فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولكن الضعاف لم يعودوا ضعافًا! لقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم، والثقة في نفوسهم، والاطمئنان في منطقهم.. إنهم على يقين من أمرهم، فماذا يجدي التهديد والتخويف؟ وماذا تجدي السخرية والاستنكار.. من الملأ المستكبرين؟:
{قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون}.
ومن ثم يعلن الملأ عن موقفهم في صراحة تحمل طابع التهديد:
{إنا بالذي آمنتم به كافرون}..
على الرغم من البينة التي جاءهم بها صالح. والتي لا تدع ريبة لمستريب.. إنه ليست البينة هي التي تنقص الملأ للتصديق.. إنه السلطان المهدد بالدينونة للرب الواحد.. إنها عقدة الحاكمية والسلطان، إنها شهوة الملك العميقة في الإنسان! إنه الشيطان الذي يقود الضالين من هذا الخطام!
وأتبعوا القول بالعمل، فاعتدوا على ناقة الله التي جاءتهم آية من عنده على صدق نبيه في دعواه؛ والتي حذرهم نبيهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم:
{فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين}..
إنه التبجح الذي يصاحب المعصية. ويعبر عن عصيانهم بقوله: {عتوا} لإبراز سمة التبجح فيها، وليصور الشعور النفسي المصاحب لها. والذي يعبر عنه كذلك ذلك التحدي باستعجال العذاب والاستهتار بالنذير:
ولا يستأني السياق في إعلان الخاتمة، ولا يفصل كذلك: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين}..
والرجفة والجثوم، جزاء مقابل للعتو والتبجح. فالرجفة يصاحبها الفزع، والجثوم مشهد للعجز عن الحراك. وما أجدر العاتي أن يرتجف، وما أجدر المعتدي أن يعجز. جزاء وفاقًا في المصير. وفي التعبير عن هذا المصير بالتصوير.
ويدعهم السياق على هيئتهم.. {جاثمين}.. ليرسم لنا مشهد صالح الذي كذبوه وتحدوه: {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين}.
إنه الإشهاد على أمانة التبليغ والنصح؛ والبراءة من المصير الذي جلبوه لأنفسهم بالعتو والتكذيب.
وهكذا تطوى صفحة أخرى من صحائف المكذبين. ويحق النذير بعد التذكير على المستهزئين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى في قصة صالح: {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} وقال في قصة شعيب عليه السلام: {الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين قتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين}.
للسائل أن يسأل ويقول: إذا كان كل من الرسل عليهم السلام قد أبلغ قومه ما أرسل به وكلهم في أداء تلك الأمانة وحفظها على نهج سواء من غير تفاضل في هذا- أعنى الأمانة والإبلاغ والعصمة في ذلك- وإنما التفاضل بأشياء غير ما ذكر فإذا تساووا فيما ذكر وكلهم أمر بإفراد الله سبحانه بالعبادة واتقاء عذابه بالتزام الطاعات وامتثال الأوامر والنواهى وكلهم أمر ونهى وأوضح لقومه طريق النجاة وحذرهم من المهالك ووصف كل واحد منهم ربسول ووصف ما جاء به بالرسالة فالإفراد محصل للمقصود فما وجه الجمع في قوله في قصة شعيب عليه السلام: {أبلغتكم رسالات ربى} ولم لم يرد على الإفراد كما ورد في قصة صالح؟
والجواب: أن العرب تراعى في أجوبتها ما نيتها عليه من سؤال أو غيره، إن إطالة فإطالة أو إيجاز فإيجاز فأجوبتهم مراعى فيها المعنى ملحوظ فيما وردت جوابا له ولما ورد في دعاء شعيب عليه السلام تفصيل في الأمر والنهى والتحذير ألا ترى قوله بعد أمرهم بتوحيد الله: {قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} ثم قال: {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا} وذكرهم بتكثيرهم بعد القلة فقال: {واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} وإن يتذكروا حلا من تقدمهم ممن كذب فقال: {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} وورد عقب هذا من قول قومه له في قوله تعالى حاكيا عنهم: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودون في ملتنا} وقولهم: {لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون} وقد انطوى هذا الكلام من التعريف بقبيح ردهم وشنيه مرتكبهم في مجاوبتهم على أعظم اجترام، فحصل في هذا من خطابه إياهم وما ردوا به وجاوبوه عليه السلام إطناب في العبارة وإمعان فيما تحتها من المعاني في كلا الضربين فناسب ذلك الجمع في قوله: {أبلغكم رسالات ربى} أما قصى صالح عليه السلام فلم يقع فيها بعد أمرهم بالعبادة غير تعريفهم بأمر الناقة وأمرهم برعيها وتذكيرهم بقوم هود في قوله: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد...} الآية ولم تنفصل مكالمته إياهم كتفصيل ما تقدم وأما المحكى عنهم من جوابهم فقوله تعالى مخبرا عنهم من قول كافريهم لمن آمن منهم: {إنا بالذى آمنتم به كافرون} وقولهم: {ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} فليس هذا مثل المتقدم من جواب قوم شعيب له في المحكى من العبارة ولا فيما تحتحته من المعنى فناسبه الإفراد الوارد في قوله: {أبلغتكم رسالة ربى}.
فإن قلت فقد ورد: {أبلغكم رسالات ربى} بالجمع في قصة نوح وهود عليهما السلام، ولم يتقدم في القصتين إطناب ولا إطالة تقتضى ذلك فإن الوارد في قصة نوح من قول قومه له قوله تعالى: {قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين} وهذا ليس كجواب قوم شعيب عليه السلام في إطالته وإذا لم يكن في ذلك طول فما وجه الجمع في قوله: {رسالات ربى} ولم لم يفرد كما في قصة صالح إذ هي شبيهتها في الإيجاز؟ فالجواب أن افظ الضلال وإن كان هنا لا يرادف الكفر حسبما تقدم وما يأتى فإنه يقتضى بحسب كليته وانتشار مواقعه مقتضيات عدة، وأنهم لم يريدوا تخصيصه بقوله بعينه من قوله عليه السلام بل أرادوا أقوالا كثيرة مما أمرهم به ونهاهم عنه ومما حذرهم وأنذرهم من عذاب الآخرة حين قال لهم: {إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} فلانسحاب اسم الضلال على مسميات شتى كان في وزان ما طال من الكلام فأشبه الواقع في قصة شعيب عليه الصلاة والسلام قال الزمخشري: الضلال الذهاب عن طريق الصواب والحق فكأنهم قد فصحوا بأن قالوا لا نعتمد قولك في شيء ولا نعول عليه لأنك ذاهب فيه عن طريق الصواب والحق ويشهد لإرادتهم هذا التفصيل قول نوح عليه السلام في رد مقالتهم: {ليس بى ضلالة} ولم يقل ليس بى ضلال فينفى عين ما قالوه بل عدل إلى ما يدفع قليل ذلك وكثيره في كل قضية قضية، وإذا نفى وجود الضلال في كل واحدة من تلك القضايا بعد انتفاء الضلال عن كلها وبرئت ذمته الرفيعة عن الاتصاف بشئ مما رموه به ومثله الزمخشري بجواب من قيل له: ألك ثمر فقال ولا ثمرة واحدة وهو تنظير حسن فقد حصل إطناب وتفصيل في المعنى ولطول المجاورة بينه وبين قومه ما قالوه له في آخر مقالهم: {قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} فلهذا قال: {أبلغكم رسالات ربى} فجمع فكأنه عليه السلام يقول: كل قضية أبلغتكم إياها فربى أرسلنى بها وكل منها رسالة أرسلت بها إليكم محفوظا في ذلك بعصمة الله إياى منزها عما توهمتم من الضلال ثم أتبع بقوله: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} يريد مما منعكم من تصديقى فيه ما رميتمونى به من الضلال فرد عليه السلام قولهم بألطف رد وأرفقه بقوله: {وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون} وفى طى هذا الكلام ما يفهم توبيخهم ويشير إلى تعاميهم وجهلهم فهو يرمى ما تمهد موضع جمع رسالة لما تحصل مما يفهمه النظم الجليل من التفصيل الذي به يتم المعنى المقصود فكلامه عليه السلام مع ما بنى عليه من التفصيل الذي تضمنه جوابهم فليس كالوارد في قصة صالح عليه السلام في قضية خاصة والله أعلم.
ألا ترى قول ملإ قومه من كفارهم لمن آمن منهم: أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه فقصروا سؤالهم وخصوه بصحة الرسالة ثم قالوا للملإ من المؤمنين: {إنا بالذى آمنتم به كافرون} ثم بنوا على هذا سائر ما كان منهم من الكفر والعتو وعقر الناقة وإنما سألوا أولا ودار أمرهم على صحة إرساله عليه السلام فطابق ذلك الإفرد في قوله: {أبلغتكم رسالة ربى} واما قول قوم هود في جوابهم لنبيهم: {إنا لنراك في سفاهة} والسفاهة الطيش وقلة الحلم فحال من اتصف بذلك كحال من اتصف بالضلال فلا يثبت على قول ولا يعتمد عليه فهذه كقضية قوم نوح فالجواب عنها كما تقدم في تلك وكل وارد على ما يجب ويناسب والله سبحانه أعلم بما أراد.
فصل:
قد تقدم لنا في هذه الآية وفيما قبلها أن الضلال يقع ما دون الكفر فيكون مع شناعة فيما يقتضيه بوصفه وإن لم يرد به الكفر دون الإفصاح بلفظ الكفر إذ يصح أن يطلق على متصف بالإيمان برئ من الكفر وقد قال تعالى مخبرا عن إخوة يوسف في قولهم لأبيهم عليه السلام: {إنك لفي ضلالك القديم} وإنما أرادوا ما يرجع إلى خاطره عليه السلام برجائه يوسف وما يرجع إلى هذا وقد تكرر نحوه في القرآن فاعلم أن الرسل عليهم السلام لم يجر أمرهم في دعائهم أممهم إلى الإيمان اولا كما جرى آخرا وبنسبة ذلك جرى جواب أممهم في مراجعتهم في الأكثر فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام ابتدأوا دعاءهم الأمم بالتلطف والرفق والصبر وبذلك أمروا قال تعالى لموسى عليه السلام في إرساله فرعون: {فقولا له قولا لينا} وهذا واضح والغال في مجاوبة أممهم إنما جرى نسبة من هذا ألا ترى قول قوم نوح عليه السلام في أول دعائه إياهم: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} وظاهر هذا أنهم إنما أنفوا من الانقياد إلى أمره وقد سبقهم في ذلك ضعفاؤهم ومن لم يروه بحسب التوهم الخيالى الضعيف أهلا أن يقتدى به وهذا كما قال غيرهم في إخبار الله تعالى عنهم: {أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} وقول الآخرين: {لو كان خيرا ما سبقونا إليه} وهذا كله ليس إفصاحا بالتكذيب وإن أرادوه وكذا قول قوم نوح عليه السلام: {ما نراك إلا بشرا مثلنا} إلى ما اتبعوه من هذا وإنما أفصحوا بالتكذيب أخيرا قال تعالى في أمر الكافة من الرسل حين توقف أممهم عن الاستجابة: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا} وقال تعالى في مكذبيهم: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} وتأمل دعاء الرسل حيث دعوا أممهم والتدريج فيما جرى منهم وسير نبينا صلى الله عليه وسلم يلح لك هذا وهو أبين من أن يطول بذكره فعلى هذا قلنا إن مقول قوم نوح في أول جوابهم له: {إنا لنراك في ضلال مبين} ليس كقولهم أخيرا: {قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} وإنما قالوا: {بل نظنكم كاذبين} بعد طول محاورة ثم إنهم لم يدعوا علما بما قالوه من ذلك بل أفصحوا بأن ذلك ظن فالمراد والله أعلم بما رمى به قوم نوح نبيهم من الضلالة وإن تضمن من حيث انتشار مواقع التفصيل واحتمل قصدهم الكفر وغيره ليس كما لو أفصحوا أولا فقالوا: إنك كاذب أو كافر واعتبر هذا الذي أوجزته تجده أوضح شيء والله سبحانه أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآيات:

قال عليه الرحمة:
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ...} الآيات.
أجرى الله سبحانه سُنَّتَه ألا يخص بأفضاله، وجميل صنعه وإقباله- في الغالب من عباده- إلاَّ مَنْ يسمو إليه طَرْفُه بالإجلال، وأَلاَّ يوضحَ له قَدْرَه بين الأضراب والأشكال؛ فأنصار كلِّ نبي إنما هم ضعفاء وقته، ويلاحظهم أهل الغفلة بعين الاحتقار، ولكن ليس الأمر كما تذهب إليه الأوهام، ولا كما يعتقد فيهم الأنام، بل الجواهر مستورة في معادتها، وقيمة المَحَالِّ بساكنيها، قال قائلهم:
وما ضرَّ نصلَ السيف إخلاقُ غمده ** إذا كان غَصْبًا حيث وجهته وترا

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرَّه».
قوله تعالى: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} الحيلة تدعو إلى وِفاق الهوى؛ فتستثقل النّفْسُ قولَ الناصحين، فيخرجون عليهم وكأن الناصحين هم الغائبون، قال قائلهم:
وكم سُقْتُ في آثاركم من نصيحةٍ ** وقد يستفيد البغضة المتنصح

. اهـ.