فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ}.
الكلامُ فيه كالذي مر في قصة نوح عليه السلام {على رَجُلٍ مّنكُمْ} أي من جنسكم {لِيُنذِرَكُمْ} ويحذرَكم عاقبةَ ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي حتى نسبتموني إلى السفاهة والكذبِ، وفي إجابة الأنبياءِ صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين من يشافِهُهم بما لا خير فيه من أمثال تلك الأباطيلِ بما حُكيَ عنهم من المقالات الحقة المعربة عن نهاية الحلم والرزانة وكمالِ الشفقةِ والرأفة، من الدلالة على حيازتهم القدحَ المُعلَّى من مكارم الأخلاق ما لا يخفى مكانُه.
{واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء} شروعٌ في بيان ترتيبِ أحكامِ النصح والأمانةِ والإنذارِ وتفصيلِها، وإذ منصوبٌ باذكروا على المفعولية دون الظرفية، وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها لما أن إيجابَ ذكرِ الوقت إيجابٌ لذكر ما فيه بالطريق البرهاني، ولأن الوقتَ مشتملٌ عليها، فإذا استُحضر كانت هي حاشرةً بتفاصيلها كأنها مشاهَدةٌ عيانًا، ولعله معطوفٌ على مقدر كأنه قيل: لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا وقتَ جعْلِه تعالى إياكم خلفاءَ {مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي في مساكنهم أو الأرض بأن جعلكم ملوكًا، فإن شدادَ بنَ عاد ممن ملك معمورةَ الأرضِ من رمل عالِجٍ إلى شجر عمان {وَزَادَكُمْ في الخلق} أي في الإبداع والتصوير أو في الناس {بَسْطَةً} قامةً وقوةً فإنه لم يكن في زمانهم مثلُهم في عِظَم الأجرام، قال الكلبي والسدي كانت قامةُ الطويلِ منهم مائةَ ذراعٍ وقامةُ القصير ستين ذراعًا {فاذكروا ءالاء الله} التي أنعم بها الله عليكم من فنون النَّعماءِ التي هذه من جملتها.
وهذا تكريرٌ للتذكير لزيادة التقرير، وتعميمٌ إثرَ تخصيص {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي يؤديَكم ذلك إلى الشكر المؤدّي إلى النجاة من الكروب والفوزِ بالمطلوب. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَوَعَجبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذكْرٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُل مِّنْكُم ليُنْذرَكُمْ}.
الكلام فيه كالكلام في سابقه.
وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من يشافههم من الكفرة بالكلمات الحمقاء بما حكى عنهم والإعراض عن مقابلتهم بمثل كلامهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة، وفي حكاية ذلك تعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم، وفي الآية دلالة على جواز مدح الإنسان نفسه للحاجة إليه.
{واذكروا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} شروع في بيان ترتيب أحكام النصح والأمانة والإنذار وتفصيلها، و{إذ} على ما يفهم من كلام البعض وصرح به آخرون ظرف منصوب بآلاء المحذوف هنا بقرينة ما بعده لتضمنه معنى الفعل، واختار غير واحد تبعًا للزمخشري أنه مفعول لأذكروا أي اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسام، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في إيجاب ذكره ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضرًا بتفاصيله، وهذا مبني على الاتساع في الظرف أو أنه غير لازم للظرفية على خلاف المشهور عند النحويين، والواو للعطف وما بعده قيل: معطوف على قوله تعالى: {أعبدوا} [الأعراف: 65] ولا يخفى بعده.
وقال شيخ الإسلام: لعله معطوف على مقدر كأنه قيل: لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء {منْ بَعْد قَوْم نُوح} أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكًا فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض فالإسناد على هذا مجاز، وفي ذكر نوح على ما قيل إشارة إلى رفع التعجب يعني هذا الذي جئت به ليس ببدع فاذكروا نوحًا وإرساله إلى قومه وإلى الوعيد والتهديد أي أذكروا إهلاك قومه لتكذيبهم رسول ربهم.
{وَزَادَكُمْ في الخلق} أي الإبداع والتصوير أو في المخلوقين أي زادكم في الناس على أمثالكم {بَسْطَةً} قوة وزيادة جسم، قال الكلبي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعًا.
وأخرج ابن عساكر عن وهب أنه قال: كانت هامة الرجل منهم مثل القبة العظيمة وعينه يفرخ فيها السباع، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعًا، وعن الباقر رضي الله تعالى عنه كانوا كأنهم النخل الطوال وكان الرجل منهم يأتي الجبل فيهدم منه بيده القطعة العظيمة.
وأخرج عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة إن كان الرجل منهم ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها.
وعن بعضهم أن أحدهم كان أطول من سائر الخلق بمقدار ما يمد الإنسان يده فوق رأسه باسطًا لها فطول كل منهم قامة وبسطة وهذا أقرب عند ذوي العقول القصيرة عن إدراك طول يد القدرة.
وأخرج إسحاق بن بشر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هودًا عليه السلام كان أصبحهم وجهًا وكان في مثل أجسامهم أبيض جعدًا بادي العنفقة طويل اللحية صلى الله عليه وسلم، ونصب {بسطة} على أنه مفعول به للفعل قبله، وقيل: تمييز و{في الخلق} متعلق بالفعل، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالًا من {بسطة}.
{فاذكروا ءَالاَءَ الله} أي نعمه سبحانه وتعالى وهي جمع إلْي بكسر فسكون كحمل وأحمال أو أُلْي بضم فسكون كقفل وأقفال أو إلى بكسر ففتح مقصورًا كمعى وأمعاء أو بفتحتين مقصورًا كقفا وأقفاء وبهما ينشد قول الأعشى:
أبيض لا يرهب الهزال ولا ** يقطع رحمًا ولا يخون إلا

وقيل: إن ما في البيت إلا المشددة لكنها خففت ومعناها العهد وفيه بعد، وهذا تكرير للتذكير لزيادة التقرير وتعميم إثر تخصيص أي أذكروا الآلاء التي من جملتها ما تقدم {لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ} أي لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها الذي من جملته العمل بالأركان والطاعة المؤدي إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب وهذا لأن الفلاح لا يترتب على مجرد الذكر.
ومن الناس من فسر ذكر الآلاء بشكرها وأمر الترتب عليه ظاهر. اهـ.

.قال القاسمي:

{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} أي: أيام الله ولقاءه، أي: لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلكم {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي: خلفتموهم في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكًا بعدهم، فإن شَدَّاد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى شحْر عُمان- كذا قالوا-: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} أي: قامة وقوة.
{فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ} أي: في استخلافكم، وبسطة أجرامكم، وما سواهما من عطاياه، لتخصصوه بالعبادة: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: تفوزون بالفلاح.
تنبيهان:
الأول: قال الزمخشري: في إجابة الأنبياء عليهم السلام، من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وتارك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم أدب حسن، وخلق عظيم. وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم، على ما يكون منهم. انتهى.
وزاد القاضي: إن في ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس وحسن المجادلة قال: وهكذا ينبغي لكل ناصح. انتهى.
الثاني: لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، بدون وضعها على محك النظر والنقد، من المبالغة في طول قوم عاد، وضخامة أجسامهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعًا، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي، وهو وهم.
وأما قوله جل شأنه مخاطبًا لقوم عاد: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} فإنه لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها، وهذا من الأمور المعتادة، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته، بل تتفاوت لكن تفاوتًا قريبًا.
ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا، لا تتفاوت عنها تفاوتًا كبيرًا، مساكن ثمود قوم صالح الباقية، وآثارهم البادية، ومثله، بل أعرق منه في الوهم، ما ينقلونه وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله، ويتناول الحوت من قرار البحر، فيشويه بعين الشمس، يرفعه إليها. والحال أن الشمس كوكب لا مزاج له من حر أو برد وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها، بمقابلة سطح الأرض والهواء، فشدة حرارتها في الأرض، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الإرتفاع.
وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في مقدمة تاريخه، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسمية، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر وإيوان كسرى، فيتخيلون لأصحابها أجسامًا تناسب ذلك.
والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، وإتساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن معشاره.
وأنكر أيضًا ما ينقلون من قصة جنة عاد، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحارى عدن، بناها شَدَّاد بن عاد حيث سمع وصف الجنة، وأنها لما تم بناؤها، أرسل الله على أهلها صيحة، فهلكوا كلهم، وأن اسمها إرم ذات العماد، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}، ويزعمون أنه لم تزل باقية في بلاد اليمن وإنما حجبت عن الأبصار.
وحيث إن ذلك لم يُرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه، ولا نلتفت إليه، وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصنعة، هم المؤرخون الذي يعتمدون على أخبار بني إسرائيل، ويقلدونهم من غير برهان ودليل، والله الهادي إلى سواء السبيل- كذا أفاده بعض المحققين-. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ}.