فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا مماثل قولَ نوح لقومه وقد تقدّم آنفًا سبب المماثلة.
وتقدّم من قبل تفسير نظيره.
{واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ في الخلق بَسْطَةً فاذكروا ءَالاءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
يجوز أن يكون قوله: {لينذركم} عطفًا على قوله: {اعبدوا} [الأعراف: 65] ويكونَ ما بينهما اعتراضًا حكي به ما جرى بينه وبين قومه من المحاورة التي قاطعوه بها عقب قوله لهم {اعبدوا الله} [الأعراف: 65]، فلمّا أتمّ جوابهم عمّا قاطعوا به كلامه عاد إلى دعوته، فيكون رجوعًا إلى الدّعوى، ويجوز أن يكون عطفًا على قوله: {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم} أي: لا تنكروا أن جاءكم ذكر من ربّكم واذكروا نعمته عليكم، فيكون تكملة للاستدلال، وإيًّا مّا كان فالمآل واحد، وانتقل من أمرهم بالتّوحيد إلى تذكيرهم بنعمة الله عليهم التي لا ينكرون أنّها من نعم الله دون غيره، لأنّ الخلق والأمر لله لا لغيره.
تذكيرًا من شأنه إيصالهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة.
وإنّما أمرهم بالذّكر بضمّ الذّال لأنّ النّفس تنسى النّعم فتكفر المنعم، فإذا تذكّرت النّعمة رأتْ حقًا عليها أن تشكر المُنعم، ولذلك كانت مسألة شكر المنعم من أهمّ مسائل التّكليف، والاكتفاء بحسنه عقلًا عند المتّكلمين سواء منهم من اكتفى بالحس العقلي ومن لم يكتف به واعتَبر التوقّفَ على الخطاب الشّرعي.
و{إذْ} اسم زمان منصوب على المفعول به، وليس ظرفًا لعدم استقامة المعنى على الظرفية، والتّحقيق أن إذْ لا تلازم الظرفية بل هي ظرف متصرّف، وهو مختار صاحب الكشاف، والمعنى: اذكروا الوقت الذي ظهرت فيه خلافتكم عن قوم نوح في تعمير الأرض والهيمنة على الأمم، فإنّ عادا كانوا ذوي قوّة ونعمة عظيمة {وقالوا من أشَدّ منّا قوّة} [فصلت: 15].
فالخلفاء جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء، أي يتولى عمل ما كان يعمله الآخَر، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {إنّي جاعل في الأرض خليفة} في سورة البقرة (30)، فالمراد: جعلكم خلفاء في تعمير الأرض، ولما قال: {من بعد قوم نوح} عُلم أنّ المقصود أنّهم خلفاء قوم نوح، فعادٌ أوّل أمّة اضطلعت بالحضارة بعد الطّوفان، وكان بنو نوح قد تكاثروا وانتشروا في الأرض، في أرمينية والموصل والعراق وبلاد العرب، وكانوا أممًا كثيرة، أو كانت عاد عظم تلك الأمم وأصحاب السّيادة على سائر الأمم، وليس المراد أنّهم خلفوا قوم نوح في ديارهم لأنّ منازل عاد غيرُ منازل قوم نوح عند المُؤرّخين، وهذا التّذكير تصريح بالنّعمة، وتعريض بالنّذارة والوعيدِ بأنّ قوم نوح إنّما استأصلهم وأبَادَهم عذابٌ من الله على شركهم، فمن اتبعهم في صنعهم يوشك أن يحلّ به عذاب أيضًا.
و{الخلق} يحتمل أن يكون مصدرًا خالصًا، ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول، وهو يستعمل في المعنيين.
وقوله: {بصطة} ثبت في المصاحف بصاد قبل الطاء وهو مرادف بسطة الذي هو بسين قبل الطاء.
ووقع في آيات أخرى.
وأهمل الراغب {بصطة} الذي بالصاد.
وظاهر عبارة القرطبي أنه في هذه الآية بسين وليس كذلك.
والبصطة: الوفرة والسعة في أمر من الآمور.
فإن كان {الخلق} بمعنى المصدر فالبصطة الزّيادة في القُوى الجِبلية أي زادهم قوّة في عقولهم وأجسامهم فخلقهم عقلاء أصحاء، وقد اشتهر عند العرب نسبة العقول الرّاجحة إلى عاد، ونسبة كمال قوى الأجسام إليهم قال النّابغة:
أحلامُ عاد وأجسام مطهَّرة ** من المعقة والآفات والإثِم

وقال وَدّاك بنُ ثُمَيْل المازتي في الحماسة:
وأحلام عادٍ لا يخاف جليسهم ** ولو نَطَقَ العُوّار غَرْبَ لِسان

وقال قيس بن عُبادة:
وأنْ لا يَقولوا غاب قيس وهذه ** سراويل عادّي نمته ثَمُود

وعلى هذه الوجه يكون قوله: {في الخلق} متعلّقًا بـ {بصطة}، وإن كان الخلق بمعنى النّاس فالمعنى: وزادكم بصطة في النّاس بأن جعلكم أفضل منهم فيما تتفاضل به الأمم من الأمور كلّها، فيشمل رجحان العقول وقوّة الأجسام وسلامتها من العاهات والآفات وقوّة البأس، وقَد نُسبت الدّروع إلى عاد فيقال لها: العاديّة، وكذلك السّيوف العاديّة، وقد قال الله تعالى حكاية عنهم: {وقالوا مَن أشد منّا قوّة} [فصلت: 15] وحكَى عن هود أنّه قال لهم: {وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبّارين فاتّقوا الله وأطيعون واتّقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمَدّكم بأنعام وبنين وجنّاتٍ وعيون} [الشعراء: 129 134] وعلى هذا الوجه يكون قوله: {في الخلق} ظرفًا مستقرًا في موضع الحال من ضمير المخاطبين.
والفاء في قوله: {فاذكروا آلاء الله} فصيحة، أي: إن ذكرتم وقت جَعَلَكَم اللَّهُ خلفاء في الأرض ووقتَ زادكم بصطة فاذكروا نعمه الكثيرة تفصيلًا، فالكلام جاء على طريقه القيَاس من الاستدلال بالجزئي على إثبات حكم كلي، فإنّه ذكرهم بنعمة واضحة وهي كونهم خلفاءَ ونِعَممٍ مُجملة وهي زيادة بصطتهم، ثمّ ذكَّرهم بقية النّعم بلفظ العموم وهو الجمع المضاف.
والآلاء جمع إلى، والإلَى: النّعمة، وهذا مثل جمع عِنَب على أعْنَاب، ونظيره جمع إنى بالنّون، وهو الوقت، على آناء قال تعالى: {غير ناظرين إناهُ} [الأحزاب: 53] أي وقته، وقال: {ومن آناء اللّيل فسبِّح} [طه: 130].
ورتب على ذكر نعم الله رجاء أن يفلحوا لأنّ ذكر النّعم يؤدّي إلى تكرير شكر المنعم، فيحمِل المنعم عليه على مقابلة النّعم بالطّاعة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}.
جاء الحق هنا بالذكر للإِنذار فقال: {لِيُنذِرَكُمْ} فقط، وليس كما قال في قوم نوح: {وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأن الإِنذار لم يأت لمجرد الإِنذار، بل لنرتدع ونتقي، لِكي نُرحم، إذن فحين يأتي بأول الحلقة وأول الخيط وهو الإِنذار فنحن نستنتج الباقي وهو التقوى لنصل إلى الرحمة: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}.
وهذا كلام جديد؛ لأن قوم نوح هم أول قوم عُذّبوا حين لم يؤمنوا، وجاء سيدنا هود إلى عاد بعد ذلك، يبلّغهم وينذرهم ليأخذوا العبرة من نوح وقومه: {... واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فاذكروا آلاءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69].
ويذكرهم سيدنا هود أن الحق قد أعطى لهم أجسامًا فارعة فيها بسطة وطول، ويقال: إن الطويل منهم كان يبلغ طوله مائة ذراع، والقصير منهم كان يبلغ طوله ستين ذراعًا، ويأمرهم سيدنا هود أن يذكروا آلاء الله، أي نعمه عليهم، وأول النعم أن أرسل إليهم رسولًا يأخذ بأيديهم إلى مناطق الخير. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {إذْ جَعَلَكُمْ} في {إذْ} وجهان:
أحدهما: أنَّه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمنتهُ الآلاء من معنى الفعلِ، كأنه قيل: واذكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عليكم في هذا الوَقْتِ، ومفعول {اذْكُرَوا} محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك: {فاذكروا آلاءَ الله}، ولأن قوله: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ}، وزادكم كذا هو نفس الآلاء وهذا ظاهر قول الحُوفِي.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: {إذْ} مفعول {اذْكُرُوا} أي: اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسيمة، وتقدَّم الكلامُ في الخلفاء والخلائف والخليف.
قوله: {فِي الخَلْقِ} يحتملُ أن يراد به المصدر بمعنى في امتداد قامتكم وحسن صوركم، وعظم أجْسَامِكُمْ، ويحتمل أنْ يراد به معنى المفعول به، أي: في المَخْلُوقين بمعنى زادكم في النَّاسِ مثلكم بسطة عليهم، فإنَّهُ لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام.
قال الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ: كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستُّون ذراعًا.
وتقدم الكلامُ على {بسطة} في البقرة.
قوله: {فاذكروا آلاءَ الله}، أي: نعمه، وهو جمع مفرده إلْي بكسر الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ؛ كحِملْل وأحْمَالِ، أو ألْيٌ بضمِّ الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ: كقُفْل، وأقْفَالٍ، أو إلى بكسر الهمزة، وفتح اللام؛ كضِلَع وأضلاع، وعِنَب وأعْنَاب، أو ألَى بفتحهملا كقَفَا وأقْفَاء؛ قال العْشضى: [المنسرح]
أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ ** يَقْطَعُ رِحْمًا ولا يَخُونُ ألَى

يُنشد بكسر الهمزة، وهو المشهورُ، وبفتحها؛ ومثلها الآنَاء جمع إِنْي أو أُنْي أو إِنّى أو أَنّى.
وقال الأخفش: إنْوٌ.
والآناء الأوقات كقوله: {وَمِنْ آنَاءِ الليل} [طه: 130]، وسيأتي.
ثم قال: {لعلَّكُم تُفْلِحُونَ} فلابد هاهنا من إضمار؛ لأنَّ الصَّلأاح الذي هو الظَّفر بالثَّواب لا يحصل بمجرد التذكر، بل لابد من العمل، والتقدير: فاذكروا آلاء اللَّهِ واعملوا عملًا يليق بذلك الإنعام لعلّكم تفلحون. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآيات:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لِنَرَاكَ في سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنَّكَ مِنَ الكّاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالِمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ}.
أخبر أنهم سلكوا طريق أسلافهم وإخوانهم، فوقعوا في وهدتهم، ومُنُوا بمثل حالتهم فلا خيرَ فيمن آثر هواه على رضاءِ الله، ولا رَبحَ مَنْ قَدَّم هواه على حقِّ الله.
قوله جلّ ذكره: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}.
جعل الله الخلقَ بعضهم خَلَفًا عن بعض، فلا يُفْنِي فوجًا منهم من جنسٍ إلا أقام فوجًا منهم مِنْ ذلك الجنس. فأهل الغفلة إذا انقرضوا خَلَفَ عنهم قوم، وأهل الوصلة إذا درجوا خلف عنهم قوم، ولا ينبغي للعبد أن يسمو طَرْفُ تأميله إلى الأكابر فإن ذلك المقام مشغول بأهله، فما لم تنتهِ نوبةُ أولئك لا تنتهي النوبة إلى هؤلاء.
قوله جلّ ذكره: {وَزَادَكُمْ في الخَلْقِ بَصْطَةً}.
كما زاد قومًا على من تقدمهم في بسطة الخَلْقِ زاد قومًا على من تقدمهم في بسطة الخُلُق، وكما أوقع التفاوتَ بين شخصٍ وشخص فيما يعود إلى المباني أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني.
قوله جلّ ذكره: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
النَّعماء عام، والآلاء خاص، فتلك تتضمن ترويح الظواهر، وهذه تتضمن التلويح في السرائر، تلك بالترويح بوجود المبار، وهذه بالتلويح بشهود الأسرار. اهـ.

.تفسير الآية رقم (70):

قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا منه موجبًا ولابد لكل سامع منصف من المبادرة إلى الإذعان لهذه الحجة القطعية، وهي استحقاقه للإفراد بالعبادة للتفرد بالإنعام، ازداد تشوف المخاطب إلى جوابهم، فأجيب بقوله: {قالوا} منكرين عليه معتمدين على محض التقليد {أجئتنا} أي من عند من ادعيت أنك رسوله {لنعبد الله} أي الملك الأعظم {وحده} ولما كان هذا منهم في غاية العجب المستحق للإنكار، أتبعوه ماهو كالعلة لإنكارهم عليه ما دعاهم إليه فقالوا: {ونذر} أي نترك على غير صفة حسنة {ما كان يعبد آباؤنا} أي مواظبين على عبادته بما دلوا عليه ب كان وصيغة المضارع- مع الإشارة بها إلى تصوير آبائهم في حالهم ذلك- ليحسن في زعمهم إنكار مخالفتهم لهم.
ولما كان معنى هذا الإنكار أنا لا نعطيك، وكان قد لوح لهم بالتذكر بقوم نوح وقوله: {أفلا تتقون} إلى الأخذ إن أصروا، سببوا عن ذلك قولهم: {فأتنا} أي عاجلًا {بما تعدنا} أي من العذاب بما لوح إليه إيماؤهم إلى التكذيب بقولهم: {إن كنت من الصادقين} وتسميتهم للانذار بالعذاب وعدًا من باب الاستهزاء. اهـ.