فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ...} [الأعراف: 85].
وإذا كانت الخسارة في الكيل والميزان طفيفة ومحتملة، فمن باب أولى ألا نبخس الناس أشياءهم فلا نظلمهم بأخذ أموالهم والاستيلاء على حقوقهم، فلا نسرف لأن السارق يأخذ ما تصل إليه يده، ولا نغتصب، ولا نختلس، ولا نرتشي، لأنه إذا كان وفاء الكيل هو أول مطلوب الله منكم مع أن الخسارة فيه طفيفة، إذن فبخس الناس أشياءهم يكون من باب أولى.
ويتابع سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا...} [الأعراف: 85].
وبذلك نكون أمام أكثر من أمر جاء بها نبي الله شعيب: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} وهذه العبادة لتربي فيهم مهابة وتزيدهم حبًا واحترامً للآمر الأعلى، وكذلك ليخافوا من جبروته سبحانه. وبعد ذلك ضرورة يكون الأمر بالوفاء بالكيل والميزان، والزجر عن أن يبخسوا الناس أشياءهم، ثم النهي والتحذير من الإِفساد في الأرض {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}، والإِصلاح الذي يطلبه الله منا أن نستديمه أو نرقيه إنما يتأتى بإيجاد مقومات الحياة على وجه جميل.
مثال ذلك الهواء وهو العنصر الأول في الحياة المسخرة لك؛ يصرّفه سبحانه حتى لا يفسد. والنعيم الثاني في الحياة وهو الشراب؛ إنه سبحانه ينزل لك الماء من السماء، ثم القوت الذي يخرجه لك من الأرض. والمواشي التي تأخذ منها اللبن، والأوبار، والأصواف، والجلود، كل ذلك سخره الله لك، وهذا إصلاح في الأرض، لكن هل هذه كل المقومات الأساسية؟ لا؛ لأنه إن وجدت كل هذه المقومات الأساسية ثم وجد الغصب، والسرقة، والرشوة، والاختلاس، فسيفسد كل شيء، ولا يعدل كل ذلك ويقيمه ويجعله سويا إلا الدين؛ لأنه كمنهج يمنع الإِفساد في الأرض. {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا...} [الأعراف: 85].
إذن فهذه الأشياء التي هي إيفاء الكيل والميزان يأتي الأمر بها، ثم يتبعها بما ينهى عنه وهو ألا نبخس الناس أشياءهم وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها، كل ذلك يجمع المنهج. أوامر ونواهي، وقد يبدو في ظاهر الأمر أنها مسائل تقيد حرية الإنسان، فنقول: لا تنظر إلى نفسك أيها الإِنسان وأنت بمعزل عن المجتمع الواسع، فأنت لا تملك من مصالحك إلا أمرًا واحدًا، وهذا الأمر الذي تملكه أنت من مصالحك يكون أقل الأشياء عندك، ولكن الأمور الأخرى التي تحتاج إليها هي بيد غيرك، فإن أنت وفيت الكيل والميزان.
فذلك خير لك؛ فالذي يقيس لك القماش لا يغشك، والذي يزن لك ما ليس عندك لا يغشك، والذي يكيل لك الذي ليس عندك لا يغشك، إذن فأنت واحد منهي عن أن تفعل ذلك، وجميع الناس منهيون أن يفعلوا ذلك معك، وبذلك تكون أن الكاسب.
وإذا جئت إلى قوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ}، فأنت مأمور ألا تبخس الناس أشياءهم، وكل الناس مأمورون ألا يبخسوك شيئًا، وإذا أفسدت في الأرض بعد إصلاحها فالناس مأمورون أيضًا ألا يفسدوا هذه الأرض وبذلك تكون احظ منهم في كل شيء. ولذلك يجب على كل مكلف حين يستقبل تكليفًا قد يكون شاقًا على نفسه أن يتأمل هذا التكليف وأن يقول لنفسه: إياك أن تنظر إلى مشقة التكليف على نفسك، ولكن انظر إلى ما يؤديه لنفسه: إياك أن تنظر إلى التكليف لك: لاتنظر إلى محارم غيرك، فقد أمر غيرك ألا ننظر محارمك، وفي هذا عزة لك. وإذا أمرك التكليف ألا تضع يدك في جيب غيرك وتسرق، فقد أمر كل الناس ألا يضعوا أيديهم في جيوبك ليسرقوك، وبهذا نعيش في أمان.
وإذا طلب التكليف منك وأنت غني أن تخرج زكاة مالك إياك أن تقول: مالي وتعبي وعرقي؛ لأن المال مال الله، وأنت كإنسان مخلوق ليس لك إلا توجيه الحركة، والحركة تكون بطاقة مخلوقة لله، والعقل الذي خطط مخلوق لله، والانفعال الذي انفعل لك في الأرض من خلق الله، ولكن الحق احترم عملك وناتجه وفرض عليك أن تخرج منه زكاة مقدرة. فإياك أن تقول: أنه يأخذ مني، لماذا؟ لأن عالم الأغيار باد وظاهر أمامك، وكم رأيت من قوي ضعف، ومن غني افتقر، فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تعطي الفقير وتقويه، فإن افتقرت فسيفعل لك ذلك، وفي ذلك تأمين حياتك؛ لأنك تعيش في مجتمع فلا تأس على نفسك إن مرت بك الأغيار لأن مجتمعك الإيماني لن يتركك، أنت أو أولادك، ويقول الحق: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].
فإن أردت أن تطمئن على أولادك الصغار بعد موتك فانظر للأيتام في مجتمعك وكن أبا لهم، وحين تصير أنت أبًا لهم، وهذا أب لهم، وذلك أب لهم، سيشعر اليتيم أنه فقد أبا واحدًا، لكنه يحيا في مجتمع إيماني أوجد له من كل المؤمنين آباء، فلا يحزن، وكذلك لن تخاف على أولادك إن صاروا أيتامًا بعد أن غادرتهم إلى لقاء ربك؛ لأنك رعيت اليتامى وعشت في مجتمع يرعاهم. ولكنك تحزن عندما ترى يتيمًا مضيعًا في مجتمع لا يقوم على شأنه وتقول لنفسك: أنا إن مت سيضيع أبنائي هكذا.
وهكذا تكون تكاليف الإيمان هي تأمينًا للحياة. ومثال ذلك حين نقول للمرأة: تحجبي، ولا تبدي زينتك لغير محارمك، قد تظن المرأة في ظاهر الأمر أننا ضيقنا على حريتها، لأنها تنسى أن المنهج يؤمن لها قبح الشيخوخة، لأنها حين تتزوج صغيرة، ثم يصل عمرها فوق الأربعين ويتغير شكلها من متاعب الحمل وتربية الأبناء، ثم يرى زوجها فتاة في العشرين وغير محتشمة قد تفتنه وتصرفه عن زوجته، وينظر إلى زوجته نظر غير المكترث بها، وغير الراغب فيها. فالشرع قد أمر بالحجاب للمرأة وهي صغيرة؛ ليصون لها زوجها إن صارت كبيرة غير مرغوب فيها. فإن منعها وهي صغيرة فقد منع عنها وهي كبيرة؛ كل ذلك إذن من تأمينات المنهج للحياة.
إذن فإيفاء الكيل، وعدم إبخاس الناس أشياءهم وعدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها خير للجميع في الدنيا، بالإضافة إلى خير الآخرة، ولذلك يذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {... ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}. [الأعراف: 85].
و{ذلكم} إشارة إلى ما سبق من الأمر بعبادة الله فلا إله غيره وإلى الآمر باستيفاء الكيل والميزان، وألا نبخس الناس أشياءهم، وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها، ووضع الحق ذلك في إطار {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} على الرغم من أن الخير سيأتي أيضًا لغير المؤمن، وهكذا تكون كلمة {خير} تشمل خيرًا في الدنيا، وخيرًا في الآخرة للمؤمن فقط. أما الكافر فسيأخذ الخير في الدنيا فقط، ولا خير له في الآخرة، فإن كنتم مؤمنين فسيضاعف الخير لكم ليصير خيرًا دائمًا في الدنيا والآخرة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وفى سورة هود: {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} وفى سورة العنكبوت: {وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله} فاختصت آية العنكبوت بالفاء في قوله: {فقال} فيسأل عن ذلك؟
والجواب عنه: أنه لم يقع في سورة العنكبوت من ذكر إرسال الرسل ما بنى على أرسلنا ظاهرا ومقدرا منوطا به ذكر المرسل إليهم بحرف الغاية الذي هو {إلى} غير قوله تعالى: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه} وقوله: {وإلى مدين أخاهم شعيبا} وتعلق حرف الغاية في الأولى بالفعل الظاهر وهو {أرسلنا} وتعلق في الثانية بأرسلنا المقدر وقد قيل فيما بنى على الأخبار بالإرسال في الأولى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} بالفاء في قوله: {فلبث فيهم} فقيل في الثانية {فقال} بالفاء لتناسب ما ورد في هذه السورة من ذكر إبراهيم ولوط عليهما السلام فعلى غير البناء على أرسلنا ظاهرا أو مقدرا أو إيصاله إلى المرسل إليهم بإلى عدل في ذلك إلى ما يصح فيه تقدير أذكر كقوله: {وابراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه} وقوله: {ولوطا إذ قال لقومه} فلما انفردت الآيتان اولا وهما آية إرسال نوح وآية إرسال شعيب لما انفردتا بما ذكر نوسب بينهما فدخلت الفاء في قوله: {فقال} في قصة شعيب عليه السلام كما دخلت في قوله: {فلبث} في قصة نوح كما تقدم.
وأما آية الأعراف وآية هود فإنه لما ذكر في كل واحدة من هاتين السورتين جماعة من الرسل مبينا أخبارهم على وتيلة واحدة من ذكر الرسل والمرسل إليهم وتكرر ذلك بدئ بأول قصة على الاستيفاء فقيل: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه} ثم أوجز بعد فورد بغير الافصاح بلفظ الارسال وبغير الفاء والتحم ذلك وتناسب لاتحاد المقصد في السورتين والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}.
خسَّت هِممُ قومِ شعيبٍ فقنعوا بالتطفيف في المكيال والميزان عند معاملاتهم، ثم إنّ الحقَ سبحانه لم يُساهِلْهم في ذلك ليُعْلَم أَنَّ الأقدار ليست من حيث الأخطار. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} القصة.
اختلف في {مَدْيَنَ}: فقيل: أعجميٌّ، فمنعه للعُجْمَةِ والعلمية، وهو مدين بن إبراهيم عليه السلام فسُمِّيت به القبيلة.
وقيل: هو عربيٌّ اسم بلد، قاله الفرَّاءُ، وأنشد: [الكامل]
رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذينَ عَهِدْتُهُمْ ** يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العَذَابِ قُعُودَا

لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَهَا ** خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسُجُودَا

فمنعهُ للعَلِميَّة والتَّأنيث.
ولابدّ حينئذ من حذف مضاف، أي: وإلى أهل مدين، ولذلك أعاد الضَّمير في قوله: {أخَاهُم} على الأهل، ويجوز أن يراد بالمكان سَاكِنُوه، فروعي ذلك بالنِّسْبَةِ إلى عود الضمير عليه وعلى تقدير كونه عربيًا قالوا: فهو شاذ، إذ كان من حقِّه الإعلال كمتاع ومقام، ولكنهم شذُّوا فيه كما شذوا في مَرْيم ومَكْوذَة، وليس بشاذٍ عند المبرِّد، لعدم جَرَيَانِهِ على الفعل، وهو حقٌّ وإن كان الجمهور على خلافه.
قوله: {شُعَيْبًا} يجوز أن يكون تصغير شَعْب أو شِعْب هكذا قالوا، والأدبُ ألاَّ يقالَ ذلك، بل هذا موضوضعٌ على هذه الزِّنَةِ، وأمَّا أسماءُ الأنْبِيَاءِ فلا يدخلُ فيها تصغيرٌ ألْبَتَّةَ، إلا ما نطق به القرآن على صيغة تشبهه كشُعَيْب عليه السلام، وهو عربي لا أعجمي.
فصل:
قال عطاء: هو شعيبُ بْنُ نويب بنِ مَدْينَ بنِ إبراهيمَ.
وقال ابْنُ إسحاقَ: هو شُعَيْبُ بْنُ ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم، وأم ميكائيل بنت لوط.
وقيل: هو شُعَيْبُ بنُ ميرون بن مدْينَ، وكان شعيب أعمى، ويقال له: خِطِيبُ الأنْبِيَاء لحسن مراجعته قومه وكان أهل كفر وبخس للكَيْلِ والميزان، وهم أصحاب الأيكة.
قوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ}.
قد تقدّم معنى هذه اللفظة في قوله: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282]، وهو يتعدّى لاثنين، وهما {النَّاس} و{أشياءهم}، أي: لا تنقصوهم أشياءهم ولا يظلموهم، ويدخلُ فيه المَنْعُ من الغَصْبِ، والسرقة والرشوة، وقطع الطريق، وانتزاع الأموال بطريق الحيل.
قوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}.
وذلك أنَّهُ لما كان أخذُ أموال النَّاس بغير رضاهم يوجب المُنازَعَة والخصومة، وهما يوجبان الفَسَادَ، لا جَرَمَ قال بعده: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}.
وقيل: أراد المَنْعَ من كلِّ فسادٍ.
وقيل: أراد بقوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ} المنع من فساد الدُّنيا، وبقوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} المنع من فساد الدِّين.
واختلفوا في معنى {بَعْدَ إصْلاحِهَا}: فقيل: بعد أن صلحت ببعثة الرسل.
وقيل: بعد أن أصلحها بتكثير النّعَمِ.
ثم قال: {ذَلِكُمْ} وهو إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الأمر والنهي {خَيْرٌ لَّكُمْ} في الآخرة {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} مصدِّقين بما أقول. اهـ. باختصار.