فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
ومراجعة الذين استكبروا بقولهم: {إنا بالذي آمنتم به كافرون} تدلّ على تصلّبهم في كفرهم وثباتهم فيه، إذ صيغ كلامهم بالجملة الاسميّة المؤكَّدة.
والموصول في قولهم: {بالذي آمنتم به} هو ما أرسل به صالح عليه السّلام.
وهذا كلام جامع لرد ما جَمعه كلام المستضعفين حين {قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون} فهو من بلاغة القرآن في حكاية كلامهم وليس من بلاغة كلامهم.
ثمّ إنّ تقديم المجرورين في قوله: {بما أرسل به} و{بالذي آمنتم به} على عامليهما يجوز أن يكون من نظم حكاية كلامهم وليس له معادل في كلامهم المحكي، وإنّما هو لتتقوّم الفاصلتان، ويجوز أن يكون من المحكي: بأن يكون في كلامهم ما دلّ على الاهتمام بمدلول الموصولين، فجاء في نظم الآية مدلولًا عليه بتقديم المعمولين.
وقرأ الجمهور: {قال الملأ} بدون عطف جريًا على طريقة أمثاله في حكاية المحاورات.
وقرأه ابن عامر: {وقال} بحرف العطف وثبتت الواو في المصحف المبعوث إلى الشام خلافًا لطريقة نظائرها، وهو عطف على كلام مقدّر دلّ عليه قوله: {قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون} والتّقدير: فآمن به بعض قومه، وقال الملأ من قومه إلخ، أو هو عطف على: {قال يا قوم اعبدوا الله} [الأعراف: 73] الآية، ومخالفةُ نظائره تفنّن. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)}.
إذن فقد أعلنوا الكفر بالقول وضموا إليه العمل وهو قتل الناقة، ويقول الحق: {فَعَقَرُواْ الناقة وَعَتَوْاْ...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {قَالَ الذين} ما موصولة، ولا يجوزُ هنا حذف العائد وإن اتحد الجار للموصول وعائده؛ لاختلاف العامل في الجارين وكذلك قوله: {بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (77):

قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم سبب عن قولهم قوله: {فعقروا الناقة} أي التي جعلها الله لهم آية، وعبر بالعقر دون النحر لشموله كل سبب لقتلها لأن ابن إسحاق ذكر أنه اجتمع لها ناس منهم فرماها أحدهم بسهم وضرب آخر قوائمها بالسيف ونحرها آخر فأطلق اسم السبب على المسبب، ولكن قوله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر} [القمر: 29] وقوله: {إذا انبعث أشقاها} [الشمس: 91] وقوله صلى الله عليه وسلم: «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه» قالوا: هو قدار بن سالف، جعلت له امرأة من قومه ابنتها إن عقرها، ففعل فكان أشقى الأولين، وأشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، جعلت له قطام امرأة من بني عجل جميلة نفسها إن قتله، فالمناسبة بينهما أن كلًا منهما ألقى نفسه في المعصية العظمى لأجل شهوة فرجه في زواج امرأة، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أشقى الأولين عاقر الناقة» يدل على أن عاقرها رجل واحد، وحينئذ يكون المراد به قطع القوائم، فحيث جمع أراد الحقيقة والمجاز معًا، وحيث أفراد أراد الحقيقة فقط، فالتعبير به لأنه الأصل والسبب الأعظم في ذبح الإبل؛ قال البغوي: قال الأزهري: العقر هو قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقرًا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره- انتهى.
وكأن هذا إشارة إلى أن المراد بالعقر في كلامه النحر، ولا ريب في أن أصل العقر في اللغة القطع، ومادته تدور على ذلك، عقر النخلة.
إذا قطع رأسها فيبست، والفرس: ضرب قوائمها بالسيف وأكثر ما يستعمل العقر في الفساد، وأما النحر فيستعمل غالبًا في الانتفاع بالمنحور لحمًا وجلدًا وغيرهما، فلعل التعبير به دون النحر إشارة إلى أنهم لم يقصدوا بنحرها إلا إهلاكها عتوًا على الله وعنادًا وفعلًا للسوء مخالفة لنهي صالح عليه السلام، ولا يشكل ذلك بما ورد من أنهم اقتسموا لحمها، لأنه لم يدع أن العقر يلزمه عدم الانتفاع بالمنحور، وعلى التنزل فهم لم يريدوا بذلك الانتفاع باللحم، وإنما قصدوا- حيث لم يمكنهم المشاركة جميعًا في العقر- ان يشتركوا فيما نشأ عنه تعريضًا برضاهم به ومشاركتهم فيه بما يمكنهم {وعتوا} أي تجاوزوا الحد في الغلطة والتكبر {عن أمر} أي امتثال أمر {ربهم} أي المحسن إليهم الذي أتاهم على لسان رسوله من تركها {وقالوا} زيادة في العتو {يا صالح ائتنا}.
ولما نزلوا وعيدهم له- حيث لم يؤمنوا به- منزلة الوعد والبشارة، قالوا: {بما تعدنا} استخفافًا منهم ومبالغة في التكذيب، كأنهم يقولون: نحن على القطع بأنك لا تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك، وإن كنت صادقًا فافعل ولا تؤخره رفقًا بنا وشفقة علينا، فإنا لا نتأذى بذلك، بل نتلذذ من يلقى الوعد الحسن، وحاصله التهكم منهم به والإشارة إلى عدم قدرته؛ وأكدوا ذلك بقولهم بأداة الشك: {إن كنت من المرسلين} أي الذين سمعنا أخبارهم فيما مضى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {فعقروا الناقة} قال الأزهري: العقر عند العرب، كشف عرقوب البعير، ولما كان العقر سببًا للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقًا لاسم السبب على المسبب.
واعلم أنه أسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة العظيمة: أنتم فعلتم كذا مع أنه ما فعله إلا واحد منهم.
ثم قال: {وعتوا عن أمر ربهم} يقال: عتا يعتو عتوًا، إذا استكبر.
ومنه يقال: جبار عات قال مجاهد: العتو الغلو في الباطل وفي قوله: {عن أمر ربهم} وجهان:
الأول: معناه استكبروا عن امتثال أمر ربهم وذلك الأمر هو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح عليه السلام وهو قوله: {فذروها تأكل في أرض الله} [الأعراف: 73] الثاني: أن يكون المعنى وصدر عتوهم عن أمر ربهم، فكان أمر ربهم بتركها صار سببًا في إقدامهم على ذلك العتو، كما يقال: الممنوع متبوع {وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} وإنما قالوا ذلك، لأنهم كانوا مكذبين له في كل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي: عصوا وتركوا أمر ربهم وأبوا عن طاعته.
ثم التوحيد ويقال: فيه تقديم.
ومعناه عتَوا عن أمر ربهم وعقروا الناقة.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إنهم عقروا الناقة ليلة الأربعاء في عشية الثلاثاء فأهلكهم الله في يوم السبت.
{وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي: بما تخوفنا به من العذاب {إنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} يعني: إن كنت رسول رب العالمين. اهـ.

.قال الثعلبي:

{فَعَقَرُواْ الناقة} نحروها {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَا} يعني العذاب {إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} أي من الصادقين. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {فعقروا} يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة كان على تمالؤ منهم وإصفاق وكذلك: روي أن قدارًا لم يعقرها حتى كان يستشير الرجال والنساء والصبيان، فلما أجمعوا تعاطى فعقر، {وعتوا} معناه خشوا وصلبوا ولم يذعنوا للأمر والشرع وصمموا على تكذيبه واستعجلوا النقمة بقولهم: {ائتنا بما تعدنا} وحسن الوعد في هذا الموضع لما تقيد بأنه عذاب، قال أبو حاتم قرأ عيسى وعاصم أُيتنا بهمز وإشباع ضم، وقرأ تخفيف الهمزة كأنها ياء في اللفظ أبو عمر والأعمش. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فعقروا الناقة} أي: قتلوها.
قال ابن قتيبة: والعقر يكون بمعنى: القتل، ومنه قوله عليه السلام عند ذكر الشهداء: «من عقر جواده» وقال ابن إسحاق: كَمَن لها قاتلها في أصل شجرة فرماها بسهم، فانتظم به عَضَلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكسر عُرقوبها، ثم نحرها.
قال الازهري: العقر عند العرب: قطع عرقوب البعير، ثم جعل العقر نحرًا، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره.
قوله تعالى: {وعَتوا} قال الزجاج: جاوزوا المقدار في الكفر.
قال أبو سليمان: عتوا عن اتِّباع أمر ربهم.
قوله تعالى: {بما تعدنا} أي: من العذاب. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَعَقَرُواْ الناقة} العَقْر الجرح.
وقيل: قطع عضو يؤثّر في النفس.
وعقرت الفرس: إذا ضربت قوائمه بالسيف.
وخيل عَقْرَى.
وعقرت ظهر الدابة: إذا أدْبَرْته.
قال امرؤ القيس:
تقولُ وقدْ مالَ الغَبِيطُ بنا معًا ** عَقَرْتَ بعِيري يا امرأ القيس فانزل

أي جَرَحتَه وأدْبَرتَه.
قال القشيريّ: العقر كشف عُرقوب البعير؛ ثم قيل للنحر عَقر؛ لأن العقر سبب النحر في الغالب.
وقد اختلف في عاقر الناقة على أقوال.
أصحّها ما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن زَمْعَة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: «إذ انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عَارِم مَنِيع في رَهْطِه مثل أبي زَمْعَة». وذكر الحديث.
وقيل في اسمه: قُدار بن سالف.
وقيل: إن ملكهم كان إلى امرأة يقال لها ملكى، فحسدت صالحًا لمّا مال إليه الناس، وقالت لامرأتين كان لهما خليلان يعشقانِهما: لا تطيعاهما واسألاهما عقر الناقة؛ ففعلتا.
وخرج الرجلان وألجآ الناقة إلى مَضِيق ورماها أحدهما بسهم وقتلاها.
وجاء السَّقْبُ وهو ولدها إلى الصخرة التي خرجت الناقة منها فَرَغَا ثلاثًا وانفجرت الصخرة فدخل فيها.
ويقال: إنه الدّابة التي تخرج في آخر الزمان على الناس؛ على ما يأتي بيانه في النمل.
وقال ابن إسحاق: أتْبع السّقْبَ أربعةُ نفر ممن كان عقر الناقة، مِصْدَع وأخوه ذُؤَاب.
فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه، ثم جرّه برجله فألحقه بأمّه، وأكلوه معها.
والأوّل أصح؛ فإن صالحًا قال لهم: إنه بَقِي من عمركم ثلاثة أيام، ولهذا رَغَا ثلاثًا.
وقيل: عقرها عاقرها ومعه ثمانية رجال، وهم الذين قال الله فيهم: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] على ما يأتي بيانه في النمل.
وهو معنى قوله: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [القمر: 29].
وكانوا يشربون فأعوزهم الماء ليمزجوا شرابهم، وكان يوم لبن الناقة، فقام أحدهم وترصد الناس وقال: لأرِيحَنّ الناس منها؛ فعقرها.
قوله تعالى: {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي استكبروا.
عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا أي استكبر.
وتَعَتَّى فلان إذا لم يُطِع.
والليل العاتِي: الشديد الظلمة؛ عن الخليل.
{وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَا} أي من العذاب. اهـ.