فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ}.
الفاء للتّعقيب: أي فعجّل الله استيصال عاد ونجَّى هودًا والذين معه أي المؤمنين من قومه، فالمعقّب به هو قطع دابر عاد، وكان مقتضى الظّاهر أن يكون النّظم هكذا: فقطعْنا دابر الذين كذّبوا إلخ ونجينا هودًا إلخ، ولكن جرى النّظم على خلاف مقتضى الظّاهر للاهتمام بتعجيل الإخبار بنجاة هود ومن آمَن معه، على نحو ما قرّرتُه في قوله تعالى: {فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا} [الأعراف: 64] في قصّة نوح المتقدّمة، وكذلك القول في تعريف الموصوليّة في قوله: {والذين معه}.
والّذين معه هم من آمن به من قومه، فالمعيّة هي المصاحبة في الدّين، وهي معيّة مجازيّة، قيل إنّ الله تعالى أمر هودًا ومن معه بالهجرة إلى مكّة قبل أن يحلّ العذاب بعادٍ، وإنّه توفي هنالك ودفن في الحِجْر ولا أحسب هذا ثابتًا لأنّ مكّة إنّما بناها إبراهيم وظاهر القرآن في سورة هود أنّ بين عاد وإبراهيم زمنًا طويلًا لأنّه حكى عن شعيب قولَه لقومه: {أنْ يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قومُ لوط منكم ببعيد} [هود: 89] فهو ظاهر في أنّ عادًا وثمودًا كانوا بعيدين من زمن شعيب وأنّ قوم لوط غير بعيدين، والبعد مراد به بعد الزّمان، لأنّ أمكنة الجميع متقاربة، وكان لوط في زمن إبراهيم فالأولى أن لا نعين كيفية إنجاء هود ومن معه.
والأظهر أنّها بالأمر بالهجرة إلى مكان بعيد عن العذاب، وروي عن عليّ أنّ قَبْر هود بحضر موت وهذا أقرب.
وقوله: {برحمة منا} الباء فيه للسّببيّة، وتنكير {رحمة} للتّعظيم، وكذلك وصفها بأنّها من الله للدّلالة على كمالها، ومن للابتداء، ويجوز أن تكون الباءُ للمصاحبة، أي: فأنجيناه ورحمناه، فكانت الرّحمَة مصاحبة لهم إذ كانوا بمحلّ اللّطف والرّفق حيثما حَلّوا إلى انقضاء آجالهم، وموقع مِنَّا على هذا الوجه موقع رشيق جدّا يؤذن بأن الرّحمة غير منقطعة عنهم كقوله: {فإنّك بأعيننا} [الطور: 48].
وتفسير قوله: {وقطعنا دابر الذين كذبوا} نظير قوله تعالى: {فقُطع دابر القوم الذين ظلموا} في سورة الأنعام (45)، وقد أرسل عليهم الرّيح الدّبُور فأفناهم جميعًا ولم يبق منهم أحد.
والظّاهر أنّ الذين أنجاهم الله منهم لم يكن لهم نسل.
وأمّا الآية فلا تقتضي إلاّ انقراض نسل الذين كذّبوا ونزل بهم العذاب والتّعريف بطريق الموصوليه تقدّم في قوله: {وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا} [الأعراف: 64] في قصّة نوح آنفًا، فهو للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قطع دابرهم.
{وما كانوا مؤمنين} عطف على {كذّبوا} فهو من الصّلة، وفائدة عطفه الإشارة إلى أن كلتا الصّلتين موجب لقطع دابرهم: وهما التّكذيب والإشراك، تعريضًا بمشركي قريش، ولِموعظتهم ذكرت هذه القصص.
وقد كان ما حَلّ بعاد من الاستيصال تطهيرًا أوّل لبلاد العرب من الشّرك، وقطعًا لدابر الضّلال منها في أوّل عصور عمرانها، أعدادًا لما أراد الله تعالى من انبثاق نور الدّعوة المحمّديّة فيها. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}.
ونلحظ أن الحق قد بين وسيلة نجاة سيدنا نوح: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}.
أما هنا في مسألة عاد فلم يوضح لنا وسيلة النجاة، بل قال سبحانه: {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
وقوله: {فَأَنجَيْنَاهُ} تدل على أن عذابًا عامًا وقع، إلا أن ربنا أوحى لسيدنا هود أن يذهب بعيدًا عن المكان هو والذين معه قبل أن يقع هذا العذاب. وكان العرب قديمًا إذا حزبهم أمر، أو دعتهم ضرورة إلى شيء خرج عن أسبابهم يذهبون إلى بيت الله؛ ليضرعوا إلى الله أن يخلصهم منه، حتى الكفرة منهم كانوا يفعلون ذلك. كما حدث من عاد حين أرسل الله إليهم سيدنا هودا نبيًّا فكذبوه وازدادوا عتوًّا وتجبرًا فأصابهم جدب وظل ثلاث سنوات فما كان منهم ألا أن فزعوا إلى الكعبة لكي يدعوا ربهم أن يخفف عنهم العذاب، وذهب واحد منهم اسمه قيل بن عنز، وآخر اسمه مرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه على رأس جماعة منهم إلى مكة، وكان لهم بها أخوال من المعاليق؛ من أولاد عمليق بن لاوث بن سام بن نوح، وكانوا هم الذين يحكمون مكة في هذا الوقت، وعلى رأسهم واحد اسمه معاوية بن بكر، فنزلوا عنده، وأكرم وفادتهم على طريقة العرب، واستضافهم ضيافة ملوك وأمراء، وجاء لهم بالقيان والأكل والشراب، فاستمرأوا الأمر، وظلوا شهرًا، فقال معاوية بن بكر: لقد جاءوا لينقذوا قومهم من الجدب وما فكروا أن يذهبوا إلى الكعبة، ولا فكروا في أن يدعوا ربنا وأخاف أن أقول لهم ذلك فيقولوا إنه ضاق بنا. وتكون سبّة فيّ. وأخذ يفكر في الأمر. وكان عنده مغنيتان اسمهما الجرادتان. فقالت المغنيتان: قل في ذلك شعرًا، ونحن نغنيه لهم، فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ** لعل الله يمطرنا غمامًا

فيسقى أرض عاد إن عادا ** قد أمسوا لا يبينون الكلاما

فلما غنتا، والغناء فيه ترديد وخصوصًا إذا كان غناءً موجهًا
ألا يا قيل ويحك قم فهينم

وهينم: أي ادعوا الله، ألم تحضر من أجل الدعاء لعل الله يمطرنا الغمام على أرض عاد، وينتهي الجدب، وقد بلغ منهم الجهد أنهم لا يبينون الكلام، فتنبه القيل، وتنبه مرثد بن سعد، وكان قد نمى إلى علم القيل أن مرثد بن سعد مؤمن بهود عليه السلام، فرفض أن يصحبه معه، وبالفعل ذهب قيل وأخذ يدعو الله، فسمع هاتفًا يقول له: اختر قومك وقد رأى سحابة سوداء وسحابة حمراء وسحابة بيضاء، ونبهه الهاتف أن يختار سحابة تذهب لقومه من بين الثلاثة، فاختار السحابة السوداء، لأنها أكثر السحاب ماء، وهو على قدر اجتهاده اختار السحابة السوداء، وعادوا لبلادهم ليجدوا السحابة السوداء فقال لهم: أنا اخترت السحابة لأنها توحى بماء كثير منهمر، وقال الحق في هذا الأمر: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا...} [الأحقاف: 24].
أي أن هذه هي السحابة التي قال عليها: قيل سوف تعطينا المطر.
فيرد الحق عليهم ويقول لهم: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ...} [الأحقاف: 24- 25].
إذن فقولهم السابق لسيدنا هود الذي أورده الحق هنا في سورة الأعراف: {... فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70].
أي أن عذابهم يتأكد بالمطر والريح الذي جاء به قول سيدنا هود هنا في سورة الأعراف: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}.
ولم يفلت من العذاب إلا من آمن مصداقًا لقوله الحق: {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
لقد يسّر الحق الانقاذ لسيدنا هود ومن آمن معه ليهجروا المكان لحظة ظهور السحاب، فقد سمع هود هاتفًا يؤكد له أن في هذا السحاب العذاب الشديد، فأخذ الجماعة الذين آمنوا معه وهرب إلى مكة، وتم إهلاك الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسولهم ورفضهم الإِيمان بربهم. اهـ.