فصل: تفسير الآية رقم (94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان فدل على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب وذكر في كل موضع ما يناسب من الخطاب وقوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} ذكروا أنهم أصابهم حر شديد وأسكن الله هبوب الهوا عنهم سبعة أيام فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل ولا دخولهم في الإسراب فهربوا من محلتهم إلى البرية فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة من السماء فأزهقت الأرواح وخرجت الأشباح {فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين} ونجى الله شعيبا ومن معه من المؤمنين كما قال تعالى وهو أصدق القائلين: {ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود} وقال تعالى: {وقال الملأ من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين} وهذا في مقابلة قولهم: {لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون} ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخا ومؤبنا ومقرعا فقال تعالى: {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين} أي أعرض عنهم موليا عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا: {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} أي قد أديت ما كان واجبا علي من البلاغ التام والنصح الكامل وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه فلم ينفعكم ذلك لأن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين فلست أتأسف بعد هذا عليكم لأنكم لم تكونوا تقبلون النصيحة ولا تخافون يوم الفضيحة ولهذا قال: {فكيف آسى} أي احزن {على قوم كافرين} أي لا تقبلون الحق ولا ترجعون إليه ولا! تلتفون إليه فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدافع ولا يمانع ولا محيد لأحد أريد به عنه ولا مناص منه.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس أن شعيبا عليه السلام كان بعد يوسف عليه السلام وعن وهب بن منبه أن شعيبا عليه السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (94):

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قدم سبحانه إجمال الإنذار بما اشتركت فيه الأمم من الإهلاك بقوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] الآية، ثم أتبعه- بعد تقديم ما يحتاج إليه على النظم الذي سبق التنبيه عليه- تفصيل ما انفردت به كل أمه من العذاب الحاث على سبيل الصواب، أتبع ذلك إجمالًا آخر أبسط من الأول على نمط غريب دال على عادته المستمرة وسنته المستقرة في شرح حال هؤلاء الأمم الذين ذكرهم وغيرهم، لئلا يظن أن غيرهم كان حاله غير حالهم، فبين أن الكل على نهج واحد وأن السبب في استئصالهم واحد، وهو التكذيب والاستكبار على الحق، ليكون الإجمال كالضوابط والقواعد الكلية لتنطبق على الجزيئات.
وذلك الاستبصار بما يكون من نافع أو ضار وعدم الاغترار بأحوال المستدرجين الأشرار متكفل بالتسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم والتأسية، متقدم على قصة موسى وهارون عليهما السلام لطولها وتعجيلًا بما في ذلك من مصارع الإنذار بقوله تعالى: {وما} أي أرسلنا فلانًا فكان كذا وفلانًا فكان كذا، وما {أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {في قرية} أي من قرى أولئك وغيرهم {من نبيٍّ} أي من الأنبياء الذين تقدموك {إلا} كان ما نخبر به من ترهيبهم من سطواتنا وهو أنا {أخذنا} أي بعظمتنا {أهلها} أي أخذ قهر وسطوة، أي لأجل استكبارهم عن الحق {بالبأساء} أي قهر الرجال {والضراء} أي المرض والفقر {لعلهم يضرعون} أي ليكون حالهم عند المساءة حال من يرجى تضرعه وتذلله وتخضعه لمن لا يكشف ذلك عنه غيره ولو كان التضرع في أدنى المراتب- على ما أشار إليه الإدغام، لأن ذلك كاف في الإنقاذ من عذاب الإنذار الذي هذه سورته بخلاف ما مضى في الأنعام. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{لفتحنا} بالتشديد: ابن عامر ويزيد {أو أمن} بسكون الواو: أو جعفر ونافع غير ورش، وابن عامر وابن كثير غير ابن فليح، وقرأ ورش بنقل حركتها إلى الساكن قبلها {أولم نهد} النون حيث كان: زيد عن يعقوب. الباقون: بالياء التحتانية {رسلهم} بسكون السين حيث كان: أبو عمرو.

.الوقوف:

{يضرعون} o {لا يشعرون} o {يكسبون} o {نائمون} o لمن قرأ {أو أمن} بفتح الواو على أن الهمز للاستفهام، ومن سكن الواو فلا وقف لأن {أو} للعطف {يلعبون} o {مكر الله} ج للفصل بين الإخبار والاستخبار مع أن الفاء للتعقيب. {الخاسرون} o {بذنوبهم} ج للفصل بين الماضي والمستقبل والتقدير: نحن نطبع مع اتحاد القصة. {لا يسمعون} o {من أنبائها} ج لعطف المختلفتين {بالبينات} ط لأن ضمير {فما كانوا ليؤمنوا} لأهل مكة وضمير. {جاءهم} للأمم الماضية مع أن الفاء توجب الاتصال {من قبل} ط {الكافرين} o {من عهد} ج لعطف الجملتين المختلفين {لفاسقين} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما عرفنا أحوال هؤلاء الأنبياء، وأحوال ما جرى على أممهم، كان من الجائز أن يظن أنه تعالى ما أنزل عذاب الاستئصال، إلا في زمن هؤلاء الأنبياء فقط، فبين في هذه الآية أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم، وبين العلة التي بها يفعل ذلك: قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء والضراء} وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين إليهم يبعث الرسل، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة، لأنها مجتمع الأقوام وقوله: {مّن نَّبِىٍّ} فيه حذف وإضمار، والتقدير: من نبي فكذب أو كذبه أهلها، إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء.
قال الزجاج: البأساء كل ما نالهم من الشدة في أحوالهم، والضراء ما نالهم من الأمراض.
وقيل على العكس، ثم بين تعالى أنه يفعل ذلك لكي يضرعوا، معناه: يتضرعوا، والتضرع هو الخضوع والانقياد لله تعالى، ولما علمت أن قوله: {لَعَلَّهُمْ} لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى، وجب حمله على أن المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا.
قالت المعتزلة: وهذا يدل على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة.
وقال أصحابنا: لما ثبت بالدليل أن تعليل أفعال الله وأحكامه محال وجب حمل الآية على أنه تعالى فعل، ما لو فعله غيره لكان ذلك شبيهًا بالعلة والغرض. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا}.
في الآية مضمر ومعناه: وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها {بالبأساء والضراء} يعني: عاقبنا أهلها بالخوف والبلاء والقحط والفقر.
ويقال: البأساء ما يصيبهم من الشدة في أموالهم، والضراء ما يصيبهم في أنفسهم {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} يعني: لكي يتضرعوا، فأدغمت التاء في الضاد وأقيم التشديد مقامه.
ومعناه: لكي يدعوا ربهم ويؤمنوا بالرسل ويعرفوا ضعف معبودهم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ}.
فيه إضمار واختصار يعني فكذبّوه {إِلاَّ أَخَذْنَا} عاقبنا {أَهْلَهَا} حين لم يُؤمنوا {بالبأساء} يعني بالبؤس الشدّة وضيق العيش {والضراء} تعني أضر وهو الحال. وقيل: المرض والزمناء قال: السدي البأساء يعني الفقر والجوع {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} لكي يتضرعوا فينيبوا ويتوبوا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَمَا أرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِّيٍ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَها بِالبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ}.
فيه أربعة أقاويل:
أحدها: أن البأساء: القحط، والضراء: الأمراض والشدائد، قاله الحسن.
والثاني: أن البأساء الجوع، والضراء: الفقر، قاله ابن عباس.
والثالث: أن البأساء: البلاء، والضراء الزمانة.
والرابع: أن البأساء: ما نالهم من الشدة في أنفسهم.
والضراء: ما نالهم في أموالهم، حكاه علي بن عيسى.
ويحتمل قولًا خامسًا: أن البأساء الحروب.
{لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: يتوبون.
الثاني: يدعون، قاله ابن عباس. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}.
هذه الآية خبر من الله عز وجل أنه ما بعث نبيًا في مدينة وهي القرية إلا أخذ أهلها المكذبين له {بالبأساء} وهي المصائب في الأموال والهموم وعوارض الزمن، {الضراء} وهي المصاب في البدن كالأمراض ونحوها، هذا قول ابن مسعود وكثير من أهل اللغة، وحكي عن السدي ما يقتضي أن اللفظتين ينقادون إلى الإيمان، وهكذا قولهم الحمى أضرعتني لك. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية}.
قال الزجاج: يقال لكل مدينة: قرية، لاجتماع الناس فيها.
وقال غيره: في الآية اختصار تقديره: فكذبوه.
{إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} وقد سبق تفسير البأساء والضراء في [الأنعام: 42]، وتفسير التضرع في هذه السورة [الأعراف: 55].
ومقصود الآية: إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بسنَّةِ الله في المكذِّبين، وتهديد قريش. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نبي}.
فيه إضمار وحذف تقديره فكذبوه {إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} قال ابن مسعود: البأساء الفقر والضراء المرضى وهو معنى قول الزجاج: فإنه قال البأساء كل ما نالهم من الشدة في أموالهم والضراء كل ما نالهم من الأمراض.
وقيل: البأساء الشدة وضيق العيش والضراء الضر وسوء الحال {لعلهم يضرعون} يعني إنما فعلنا بهم ذلك لكي يتضرعون ويتوبوا والتضرع الخضوع والانقياد لأمر الله عز وجل والمراد من هذه الآية أن الله عز وجل لما عرف نبيه صلى الله عليه وسلم أحوال الأنبياء مع أممهم المكذبة وقص عليه من أخبارهم وعرفه سنته في الأمم الذين خلقوا من قبله وما صاروا إليه من الهلاك والعذاب عرفه في هذه الآية انه قد أرسل رسلًا إلى أمم أخر فكذبوا رسلهم فأخذهم بالبأساء والضراء كما فعل بمن كذب برسله وفيه تخويف وتحذير الكفار قريش وغيرهم من لكفار لينزجروا عما هم عليه من الكفر والتكذيب ثم بين تعالى أنه لا يجري تدبيره في أهل القرى على نمط واحد وسنة واحدة إنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب وهو قوله تعالى: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة} لأن ورود النعمة على البدن والمال بعد الشدة والضيق يستدعي الانقياد للطاعة والاشتغال بالشكر. اهـ.