فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السماء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ}.
عطف على التمثيل السابق وهو قوله: {كمثل الذي استوقد نارًا} [البقرة: 17] أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لاسيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه.
وقد استقريْتُ من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرئ القيس في معلقته:
أصاححِ ترى برقًا أُريك وميضَه ** كلمععِ اليدين في حَبِيَ مُكَلَّل

يُضيءُ سَناه أو مصابيححِ راهب ** أَمال السليطَ بالذُّبال المُفَتَّل

وقولِ لَبيد في معلقته يصف راحلته:
فلها هِبَاب في الزمام كأنها ** صهباءُ خفَّ مع الجَنوب جَهَامها

أو مُلْمِعٌ وسَقَتْ لأَحْقَبَ لاَحَه ** طَرْدُ الفُحول وضَرْبُها وكِدَامُها

وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما:
أَفتلك أم وحْشية مسبوعة ** خذلت وهادية الصِّوار قِوامها

وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث:
وثْبَ المُسَحَّججِ من عَانَاتتِ مَعْقُلَةٍ ** كأنَّه مستبان الشَّكِّ أو جَنِبُ

ثم قال:
أذاك أم نَمِشٌ بالوشْي أَكْرُعُه ** مسفَّع الخَد غَادٍ نَاشِعٌ شَبَبُ

ثم قال:
أَذاك أم خاضب بالسَّيِّ مَرْتَعُه ** أبو ثلاثين أَمسى وهو مُنْقلب

وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى: {ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء متشاكسون} [الزمر: 29] الآية ثم قال: {وضرب الله مَثَلًا رجلين} [النحل: 76] الآية.
وقوله: {ما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور} [فاطر: 19 21] الآية بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى: {حتى جعلناهم حصيدًا خامدين} [الأنبياء: 15] وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفردًا تعز استطاعةُ تكريره.
وأو عطفت لفظ صيب على {الذي استوقد} [البقرة: 17] بتقدير مَثَل بين الكاف وصيب.
وإعادةُ حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة العامل، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسَّنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه وهم في الغالب لا يكررونه في العطف.
والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْ في قوله تعالى: {مَثَلُهم كمَثَل الذي استوقد} [البقرة: 17] بنوع إطلاق وتقييد.
فقوله: {أَو كصيب} تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله: {كمثل الذي استوقد} دل على تقدير قوم قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وقولُه: {يخطف أبصارهم} [البقرة: 20].
الآية، لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يَجيء فيه ما جازَ في قوله: {ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17] إلخ.
فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانِّين في مساكنهم كما عُلم ذلك من قوله: {كلَّما أضاءَ لهم مشَوْا فيه} [البقرة: 20] فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم مِمَّا اتصل به من الرعد والصواعف ضُر ولم ينفع المارين بها وأضرَّ بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغَيث وارد.
وفي الحديث الصحيح: «مَثَل ما بَعثني الله به من الهُدى كمثل الغيث أصابَ أرضًا فكان منها نَقِيَّةٌ» إلخ.
وفي القرآن: {كمثل غيث أعجب الكفار نباته} [الحديد: 20].
ولا تَجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني، ومنه أخذ أبو الطيب قوله:
فتى كالسحاب الجَوْن يُرجَى ويُتَّقَى ** يُرَجَّى الحَيَا منه وتُخْشى الصواعق

والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر، والرعد لقوارع القرآن وزواجره، والبَرْق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل.
والصيب فيعل من صاب يصوب صوبًا إذا نزل بشدة، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل.
والظاهر أن قوله: {من السماء} ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس:
كجلمود صخرٍ حَطَّه السيل من عَلٍ

إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير، وكقوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]، وقوله: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض} [الأنعام: 71] وقال تعالى: {فأَمْطِرْ علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32].
والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى: {كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء} [إبراهيم: 24] وتطلق على السحاب، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر سماء. إلخ. ولما كان تكوُّن المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن.
ويمكن أن يكون قوله: {من السماء} تقييدًا للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في الكشاف على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله: {من السماء} قيدًا للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عاليًا كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريبًا من الأرض غير مرتفع.
وضمير فيه عائد إلى صيب والظرفية مجازية بمعنى معه، والظلمات مضى القول فيه آنفًا.
والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطرًا وبرقًا وتسمى سارية.
والرعد أصوات تنشأ في السحاب.
والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب، والرعدُ والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤُها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكّتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق.
وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد بأنها تسر أقوامًا وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم. اهـ.

.قال السمرقندي:

سؤال: فإن قيل كلمة أو إنما تستعمل للشك فما معنى {أَوْ} هاهنا؟
فقيل له: أو قد تكون للتخيير، فكأنه قال: إن شئتم فاضربوا لهم مثلًا بالمستوقد النار، وإن شئتم فاضربوا لهم المثل بالمطر، فأنتم مصيبون في ضرب المثل في الوجهين جميعًا.
وهذا كما قال في آية أخرى: {أَوْ كظلمات في بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يغشاه مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40] فكذلك هاهنا أو للتخيير لا للشك.
وقد قيل: أو بمعنى الواو يعني، وكصيب من السماء. اهـ.

.قال ابن جزي:

قال ابن مسعود رضي الله عنه: كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فهو على هذا حقيقة في المنافقين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والله مُحِيطٌ بالكافرين} ابتداء وخبر؛ أي لا يفوتونه.
يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذًا حاصرًا من كل جهة؛ قال الشاعر:
أحطنا بهم حتى إذا ما تَيَقّنُوا ** بما قد رأوْا مالوا جميعًا إلى السِّلْمِ

ومنه قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42].
وأصله مُحِيْط، نُقلت حركة الياء إلى الحاء فسكّنت.
فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره؛ كما قال: {والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} [الزمر: 67].
وقيل: {مُحِيطٌ بالكافرين} [البقرة: 19] أي عالم بهم.
دليله: {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا} [الطلاق: 12].
وقيل: مهلكهم وجامعهم.
دليله قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي إلا أن تهلكوا جميعًا.
وخص الكافرين بالذكر لتقدّم ذكرهم في الآية.
والله أعلم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {والله مُحيط بالكافرين}.
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يفوته أحد منهم، فهو جامعهم يوم القيامة.
ومثله قوله تعالى: {أحاط بكل شيء علمًا} [الطلاق: 12] قاله مجاهد.
والثاني أن الإحاطة: الإهلاك، مثل قوله تعالى: {وأحيط بثمره} [الكهف: 42].
والثالث: أنه لا يخفى عليه ما يفعلون. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والله مُحِيطٌ بالكافرين} أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاطُ به المحيطَ، شبه شمولَ قدرته تعالى لهم، وانطواءَ ملكوتِه عليهم، بإحاطة المحيط بما أحاط به في استحالة الفوْت، أو شَبَّه الهيئةَ المنتزعة من شئونه تعالى معهم بالهيئة المنتزعة من أحوال المحيط مع المحاط، فالاستعارة المبنيةُ على التشبيه الأول استعارة تبعيةٌ في الصفة متفرِّعة على ما في مصدرها من الاستعارة والمبنية على الثاني تمثيلية قد اقتُصِر من طرف المشبه به على ما هو العُمدة في انتزاعِ الهيئة المشبَّه بها أعني الإحاطة والباقي منويٌّ بألفاظ متخيَّلةٍ بها يحصُل التركيبُ المعتبر في التمثيل كما مر تحريره في قوله عز وجل: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئًا فإن القدَرَ لا يدافعُه الحذر، والحِيَل لا ترد بأس الله عز وجل.
وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيب الإيذانُ بأن ما دَهَمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم على منهاج قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} فإن الإهلاك الناشئ من السُخط أشدُّ، وقيل: هذا الاعتراض من جملة أحوالِ المشبّهِ على أن المراد بالكافرين المنافقون، قد دل به على أنه لا مدفعَ لهم من عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة، وإنما وُسِّط بين أحوال المشبه مع أن القياس تقديمُه أو تأخيره لإظهار كمال العنايةِ وفرطِ الاهتمام بشأن المشبه. اهـ.

.قال الألوسي:

{والله مُحِيطٌ بالكافرين} أي: لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط فإحاطته تعالى بهم مجاز تشبيهًا لحال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور أصلًا بإحاطة المحيط بالمحاط بحيث لا يفوته فيكون في الإحاطة استعارة تبعية وإن شبه حاله تعالى وله المثل الأعلى معهم بحال المحيط مع المحاط بأن تشبه هيئة منتزعة من عدة أمور بمثلها كان هناك استعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها إلا أنه صرح بالعمدة منها وقدر الباقي فافهم.
وجوز أبو علي في {مُحِيطٌ} أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى: {وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 1 8] أو عالم علم مجازاة كما في قوله تعالى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 8 2] وكل هذا من الظاهر، ولأهل الشهود كلام من ورائه محيط والواو اعتراضية لا عاطفة ولا حالية والجملة معترضة بين جملتين من قصة واحدة وفيها تتميم للمقصود من التمثيل بما تفيده من المبالغة لأن الكافرين وضع موضع الضمير وعبر به إشعارًا باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم فيكون الكلام على حد قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ في هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 7 11] فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الاهلاك عن سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئًا وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدفع الحذر القدر وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر.
وجعل الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد {بالكافرين} المنافقون ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لإظهار كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه الذوق السليم. اهـ.