فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أنه لما تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى سائر الآيات في هذا الباب.
أما قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
في تعلق هذا الكلام بالكلام الأول وجوه: قال القاضي: قد نقلنا عن أبي علي الجبائي أن قول شعيب: {إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا} معناه: إلا أن يخلق المصلحة في تلك العبادات، فحينئذ يكلفنا بها، والعالم بالمصالح ليس إلا من وسع علمه كل شيء، فلذلك أتبعه بهذا القول.
وقال أصحابنا: وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، هو أن القوم لما قالوا لشعيب: إما أن تخرج من قريتنا وإما أن تعود إلى ملتنا، فقال شعيب: {وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَيْء عِلْمًا} فربما كان في علمه حصول قسم ثالث، وهو أن نبقى في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا، وهذا الوجه أولى مما قاله القاضي، لأن قوله: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} لائق بهذا الوجه، لا بما قاله القاضي.
المسألة الثانية:
قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} يدل على أنه تعالى كان عالمًا في الأزل بجميع الأشياء، لأن قوله: {وَسِعَ} فعل ماض، فيتناول كل ماض.
وإذا ثبت أنه كان في الأزل عالمًا بجميع المعلومات وثبت أن تغير معلومات الله تعالى محال، لزم أنه ثبتت الأحكام وجفت الأقلام والسعيد من سعد في علم الله، والشقي من شقي في علم الله.
المسألة الثالثة:
قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} يدل على أنه علم الماضي، والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف كان يكون، فهذه أقسام أربعة، ثم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة يقع على أربعة أوجه.
أما الماضي: فإنه علم أنه لما كان ماضيًا، فإنه كيف كان.
وعلم أنه لو لم يكن ماضيًا، بل كان حاضرًا، فإنه كيف يكون وعلم أنه لو كان مستقبلًا كيف يكون.
وعلم أنه لو كان عدمًا محضًا كيف يكون، فهذه أقسام أربعة بحسب الماضي، واعتبر هذه الأقسام الأربعة بحسب الحال، وبحسب المستقبل، وبحسب المعدوم المحض، فيكون المجموع ستة عشر، ثم اعتبر هذه الأقسام الستة عشر بحسب كل واحد من الذوات والألوان والطعوم والروائح، وكذا القول في سائر المفردات من أنواع الأعراض وأجناسها، فحينئذ يلوح لعقلك من قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} بحر لا ينتهي مجموع عقول العقلاء إلى أول خطوة من خطوات ساحله.
المسألة الرابعة:
قال الواحدي: قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} منصوب على التمييز.
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ختم كلامه بأمرين: الأول: بالتوكل على الله.
فقال: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} فهذا يفيد الحصر، أي عليه توكلنا لا على غيره، وكأنه في هذا المقام عزل الأسباب، وارتقى عنها إلى مسبب الأسباب.
والثاني: الدعاء.
فقال: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} قال ابن عباس والحسن وقتادة، والسدي: احكم واقض.
وقال الفراء: أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أدري قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك.
قال الزجاج: وجائز أن يكون قوله: {افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف، والمراد منه: أن ينزل عليهم عذابًا يدل على كونهم مبطلين، وعلى كون شعيب وقومه محقين، وعلى هذا الوجه فالفتح يراد به الكشف والتبيين.
ثم قال: {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} والمراد منه الثناء على الله.
واحتج أصحابنا بهذا اللفظ على أنه هو الذي يخلق الإيمان من العبد، وذلك لأن الإيمان أشرف المحدثات، ولو فسرنا لفتح بالكشف والتبيين، فلا شك أن الإيمان كذلك.
إذا ثبت هذا فنقول: لو كان الموجد للإيمان هو العبد، لكان خير الفاتحين هو العبد، وذلك ينفي كونه تعالى خير الفاتحين. اهـ.

.قال السمرقندي:

{قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ}.
يقول: قد اختلقنا على الله كذبًا إن دخلنا في دينكم {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} يقول: إن الله تعالى أكرمنا بالإسلام وأنقذنا من ملّتكم.
يقال: معناه كنا كاذبين مثلكم لو دخلنا في دينكم بعد إذ نجانا الله منها.
ويقال: أكرمنا الله تعالى بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر فأنقذنا وأبعدنا من ملتكم.
{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله} يعني: ما ينبغي لنا وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يشاء الله: {رَبَّنَا} دخولنا فيها وأن ينزع المعرفة من قلوبنا.
ويقال: معناه وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون في علم الله ومشيئته أنا نعود فيها.
ويقال: معناه إلا أن يشاء الله يعني: لا يشاء الله الكفر مثل قولك.
لا أكلمك حتى يبيض القار، وحتى يشيب الغراب، وهذا طريق المعتزلة.
ثم قال: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} يعني: علم ما يكون منا ومن الخلق {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} أي فوضنا أمرنا إلى الله لقولهم: {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب شُعَيْبٌ} {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} أي اقض بيننا وبين قومنا بالعدل.
وروى قتادة عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما معنى قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا} حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لعلي بن أبي طالب تعال أفاتحك يعني: أخاصمك.
وقال القتبي: الفتح أن تفتح شيئًا مغلقًا كقوله: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَرًا حتى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين} [الزمر: 73] وسمي القضاء فتحًا لأن القضاء فصل للأمور وفتح لما أشكل منها {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} يعني: خير الفاصلين. اهـ.

.قال الثعلبي:

{قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} نرجع إليها بعد إذ أنقذنا الله منها {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّنَا} تقول إلاّ أن يكون سبق لنا في علم الله ومشيئته أن نعود فيها فيمضي حينئذ قضاء الله فينا وينفذ حكمه وعلمه علينا {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أحاط علمه بكل شيء فلا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} فيما تتوعدوننا به.
واختلف العلماء في معنى قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وقوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} فقال بعضهم: معناه أو لتدخلن فيها ولن تدخل إلاّ إن يشاء الله ربّنا فيضلنا بعد إذ هدانا.
وسمعت أبا القاسم الحسين بن محمد الحبيبي يقول: سمعت عليّ بن مهدي الطبري بها يقول: إنّ عدنا في ملّتكم أي صرنا، لا أن نعود، يكون ابتداء ورجوعًا.
قال أُميّة بن أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ** شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا

أي صار الآن اللبن، كأن لم تكن قط بولا.
وسمعت الحسين بن الحبيبي قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه: إذ نجّانا الله منها في سابق علمه وعند اللوح والقلم.
وقال بعضهم: كان شعيب ومَنْ آمن معه في بدء أمرهم مستخفين ثمّ أظهروا أمرهم وإنما قال لهم قومهم {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} حسبوا أنّهم على ملّتهم قيل: من هو معه على أصحاب شعيب دون شعيب لأنّهم كانوا كفّارًا ثمّ آمنوا بالخطاب لهم وجواب شعيب عنهم لا عن نفسه، لأن شعيبًا لم يكن كافرًا قط وإنّما ناوله الخطاب في أصناف مَنْ فارق دينهم إليه.
ورأيت في بعض التفاسير أن الملّة هاهنا الشريعة وكان عليه قبل نبوّته فلمّا نُبّئ فارقهم.
ثمّ دعا شعيب على قومه إذ لمس ما فيهم فقال: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} أي اقض.
وقال المؤرخ: افصل.
وقال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} حتّى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك. أي أقاضيك.
وقال الفراء: أهل عمان يسمّون القاضي الفاتح والفتّاح. وذكر غيره أنّه لغة مهاد. فأنشد لبعضهم:
ألا أبلغ بني عصُم رسولا ** بأنّي عن فتاحتكم غنيّ

أي حكمكم. {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} يعني الحاكمين. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجّانَا اللَّهُ مِنْهَا}.
والفرق بين الملة والدين أن الملة ما شرعه الله، والدين ما اعتقده الناس تقربًا إلى الله، فصار كل دين ملة وليس كل ملة دينًا.
فإن قيل: فالعود إلى الشيء الرجوع إليه بعد الخروج منه فهل كان شعيب على ملة قومه من الكفر حتى يقول: {إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم}.
في الجواب عنه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه حكاية عمن اتبع شعيبًا من قومه الذين كانوا قبل اتباعه على ملة الكفر.
الثاني: أنه قال ذلك على التوهم أنه لو كان عليها لم يعد إليها.
والثالث: أنه يطلق ذكر العَود على المبتدئ بالفعل وإن لم يسبق منه فعل مثله من قولهم: قد عاد عليّ من فلان مكروه وإن لم يسبقه بمثله كقول الشاعر:
لَئِن كَانَت الأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً ** إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ

أَتَى دَونَ حُلْوِ الْعَيْشِ شَيْءٌ أُمِرُّهُ ** كُرُوبٌ عَلَى آثَارِهِنّ كُرُوبُ

ثم قال: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} فيه قولان:
أحدهما: أن نعود في القرية إلاّ أن يشاء الله، قاله بعض المتكلمين.
والثاني: وهو قول الجمهور أن نعود في ملة الكفر وعبادة الأوثان.
فإن قيل فالله تعالى لا يشاء عبادة الأوثان فما وجه هذا القول من شعيب؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه قد كان في ملتهم ما يجوز التعبد به.
والثاني: أنه لو شاء عبادة الوثن لكانت عبادته طاعة لأنه شاءه كتعبده بتعظيم الحجر الأسود.
والثالث: أن هذا القول من شعيب على التعبيد والامتناع كقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وكقولهم: حتى يشيب الغراب.
ثم قال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَومِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيرُ الْفَاتِحِينَ} فيه وجهان:
أحدهما: اكشف بيننا وبين قومنا، قاله قتادة.
والثاني: احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين. وذكر الفراء، أن أهل عُمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح. وقال غيره: إنه لغة مراد، قال الشاعر:
أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عُصَمَ رَسُولًا ** بِأَنِّي عَنْ فَتَّاحِكُمُ غَنِي

وقد قال ابن عباس: كنت لا أدري ما قوله: {رَبَّنَا افتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} حتى سمعت بنت ذي يزن تقول: تعالَيْ أفاتحك، يعني أقاضيك.
وقيل: إنه سمي بذلك لأنه يفتح باب العلم الذي قد انغلق على غيره.
فإن قيل: فما معنى قوله: {بِالْحَقِّ} ومعلوم أن الله لا يحكم إلا بالحق؟.
ففي الجواب عنه أربعة أوجه: أحدها: أنه قال ذلك صفة لحكمه لا طلبًا له.
والثاني: أنه سأل الله أن يكشف لمخالفه من قومه أنه على حق.
والثالث: أن معناه احكم بيننا الذي هو الحق، قاله ابن بحر.
والرابع: احكم في الدنيا بنصر الحق، قاله السدي. اهـ.