فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلما قال لهم صالح: أبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا له وهم يهزءون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟- وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد أول، والاثنين أهون، والثلاثاء وبار، والأربعاء جبار، والخميس مؤمن، والجمعة العروبة، والسبت شيار، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء- فقال لهم صالح حين قالوا له ذلك: تصبحون غداة يوم مؤمن، يعني يوم الخميس، ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة، يعني يوم الجمعة ووجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم شيار، يعني يوم السبت، وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول، يعني يوم الأحد.
فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحًا، إن كان صادقًا عجلناه، قبلنا، وإن كان كاذبًا يكون قد ألحقناه بناقته.
فأتوه ليلًا ليبيّتوه في أهله، فدمغتم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدهم مشدخين قد رُضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم! ثم هموا به. فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدًا، فقد وعدكم أن العذاب نازل لكم في ثلاث، فإن كان صادقًا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا، إن كان كاذبًا فأنتم من وراء ما تريدون!
فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك، والنفر الذين رضخهم الملائكة بالحجارة، التسعة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} إلى قوله: {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح، وجوههم مصفرة، فأيقنوا بالعذاب، وعرفوا أن صالحًا قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح هاربًا منهم حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم، فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل يكنى بأبي هدب، وهو مشرك، فغيبه، فلم يقدروا عليه.
فغدوا على أصحاب صالح فعذبوهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم: يا نبي الله، إنهم يعذبوننا لندلهم عليك، أفندلهم عليك؟ قال: نعم، فدلهم عليه ميدع بن هرم.
فلما علموا بمكان صالح، أتوا أبا هدب فكلموه فقال لهم: عندي صالح وليس لكم إليه سبيل، فأعرضوا عنه وتركوه، وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه.
فجعل بعضهم يخبر بعضًا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام، فنزل رملة فلسطين، وتخلف رجل من أصحابه يقال له ميدع بن هرم فنزل قُرح- وهي وادي القرى، وبين القُرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلًا- فنزل على سيدهم رجل يقال له عَمْرو بن غنم، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يشرك في قتلها.
فقال له ميدع بن هرم: يا عَمْرو بن غنم، أخرج من هذا البلد، فإن صالحًا قال: من أقام فيه هلك، ومن خرج منه نجا.
فقال عَمْرو: ما شركت في عقرها، وما رضيت ما صُنع بها.
فلما كانت صبيحة الأحد، أخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك، إلا جارية مُقعدة يقال لها الزُّريعة وهي الكلبة ابنة السلق، كانت كافرة شديدة العداوة لصالح، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذاب أجمع، فخرجت كأسرع ما يُرى شيء قط، حتى أتت أهل قُرح فأخبرتهم بما عاينت من العذاب وما أصاب ثمود منه، ثم استسقت من الماء فسُقيت، فلما شربت ماتت.
الثاني: قال الرازي: زعم بعض الملحدين أن ألفاظ التنزيل في حكاية هذه الواقعة اختلفت، وهي الرجفة والطاغية والصيحة.
والجواب ما قاله أبو مسلم: إن الطاغية إسم لكل ما تجاوز حده، سواء كان حيوانًا أو غير حيوان، وألحق الهاء به للمبالغة، فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت. وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}. ويقال طغى طغيانًا، وهو طاغ وطاغية، وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ}، أي: غلب وتجاوز عن الحد.
وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق إسم الطاغية عليها، وأما الصيحة، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة.
وأما الصاعقة، فالغالب أنها الزلزلة، وكذلك الزجرة، قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}. فبطل ما زعمه ذلك البعض.
الثالث: قال علماء التفسير: ولم يبق من ذرية ثمود أحد سوى صالح عليه السلام، ومن تبعه رضي الله عنهم، إلا أن رجلًا يقال له أبو رغال، كان لما وقعت النقمة بقومه، مقيمًا إذ ذاك في الحرم، فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل، جاءه حجر من السماء فقتله.
روى الإمام أحمد عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت- يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يومًا ويشربون لبنها يومًا فعقروها، فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلًا واحدًا كان في حرم الله فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال أبو رغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه».
قال ابن كثير: وهذا الحديث ليس في شي من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم.
وروى عبد الرزاق عن معمر: أخبرني إسماعيل بن أمية، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: «أتدرون من هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب»، فنزل القوم، فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن.
وأبو رغال هو أبو ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف، كما روي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم- أخرجه أبو داود وغيره.
الرابع: ذكرنا قبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك، سنة تسع، وأمر أصحابه أن يدخلوا خاشعين وجلين أن يصيبهم ما أصاب أهلها، ونهاهم أن يشربوا من مائها.
فروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عُذبوا، وقال: «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم».
وروى أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: «ا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم». ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي.
وللبخاري، أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها. فقالوا قد عجنا منها، واستقينا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء.
الخامس: قال ابن كثير: ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكة، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا زَمْعَة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسفان حين حج قال: «يا أبا بكر! أي: واد هذا؟»، قال: هذا وادي عُسفان. قال: «لقد مر به هود وصالح على بكرات حُمر خُطُمها الليف، أُزُرهم العباء، وأرديتهم النِّمَار، يُلبُّونَ، يحجون البيت العتيق».
قال ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد منهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}.
والفاء في قوله: {فتولى عنهم} عاطفة على جملة: {فعقروا الناقة} [الأعراف: 77] والتّولي الانصراف عن فراق وغضب، ويطلق مجازًا على عدم الاكتراث بالشّيء، وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنّه فارقَ ديار قومه حين علم أنّ العذاب نازل بهم، فيكون التّعقيب لقوله: {فعقروا الناقة} [الأعراف: 77] لأن ظاهر تعقيب التّوليَ عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرّجفة وأصبحوا جاثمين.
ويحتمل أن يكون مجازًا بقرينة الخطاب أيضًا، أي فأعرض عن النّظر إلى القرية بعد اصابتها بالصّاعقة، أو فأعرض عن الحَزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى: {لعلّك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3].
فعلى الوجه الأول يكون قوله: {يا قوممِ لقد أبلغتكم} إلخ مستعملًا في التّوبيخ لهم والتّسجيل عليهم، وعلى الوجه الثّاني يكون مستعملًا في التحَسر أو في التّبرىء منهم، فيكون النّداء تَحسر فلا يقتضي كونَ أصحاب الاسم المنادَى ممّن يعقل النّداء حينئذ، مثل ما تنادَى الحسرة في: يا حسرة.
وقوله: {لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم} تفسيره مثل تفسير قوله في قصّة نوح عليه السّلام: {أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم} [الأعراف: 62] واللاّم في {لقد} لام القسم، وتقدّم نظيره عند قوله: {لقد أرسلنا نوحًا} [الأعراف: 59].
والاستدراك بلكن ناشئ عن قوله: {لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحتُ لكم} لأنّه مستعمل في التّبرُّؤ من التقصير في معالجة كفرهم، سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه، فذلك التّبرُّؤُ يؤذن بدفع توهّم تقصير في الإبلاغ والنّصيحة لإنعدام ظهور فائدة الابلاغ والنّصيحة، فاستدرك بقوله: {ولكن لا تحبّون النّاصحين}، أي تكرهون النّاصحين فلا تطيعونهم في نصحهم، لأنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع، فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النّصيحة.
واستعمال المضارع في قوله: {لا تحبّون} إن كان في حال سماعهم قولَه فهو للدّلالة على التّجديد والتّكرير، أي لم يزل هذا دأبَكم فيكون ذلك آخر علاج لإقلاعهم إن كانت فيهم بقيّه للإقلاع عمّا هم فيه، وإن كان بعد انقضاء سماعهم فالمضارع لحكاية الحال الماضية مثلها في قوله تعالى: {والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحابًا} [فاطر: 9]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}.
فهل كان سيدنا صالح يخاطبهم وهم موتى؟. نعم يخاطبهم إنصافًا لنفسه وإبراء لذمته، مثلما يقع واحد في ورطة فيقول له صديقه: لا أملك لك شيئًا الآن: فقد نصحتك من قبل. أو أن شريرًا قد قتل، فتقول له: ياما نصحتك. وأنت تتكلم لكي تعطي لنفسك براءة العذر، «أو كما فعل صلى الله عليه وسلم مع قتلى بدر وناداهم واحدًا واحدًا بعد أن ألقوا جثثهم في قليب بدر، وقال صلى الله عليه وسلم: يا أهل القليب، يا فلان، يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا، فقال الصحابة: أو تكلمهم يا رسول الله وقد جيَّفوا. قال: والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».
وكأن سيدنا صالح قال ذلك ليتذكروا كيف أبلغهم رسالات الله ومنهجه ونصح لهم وتحنن عليهم أن يلتزموا بمنهج الله، لكنهم لم يستمعوا للنصح. ولم يحبوا الناصحين؛ لأن الناصح يريد أن يُخرج المنصوح عما ألفه من الشر، وعندما ينصحه أحد يغضب عليه. اهـ.