فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة.
ويؤيده: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ بِهِ} وقيل: المراد بالآية النهي عن قطع الطريق، وأخذ السلب، وكان ذلك من فعلهم.
وقيل: إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس، فنهوا عن ذلك.
والقول الأوّل: أقربها إلى الصواب، مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة.
وجملة {توعدون} في محل نصب على الحال، وكذلك ما عطف عليها، أي لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله، صادّين عن سبيل الله، باغين لها عوجًا، والمراد بالصدّ {عن سبيل الله}: صدّ الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه، ومنعهم من الوصول إلى شعيب، فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبيّ الله هو سلوك سبيل الله، و{مَنْ ءامَنَ بِهِ} مفعول {تصدّون}، والضمير في {آمن به} يرجع إلى الله، أو إلى سبيل الله، أو إلى كل صراط أو إلى شعيب، و{تَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة، وقد سبق الكلام على العوج.
قال الزجاج: كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام {واذكروا إِذْ كُنتُمْ} أي وقت كنتم {قَلِيلًا} عددكم {فَكَثَّرَكُمْ} بالنسل.
وقيل: كنتم فقراء فأغناكم.
{وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الأمم الماضية، فإن الله أهلكهم، وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم.
{وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ} إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم {وَطَائِفَةٌ} منكم {لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم.
وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر.
وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين، ومثله قوله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} [التوبة: 52] أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحلّ بهم من أذى الكفار، حتى ينصرهم الله عليهم.
{قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ} أي قال الأشراف المستكبرون {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ} لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرّد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه، بل جاوزوا ذلك بغيًا وبطرًا وأشرا إلى توعد نبيهم، ومن آمن به، بالإخراج من قريتهم، أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية، أي لابد من أحد الأمرين: إما الإخراج، أو العود.
قال الزجاج: يجوز أن يكون العود بمعنى الإبتداء.
يقال عاد إليّ من فلان مكروه، أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك، فلا يرد ما يقال: كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولًا؟ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب، بالعود إلى ملتهم.
وجملة {قَالَ أُو لَو كُنَّا كارهين} مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر.
والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود، والواو للحال، أي أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعًا، والمعنى: إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين، ولا يصح لكم ذلك، فإن المكره لا اختيار له، ولا تعدّ موافقته مكرها موافقة، ولا عوده إلى ملتكم مكرهًا عودًا، وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام، حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام.
{قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ} التي هي الشرك {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} بالإيمان، فلا يكون منا عود إليها أصلًا {وَمَا يَكُونُ لَنَا} أي ما يصح لنا ولا يستقيم {أَن نَّعُودَ فِيهَا} بحال من الأحوال {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي إلا حال مشيئته سبحانه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
قال الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عزّ وجلّ، قال: وهذا قول أهل السنة.
والمعنى: أنه لا يكون منا العود إلى الكفر، إلا أن يشاء الله ذلك، فالاستثناء منقطع.
وقيل: إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عزّ وجلّ، كما في قوله: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله} [هود: 88] وقيل: هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيضّ الغراب، وحتى يلج الجمل في سمّ الخياط، والغراب لا يبيض، والجمل لا يلج، فهو من باب التعليق بالمحال.
{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} أي أحاط علمه بكل المعلومات، فلا يخرج عنه منها شيء، و{علمًا} منصوب على التمييز.
وقيل المعنى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لهم {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} عودنا إليها {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} أي عليه اعتمدنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله، ويتمّ علينا نعمته، ويعصمنا من نقمته.
قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} الفتاحة الحكومة، أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين.
دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم، ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقين على المبطلين، كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين، وحلول نقمة الله بهم {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} معطوف على {قَالَ الملأ الذين استكبروا} يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك، ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب، واللام في {لئن اتبعتم شعيبا} موطئة لجواب قسم محذوف، أي دخلتم في دينه، وتركتم دينكم {إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} جواب القسم ساد مسدّ جواب الشرط.
وخسرانهم: هلاكهم، أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن، وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي: الزلزلة.
وقيل: الصيحة كما في قوله: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دَارِهِمْ جاثمين} [هود: 94] قد تقدم تفسيره في قصة صالح.
قوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حلّ بهم من النعمة، والموصول مبتدأ، و{كأن لم يغنوا} خبره يقال غنيت بالمكان إذا أقمت به، وغنى القوم في دارهم، أي طال مقامهم فيها، والمغني: المنزل، والجمع المغاني.
قال حاتم الطائي:
غنينا زمانًا بالتصعلك والغنى ** وكلا سقاناه بكاسيهما الدهر

فما زادنا بغيًا على ذي قرابة ** غنانا ولا أزرى باحساننا الفقر

ومعنى الآية: الذين كذبوا شعيبًا كأن لم يقيموا في دارهم، لأن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب، والموصول {في الذين كذبوا} شعيبًا مبتدأ خبره {كَانُواْ هُمُ الخاسرين}، وهذه الجملة مستأنفة كالأولى، متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين {فتولى عَنْهُمْ} أي شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم {وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى} التي أرسلني بها إليكم {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم {فَكَيْفَ ءاسى} أي أحزن {على قَوْمٍ كافرين} بالله، مصرّين على كفرهم، متمردين عن الإجابة، أو الأسى شدة الحزن، آسى على ذلك فهو آس.
قال شعيب هذه المقالة تحسرًا على عدم إيمان قومه، ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله، وعدم قبولهم لما جاء به رسوله.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن عساكر، عن عكرمة، والسدي قالا: ما بعث الله نبيًا مرتين إلا شعيبًا: مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة {فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة} [الشعراء: 189].
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} قال: لا تظلموا الناس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} قال: لا تظلموهم {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: كانوا يوعدون من أتى شعيبًا وغشيه وأراد الإسلام.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: كانوا يجلسون في الطريق، فيخبرون من أتى عليهم أن شعيبًا كذاب، فلا يفتننكم عن دينكم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد {بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: بكل سبيل حق {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: تصدّون أهلها {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال: تلتمسون لها الزيغ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: هو العاشر {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: تصدّون عن الإسلام {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال: هلاكًا.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد، قال: هم العُشَّار.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره، شك أبو العالية قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته، قال: «ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه» ثم تلا {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي، في قوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} قال: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله: {إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا} والله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئًا، فإنه قد وسع كل شيء علمًا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن الأنباري في الوقف والابتداء، عن ابن عباس قال: ما ما كنت أدري ما قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} حتى سمعت ابنته ذي يزن تقول: تعال أفاتحك، تعني أقاضيك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {رَبَّنَا افتح} يقول: اقض.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، قال: الفتح القضاء لغة يمانية إذا قال أحدهم تعال أقاضيك القضاء قال: تعال أفاتحك.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} قال: لم يعيشوا فيها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {فَكَيْفَ ءاسى} قال: أحزن.
وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل، وقبر شعيب، فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.
وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه أن شعيبًا مات بمكة، ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم، عن ابن إسحاق قال: ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيبًا قال: «ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة». اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}.
هَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا بَعْدَهَا تَتِمَّةُ قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَبْدُوءَةٌ بِجَوَابِ قَوْمِهِ لَهُ عَمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْبِرِّ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْآثَامِ، وَأَنْذَرَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الِانْتِقَامِ بِقَوْلِهِ: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا} وَرَدَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَأَمْثِلَةٍ مِنْ مُرَاجَعَةِ الْكَلَامِ، وَتَوَلَّاهُ الْمَلَأُ مِنْهُمْ؛ أَيْ: كُبَرَاءُ رِجَالِهِمْ كَدَأْبِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ، وَهُوَ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا أَيْ: قَالَ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَأَكَابِرُهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الْإِيمَانِ لَهُ، وَعَتَوْا عَمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ وَقَدِ اسْتَضْعَفُوهُ: نُقْسِمُ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ أَنْتَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا الْجَامِعَةِ أَوْ مِنْ بِلَادِنَا كُلِّهَا، فَلَفْظُ الْقَرْيَةِ وَالْبَلَدِ يُطْلَقُ أَحْيَانًا عَلَى الْقُطْرِ أَوِ الْمَمْلَكَةِ، أَوْ لَتَعُودُنَّ وَتَرْجِعُنَّ إِلَى مِلَّتِنَا، وَمَا نَدِينُ بِهِ مِنْ تَقَالِيدِنَا الْمَوْرُوثَةِ عَنْ آبَائِنَا فَتَكُونَ مِلَّةً لَكُمْ، وَمُحِيطَةً بِكُمْ مَعَنَا. ضُمِّنَ الْعَوْدُ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وإِلَى وفِي، وَمِنْهُ: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} (17: 69) يَعْنِي الْبَحْرَ، إِذِ الْخِطَابُ قَبْلَهُ لِمَنْ مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ مَا فِي قَوْلِهِ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} (20: 55) يَعْنِي الْأَرْضَ، وَالْمَعْنَى: نُقْسِمُ لَيَكُونَنَّ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: إِخْرَاجِكُمْ أَوْ عَوْدَتِكُمْ فِي الْمِلَّةِ، فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، قِيلَ: إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالْعَوْدِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْمَجْمُوعِ، فَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكُفْرِ حَتَّى قَبْلَ النُّبُوَّةِ، عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عَلَى مِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ مِلَّةِ قَوْمِهِ فَيَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ مِنَ التَّعْبِيرِ فِي شَأْنِهِ بِالْعَوْدَةِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَلَا فِي بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ أَمْرٌ سِلْبِيٌّ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ، وَلَا يَعُدُّونَهُ بِهِ خَارِجًا عَنْهُمْ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ، إِمَّا انْصِرَافًا بِالذَّاتِ أَوْ بِالْقَوْلِ وَالْعَزِيمَةِ اهـ، وَمِنْهُ ذَمُّهُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى سَبْقَ الْكَوْنِ فِيهِ وَلَا عَدَمَهُ، فَلَا حَاجَةَ إِذَنْ إِلَى تَصْحِيحِ التَّعْبِيرِ بِمَا قِيلَ مِنْ تَفْسِيرِ الْعَوْدِ بِالْمَصِيرِ، وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَيْسَ فِي الْقَوْلِ بِالتَّغْلِيبِ، وَلاسيما فِي جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.