِهِمْ. وَالْقَسَمُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَامُهُ فِي بَدْءِ الْجُمْلَةِ، وَهِيَ لَا تَكَادُ تَجِيءُ إِلَّا مَعَ قَدْ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ التَّوَقُّعِ، وَنُوحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ هُمْ قَوْمُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ الْبَحْثِ فِي عَدَدِ الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ وَهَلْ يُعَدُّ آدَمُ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ (ص501 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 طَبْعَةُ الْهَيْئَةِ) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ هُمُ الَّذِينَ صَوَّرُوا بَعْضَ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ ثُمَّ وَضَعُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ لِإِحْيَاءِ ذِكْرِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، ثُمَّ عَبَدُوا صُوَرَهُمْ وَتَمَاثِيلَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْأَنْعَامِ (ص 454 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 طَبْعَةُ الْهَيْئَةِ) وَغَيْرِهِ.
{فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أَيْ فَنَادَاهُمْ بِصِفَةِ الْقَوْمِيَّةِ مُضَافَةً إِلَيْهِ اسْتِمَالَةً لَهُمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِمْ، بِدُعَاءٍ يَطْلُبُونَ بِهِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِكَسْبِهِمْ، وَمَا جَعَلَهُ اللهُ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا الْمَطَالِبُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ فِي طَلَبِهِ إِلَى الرَّبِّ الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا التَّوَجُّهُ وَالدُّعَاءُ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَلُبَابُهَا فَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ بِاللهِ تَعَالَى أَنْ يَتَوَجَّهَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ- لَا اسْتِقْلَالًا وَلَا بِالتَّبَعِ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِرَادَةِ التَّوَسُّطِ بِهِ عِنْدَهُ فَإِنَّ هَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ، الَّذِي ضَلَّ بِهِ أَكْثَرُ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْخَلْقِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ إِلَهٍ} يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ وَعُمُومَهُ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا عِنْدَنَا مِنْ طَعَامٍ أَوْ أُكُلٍ. بِضَمَّتَيْنِ أَفَادَ أَنَّهُ مَا ثَمَّ مِمَّا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ. وَلَوْ قَالَ: مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ أَوْ أُكُلٌ- لَصَدَقَ بِانْتِفَاءِ مَا يُسَمَّى بِذَلِكَ مِمَّا يُقَدَّمُ عَادَةً لِمَنْ يُرِيدُ الْغَدَاءَ أَوِ الْعَشَاءَ مِنْ خُبْزٍ وَإِدَامٍ، فَإِنْ كَانَ لَدَى الْقَائِلِ بَقِيَّةٌ مِنْ فَضَلَاتِ الْمَائِدَةِ أَوْ قَلِيلٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ لَا يَكُونُ كَاذِبًا وَالْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرَقِ هُنَا- أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ نَوْعٌ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا لِرَجَاءِ النَّفْعِ أَوْ دَفْعِ الضَّرَرِ مِنْهُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِأَجْلِ تَوَسُّطِهِ وَشَفَاعَتِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى- بَلِ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ تَتَوَجَّهَ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ.
قَرَأَ الْكِسَائِيُّ {غَيْرِهِ} بِالْكَسْرِ عَلَى الصِّفَةِ لِلَفْظِ {إِلَهٍ} وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَا لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ.
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هَذَا إِنْذَارٌ مُسْتَأْنَفٌ عُلِّلَ بِهِ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ الْمُسْتَلْزِمُ لِتَرْكِ أَدْنَى شَوَائِبِ الشِّرْكِ بِهَا، وَبَيَانٌ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِالرِّسَالَةِ. أَيْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِذَا لَمْ تَمْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَبْعَثُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الْعِبَادَ وَيُجَازِيهِمْ بِإِيمَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الطُّوفَانِ، وَيَضْعُفُ بِأَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ بَلْ بَعْدَ طُولِ الْإِبَاءِ وَالرَّدِّ وَالْوُصُولِ مَعَهُمْ إِلَى دَرَجَةِ الْيَأْسِ الْمُبَيَّنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَتِهِ حِكَايَةً عَنْهُ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} (71: 5، 6) الْآيَاتِ وَبِقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} (11: 36) الْآيَاتِ- إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْيَوْمِ الْعَظِيمِ عَذَابُ الدُّنْيَا مُطْلَقًا.
{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} الْمَلَأُ أَشْرَافُ الْقَوْمِ، فَإِنَّهُمْ يَمْلَئُونَ الْعُيُونَ رُوَاءً بِمَا يَكُونُ عَادَةً مِنْ تَأَنُّقِهِمْ بِالزِّيِّ الْمُمْتَازِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّمَائِلِ، قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ لِنُوحٍ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ بَيِّنٍ ظَاهِرٍ، بِنَهْيِكَ إِيَّانَا عَنْ عِبَادَةِ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ، الَّذِينَ هُمْ وَسِيلَتُنَا وَشُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَقْبَلُنَا بِبَرَكَتِهِمْ. وَيُعْطِينَا سُؤَالَنَا بِوَسَاطَتِهِمْ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى، وَنَحْنُ لَا نَرَى أَنْفُسَنَا أَهْلًا لِدُعَائِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِنَا، لِمَا نَقْتَرِفُهُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تُبْعِدُنَا عَنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ الْأَقْدَسِ بِغَيْرِ شَفِيعٍ وَلَا وَسِيطٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ. حَكَمُوا بِضَلَالِهِ وَأَكَّدُوهُ بِالتَّعْبِيرِ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَبِإِنَّ وَاللَّامِ وَبِالظَّرْفِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْإِحَاطَةِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي غَمْرَةٍ مِنَ الضَّلَالِ مُحِيطَةٍ بِكَ لَا تَهْتَدِي مَعَهَا إِلَى الصَّوَابِ سَبِيلًا. وَذَلِكَ لِمَا رَأَوْهُ عَلَيْهِ مِنَ الثِّقَةِ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} نَادَاهُمْ بِاسْمِ الْقَوْمِيَّةِ مُضَافَةً إِلَيْهِ ثَانِيَةً تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِمْ وَلَا لَهُمْ إِلَّا الْخَيْرَ، وَنَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِقَ بِهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِمَّا يُسَمَّى ضَلَالَةً، كَمَا أَفَادَ التَّنْكِيرُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الضَّلَالِ، فَبَالَغَ فِي النَّفْيِ كَمَا بَالَغُوا فِي الْإِثْبَاتِ، وَفِي تَقْدِيمِ الظَّرْفِ {بِي} تَعْرِيضٌ بِضَلَالِهِمْ، ثُمَّ قَفَّى عَلَى نَفْيِ الضَّلَالَةِ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ مُقَابِلِهَا لَهُ فِي ضِمْنِ تَبْلِيغِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى فَقَالَ: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ لَسْتُ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ فَقَطْ بَلْ أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَيْكُمْ لِيَهْدِيَكُمْ بِاتِّبَاعِي سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَيُنْقِذَكُمْ عَلَى يَدَيَّ مِنَ الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ بِالشِّرْكِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْمَعَاصِي الْمُدَنِّسَةِ لِلْأَنْفُسِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَرْوَاحِ. وَالْقُدْوَةُ فِي الْهُدَى، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا فِيمَا بِهِ أَتَى، وَمِنْ آثَارِ رَحْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ أَلَّا يَدَعَكُمْ عَلَى شِرْكِكُمُ الَّذِي ابْتَدَعْتُمُوهُ بِجَهْلِكُمْ، حَتَّى يُبَيِّنَ لَكُمُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ يُبَيِّنُ مَوْضُوعَ الرِّسَالَةِ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَهُوَ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْأَنْفُسُ مِنَ السُّؤَالِ عَمَّا جَاءَ بِهِ بِدَعْوَاهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ. فَقَالَ: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو {أُبْلِغُكُمْ} بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِبْلَاغِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ الْمُفِيدِ مِنَ التَّبْلِيغِ، لِلتَّدْرِيجِ وَالتَّكْرَارِ الْمُنَاسِبِ لِجَمْعِ الرِّسَالَةِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهَا وَمَوْضُوعِهَا وَهُوَ مُتَعَدِّدٌ: مِنْهُ الْعَقَائِدُ وَأَهَمُّهَا التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ، وَيَتْلُوهُ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَبِالْمَلَائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهُ الْآدَابُ وَالْحِكَمُ وَالْمَوَاعِظُ وَالْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، وَلَوْ آمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ لَمَا كَانَ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
{وَأَنْصَحُ لَكُمْ} قَالَ الرَّاغِبُ: النُّصْحُ تَحَرِّي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فِيهِ صَلَاحُ صَاحِبِهِ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُ لَكُمُ الْوُدَّ أَيْ أَخْلَصْتُهُ، وَنَاصِحُ الْعَسَلِ خَالِصُهُ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُ الْجِلْدَ خِطْتُهُ، وَالنَّاصِحُ الْخَيَّاطُ، وَالنِّصَاحُ كَكِتَابٍ الْخَيْطُ اهـ. وَفِي الْكَشَّافِ يُقَالُ نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَفِي زِيَادَةِ اللَّامِ مُبَالَغَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ، وَأَنَّهَا وَقَعَتْ خَالِصَةً لِلْمَنْصُوحِ مَقْصُودًا بِهَا جَانِبُهُ لَا غَيْرَ فَرُبَّ نَصِيحَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاصِحُ فَيَقْصِدُ النَّفْعَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا نَصِيحَةَ أَمْحَضُ مِنْ نَصِيحَةِ اللهِ وَرُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ اهـ. فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّصِيحَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا صَلَاحُ الْمَنْصُوحِ لَهُ لَا النَّاصِحِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَائِدَةٌ مِنْهَا وَجَاءَتْ تَبَعًا فَلَا بَأْسَ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنِ النَّصِيحَةُ خَالِصَةً، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ- قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ- لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
{وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهَا حَالِيَّةٌ. أَيْ أُبَلِّغُكُمْ مَا أَرْسَلَنِي اللهُ تَعَالَى بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَأَنْصَحُ لَكُمْ بِمَا أَعِظُكُمْ بِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَنَا فِي هَذَا وَذَاكَ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَيَّ لَا تَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا. أَوْ: وَأَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَشُئُونِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِصِفَاتِهِ وَتَعَلُّقِهَا وَآثَارِهَا فِي خَلْقِهِ وَسُنَنِهِ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ- فَإِذَا نَصَحْتُ لَكُمْ وَأَنْذَرْتُكُمْ عَاقِبَةَ شِرْكِكُمْ وَمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعَالَى مِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا جَحَدْتُمْ وَعَانَدْتُمْ فَإِنَّمَا أَنْصَحُ لَكُمْ عَنْ عِلْمٍ يَقِينٍ لَا تَعْلَمُونَهُ.