فصل: الأحكام التي تؤخذ من الفاتحة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما ما يدلّ على عدم وجوبها، بل على قراءة ما تيسّر من القرآن فحديث أبي هريرة أن رجلا دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فردّ عليه السّلام وقال: «ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ» فصلى، ثم جاء، فأمره بالرجوع إلى فعل ذلك، ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحقّ ما أحسن غيره، فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبع الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها».
وأما الكتاب فقوله تعالى: {فَاقرءوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] فهذا يدل على أنّ الواجب أن يقرأ أيّ شيء تيسّر من القرآن، فهو يعارض حديث عبادة، ويعضد حديث أبي هريرة الأخير، لأن الآية في القراءة في الصلاة بدليل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلى قوله: {فَاقرءوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ولم يختلف الأئمة في أنّ ذلك في شأن الصلاة في الليل، وقد اعتمد المالكية والشافعية حديث عبادة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
وحملوا النفي على نفي الحقيقة، وكأنّهم رأوا الآية من المبهم والحديث من المعيّن، والمبهم يحمل على المعيّن.
أما الحنفية فرأوا أن الآية تفيد التخيير، وليست من باب المطلق، فإنّ معنى ما تيسر أيّ شيء تيسر، فالآية دلت على التخيير، فإذا جاء بعد ذلك معين يكون ناسخا ولا نسخ هنا. قالوا: وقد جاء حديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته معضّدا لما ذهبنا إليه.
أما حديث عبادة بن الصامت فقد حملوه على نفي الكمال، كقوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد».
وأما حديث: «فهي خداج» فقالوا فيه: هو يدلّ لنا، لأن الخداج: الناقصة، وهذا يدل على جوازها مع النقصان، لأنّها لو لم تكن جائزة لما أطلق عليها اسم النقصان، لأنّ إثباتها ناقصة ينفي بطلانها، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان لما لم يثبت منه شيء.
أما سبب اختلاف من أوجب قراءتها في الكل أو في البعض فما في الضمير في قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها» من احتمال عوده على كل أجزاء الصلاة أو بعضها.

.الأحكام التي تؤخذ من الفاتحة:

قد أسلفنا أن {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)} على تأويل قولوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)} بدليل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإنه على تأويل قولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حتما، فعلمنا أن الأمر وهو قولوا مضمر في ابتداء السورة أيضا، وذلك يقضي أن اللّه أمرنا بفعل الحمد، وعلمنا كيف نحمده، وكيف نثني عليه، وكيف ندعوه.
ومما يؤخذ منها من آداب الدعاء أنه ينبغي أن يبدأ بحمد اللّه والثناء عليه، ليكون ذلك أدعى إلى الإجابة، إذ إن اللّه قدّم حمده والثناء عليه بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} على الدعاء وهو قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}. اهـ.

.فصول مهمة ذكرها الرازي في مقدمة سورة الفاتحة:

.الفصل الأول في التنبيه على علوم هذه السورة على سبيل الإجمال:

قال الفخر:
اعلم أنه مر على لساني في بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة فاستبعد هذا بعض الحساد وقوم من أهل الجهل وألغي والعناد وحملوا ذلك على ما ألفو من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعاني والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب قدمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر ممكن الحصول قريب الوصول فنقول وبالله التوفيق إن قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لا شك أن المراد منه الاستعاذة بالله من جميع المنهيات والمحظورات ولا شك أن المنهيات إما أن تكون من باب الاعتقاد أو من باب أعمال الجوارح أما الاعتقاد فقد جاء في الخبر المشهور قوله ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة وهذا يدل على أن الاثنتين والسبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة ثم إن ضلال كل واحدة من أولئك الفرق غير مختص بمسألة واحدة بل هو حاصل في مسائل كثيرة من المباحث المعلقة بذات الله تعالى وبصفاته وبأحكامه وبأفعاله وبأسمائه وبمسائل الجبر والقدر والتعديل والتجوير والثواب والمعاد والوعد والوعيد والأسماء والأحكام والإمامة فإذا وزعنا الفرق الضالة- وهو الاثنتان والسبعون- على هذه المسائل الكثيرة بلغ العدد الحاصل مبلغا عظيما وكل ذلك أنواع الضلالات الحاصلة في فرق الأمة في جميع المسائل العقلية المتعلقة بالإلهيات والمتعلقة بأحكام الذوات والصفات بلغ المجموع مبلغا عظيما في العدد ولا شك أن قولنا أعوذ بالله يتناول الاستعاذة من جميع تلك الأنواع والاستعاذة من الشيء لا تمكن إلا بعد معرفة المستعاذ منه وإلا بعد معرفة كون ذلك الشيء باطلا وقبيحا فظهر بهذا الطريق أن قولنا أعوذ بالله مشتمل على عشرة آلاف مسئلة أو أزيد أو أقل من المسائل المهمة المعتبرة.

.تفسير البسملة:

وأما قوله جل جلاله: {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} ففيه نوعان من البحث:
النوع الأول:
قد اشتهر عند العلماء أن لله تعالى ألفًا وواحدًا من الأسماء المقدسة المطهرة، وهي موجودة في الكتاب والسنّة، ولا شك أن البحث عن كل واحد من تلك الأسماء مسألة شريفة عالية، وأيضًا فالعلم بالاسم لا يحصل إلا إذا كان مسبوقًا بالعلم بالمسمى، وفي البحث عن ثبوت تلك المسميات، وعن الدلائل الدالة على ثبوتها، وعن أجوبة الشبهات التي تذكر فيها نفيها مسائل كثيرة، ومجموعها يزيد على الألوف.
النوع الثاني:
من مباحث هذه الآية: أن الباء في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} باء الإلصاق، وهي متعلقة بفعل، والتقدير: باسم الله أشرع في أداء الطاعات، وهذا المعنى لا يصير ملخصًا معلومًا إلا بعد الوقوف على أقسام الطاعات، وهي العقائد الحقة والأعمال الصافية مع الدلائل والبينات، ومع الأجوبة عن الشبهات، وهذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة.
ومن اللطائف أن قوله: {أَعُوذُ بالله} إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من العقائد والأعمال، وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ} إشارة إلى ما ينبغي من الاعتقادات والعمليات، فقوله: {بِسْمِ اللَّهِ} لا يصير معلومًا إلا بعد الوقوف على جميع العقائد الحقة، والأعمال الصافية، وهذا هو الترتيب الذي يشهد بصحته العقل الصحيح، والحق الصريح.

.نعم الله تعالى التي لا تحصى:

أما قوله جل جلاله: {الحمد للَّهِ} فاعلم أن الحمد إنما يكون حمدًا على النعمة، والحمد على النعمة لا يمكن إلا بعد معرفة تلك النعمة، لكن أقسام نعم الله خارجة عن التحديد والإحصاء، كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ولنتكلم في مثال واحد، وهو أن العاقل يجب أن يعتبر ذاته، وذلك لأنه مؤلف من نفس وبدن؛ ولا شك أن أدون الجزءين وأقلهما فضيلة ومنفعة هو البدن، ثم إن أصحاب التشريح وجدوا قريبًا من خمسة آلاف نوع من المنافع والمصالح التي دبرها الله عزّ وجلّ بحكمته في تخليق بدن الإنسان، ثم إن من وقف على هذه الأصناف المذكورة في كتب التشريح عرف أن نسبة هذا القدر المعلوم المذكور إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط، وعند هذا يظهر أن معرفة أقسام حكمة الرحمن في خلق الإنسان تشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أكثر، ثم إذا ضمت إلى هذه الجملة آثار حكم الله تعالى في تخليق العرش والكرسي وأطباق السموات، وأجرام النيرات من الثوابت والسيارات، وتخصيص كل واحد منها بقدر مخصوص ولون مخصوص وغير مخصوص، ثم يضم إليها آثار حكم الله تعالى في تخليق الأمهات والمولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات وأصناف أقسامها وأحوالها علم أن هذا المجموع مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل، ثم إنه تعالى نبه على أن أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السموات وَمَا فِي الأرض} [الجاثية: 13] وحينئذٍ يظهر أن قوله جل جلاله: {الحمد للَّهِ} مشتمل على ألف ألف مسألة، أو أكثر أو أقل.

.أنواع العالم وإمكان وجود عوالم أخرى:

وأما قوله جل جلاله: {رَبّ العالمين} فاعلم أن قوله: {رَبّ} مضاف وقوله: {العالمين} مضاف إليه، وإضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين، فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى ربًا للعالمين إلا بعد معرفة رب والعالمين، ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، وهي على ثلاثة أقسام: المتحيزات، والمفارقات، والصفات.
أما المتحيزات فهي إما بسائط أو مركبات، أو البسائط فهي الأفلاك والكواكب والأمهات، وأما المركبات فهي المواليد الثلاثة، واعلم أنه لم يقم دليل على أنه لا جسم إلا هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم، بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم، ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر، ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية؛ قال أبو العلاء المعري:
يا أيها الناس كم لله من فلك ** تجري النجوم به والشمس والقمر

هين على الله ماضينا وغابرنا ** فما لنا في نواحي غيره خطر

ومعلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل، بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح، وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار، وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب، ولا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَّا في الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَم والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كلمات الله} [لقمان: 27] وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله: {رَبّ العالمين}.

.رحمة الله تعالى بعباده لا تنحصر أنواعها:

وأما قوله تعالى: {الرحمن الرحيم} فاعلم أن الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات، وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات، أما التخليص عن أقسام الآفات فلا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الآفات، وهي كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى، ومن شاء أن يقف على قليل منها فليطالع كتب الطب حتى يقف عقله على أقسام الأسقام التي يمكن تولدها في كل واحد من الأعضاء والأجزاء، ثم يتأمل في أنه تعالى كيف هدى عقول الخلق إلى معرفة أقسام الأغذية والأدوية من المعادن والنبات والحيوان، فإنه إذا خاض في هذا الباب وجده بحرًا لا ساحل له.
وقد حكى جالينوس أنه لما صنف كتابه في منافع أعضاء العين قال: بخلت على الناس بذكر حكمة الله تعالى في تخليق العصبين المجوفين ملتقيين على موضع واحد، فرأيت في النوم كأن ملكًا نزل من السماء وقال يا جالينوس، إن إلهك يقول: لم بخلت على عبادي بذكر حكمتي؟ قال: فانتبهت فصنفت فيه كتابًا، وقال أيضًا: إن طحالي قد غلظ فعالجته بكل ما عرفت فلم ينفع، فرأيت في الهيكل كأن ملكًا نزل من السماء وأمرني بفصد العرق الذي بين الخنصر والبنصر؛ وأكثر علامات الطب في أوائلها تنتهي إلى أمثال هذه التنبيهات والإلهامات، فإذا وقف الإنسان على أمثال هذه المباحث عرف أن أقسام رحمة الله تعالى على عباده خارجة عن الضبط والإحصاء.